(الصفحة 51)
والجهل بالموضوع بباب القدرة والعجز ، فكما أنّ القدرة من شرائط الفعليّة لا التنجيز فكذا العلم . ثمّ أورد عليه بالفرق بين القدرة والعلم ; فإنّ القدرة من شرائط ثبوت التكليف وفعليّته والعلم من شرائط التنجيز(1) .
والذي اختاره سيدنا العلاّمة الأُستاذ ـ دام ظلّه ـ أنّ هذاالكلام من المحقّق القمّي(قدس سره) مبنيّ على ما هو المعروف منه من عدم كون العلم الإجمالي منجّزاً أصلا ، وأنّ الشبهة المقرونة لاتكون إلاّ كالشبهة البدويّة(2)، وحينئذفاللازم الرجوع إلى الأصل، وحيث إنّ المستفاد من العبارة الأُولى المانعية ومن الثانية الشرطية ، فالواجب في الصورة الاُولى هو الرجوع إلى البراءة لانحلال الحكم حسب أفراد المانع ، فيؤخذ في المعلوم ويجري في المشكوك الأصل ، والواجب في الصورة الثانية هو الرجوع إلى أصالة الاشتغال لوجوب إحراز الشرط ، ولا يحصل إلاّ بالصلاة في الثوبين مثلا .
ثمّ أورد ـ دام ظلّه ـ على ما أفاده المحقّق المتقدّم في مبنى التفصيل المذكور أوّلا :بأنّ القياس المذكور لا يصحّح التفصيل ; لعدم الفرق بين العجز عن الشرط والعجز عن المانع ، فلو كان مفاد الدليل هو الشرطيّة المطلقة والمانعيّة كذلك فلازمه سقوط الأمر بسبب عدم التمكّن ، وإن لم يكن كذلك فلازمه سقوط الشرط والمانع عن وصفهما ، كما لا يخفى .
وثانياً : بأنّ العلم والقدرة كلاهما من شرائط التنجيز ; لأنّ الأحكام الشرعيّة أحكام قانونيّة مطلقة ، وليست القدرة من شرائطها ، وإلاّ لكان الأصل الجاري مع الشك فيها هو أصل البراءة ، مع أنّ بناءهم على الاحتياط ، مضافاً إلى أ نّه من
- (1) فوائد الاُصول : 4 / 135 .
-
(2) راجع قوانين الاُصول: 2/26 ـ 28; وحكى عنه في فوائد الاُصول: 4/124 ـ 125.
(الصفحة 52)
البعيد أن يكون المستفاد من العبارة الاُولى بنظر المحقّق القمّي(رحمه الله) هو الشرطية بعد
كون جمهور الأصحاب(1) قائلا بالمانعية(2) .
ويمكن أن يقال : إنّ ما أفاده المحقّق القمي(رحمه الله) ليس مبنيّاً على ما هو المعروف منه من عدم ثبوت وصف التنجيز للعلم الإجمالي ، بل على أنّ الدليل المتضمّن لإفادة الشرعية أو المانعية لو كان بصورة الخطاب وبيان التكليف تقتصر في مفاده على خصوص المورد ، الذي يمكن أن يكون التكليف باعثاً إليه أو زاجراً عنه ، فإنّ التكليف في مثل المقام وإن لم يكن تكليفاً نفسياً بل يكون غيريّاً ، إلاّ أ نّه مع ذلك لايفيد الشرطية أو المانعية إلاّ بالمقدار الذي يمكن سعة دائرة التكليف .
ومن الواضح أنّ مثل قوله(عليه السلام) : لا تصلّ فيما لايؤكل لحمه(3) لا يمكن أن يكون زاجراً عن الفرد الذي يشكّ في كونه من مصاديق غير المأكول ، وهذا بخلاف
ما لو كان الدليل مثل قوله(عليه السلام) : لا صلاة إلاّ بطهور(4) الظاهر في عدم تحقّق الماهيّة
بدونه ، كما لا يخفى .
وهذا الذي ذكرناه وإن لم يكن خالياً عن النظر بل المنع ، إلاّ أ نّه يمكن أن يكون وجهاً لما أفاده القمّي(رحمه الله) ، فتأمّل(5) .
- (1) المبسوط: 1/82، جامع المقاصد: 2/81، مفتاح الكرامة: 5/466 وما بعده، جواهر الكلام: 8/75 وما بعده .
-
(2) تهذيب الاُصول : 2 / 372 ـ 373 .
-
(3 ، 4) تقدّما في ص50 .
-
(5) إشارة إلى أنّ هذا الوجه إنّما يصحّح التفصيل في خصوص الشبهات البدوية . وأمّا الشبهات المقرونة ، فعلى تقدير كون العلم الإجمالي منجّزاً ـ كما هو المفروض ـ لا يبقى فيها فرق ، كما أ نّه على هذا التقدير يلزم أن لا يكون الاجتناب فى التكاليف النفسية ـ مثل قوله : لا تشرب الخمر ـ في الشبهات المقرونة منها بالعلم الإجمالى لازماً أيضاً ، كما لا يخفى .
نعم ، يمكن أن يقال بأنّ هذا التفصيل من القمّي(رحمه الله) إنّما هو في خصوص الشبهة البدوية لا الأعمّ منها ومن المقرونة ، فلابدّ من المراجعة إلى كلامه ليظهر الحال ، المؤلّف دام ظلّه .
(الصفحة 53)
الأمر الثالث : إذا كان المعلوم بالإجمال أمرين مترتّبين شرعاً كالظهرين ، واشتبه بعض شرائطهما كالقبلة والستر ، فلا إشكال في جواز الشروع في محتملات الواجب الثاني بعد استيفاء محتملات الأوّل ; سواء كان الشروع في الثاني على طبق الشروع في الأوّل أم لا ، ولا في عدم جواز استيفاء محتملات الثاني قبل استيفاء الأوّل ، ولا في عدم جواز الشروع في محتملات الثاني قبل استيفاء الأوّل على نحو يغاير الشروع في الأوّل كما هو ظاهر ، إنّما الإشكال في جواز الإتيان بهما مترتّباً ، كما إذا صلّى الظهر إلى جهة والعصر إلى تلك الجهة ، ثمّ صلّى الظهر إلى جهة أُخرى والعصر إليها ، وهكذا ، أو صلّى الظهرين قصراً ثمّ تماماً ، أو بالعكس .
والذي اختاره المحقّق النائيني ـ على ما في التقريرات ـ هو عدم الجواز ، بناءً على ما اختاره سابقاً من ترتّب الامتثال الإجمالي على الامتثال التفصيلي وتأخّره عنه(1) ، نظراً إلى أنّ في المقام جهتين :
إحداهما : إحراز القبلة في فرض اشتباهها ، وهو لا يمكن بنحو التفصيل
على ما هو المفروض ، فيجتزئ من جهته بالامتثال الإجمالي .
والأُخرى : إحراز الترتيب بين الصلاتين وهو بمكان من الإمكان ; لجواز الإتيان بجميع محتملات الواجب الأوّل ثمّ الشروع في الثاني . وعليه : يعلم حين الاشتغال بمحتملات العصر بوقوع الظهر قطعاً وحصول الترتيب جزماً ، وعدم العلم بأنّ العصر الواقعي هل هو المحتمل الأوّل أو الوسط أو الأخير إنّما هو للجهل بالقبلة لاالجهل بالترتيب ، وسقوط اعتبار الامتثال التفصيلي بالإضافه إلى شرط ـ لعدم الإمكان ـ لا يوجب سقوط اعتباره بالنسبة إلى ما يمكن من الشرائط كالترتيب في
(الصفحة 54)
المقام ، فلا وجه لرفع اليد عن هذه الجهة الدخيلة في الامتثال(1) ، انتهى ملخّص ما أفاده(قدس سره) .
وأورد عليه سيّدنا العلاّمة الاُستاذ دام ظلّه ـ مضافاً إلى منع المبنى ، نظراً إلى ما عرفت من كون الامتثالين في رتبة واحدة وعدم تأخّر الإجمالي عن التفصيلي ـ بمنع البناء ، نظراً إلى عدم الفرق بين هذه الصورة وبين ما إذا شرع في محتملات الثاني بعد استيفاء الأوّل ، وعدم كون الأمر في المقام دائراً بين الموافقة الإجمالية والتفصيليّة ، وذلك لأنّ كلّ واحد من محتملات العصر لو صادف القبلة فقد أتى قبله بالظهر ويحصل الترتيب واقعاً ، وغير المصادف منها عمل لا طائل تحته كغير المصادف من الآخر ولا ترتيب بينهما .
وبالجملة : الترتيب أمر إضافي يتقوّم بثلاثة أُمور : وجود الظهر ، ووجود العصر ، وتأخّر الثاني عن الأوّل ، ولا مجال لحصول العلم التفصيلي بتحقّق هذا الأمر الإضافي بعد عدم كون العصر معلوماً إلاّ بالإجمال ، فلا فرق بين الصورتين(2) .
وربما يقال : بأنّ الوجه في عدم جواز الشروع في العصر قبل استيفاء محتملات الأوّل ، هو أ نّه قد علم من الشرع بمقتضى الأدلّة(3) أنّ الاشتغال بالعصر إنّما يجوز بعد العلم بالفراغ عن الظهر ، فمع الشك في الفراغ عنه لا يجوز الاشتغال بالأمر المترتّب عليه .
ودعوى أنّ الاشتغال غير الجائز إنّما هو الاشتغال بالعصر الواقعي ، وفي هذه
- (1) فوائد الاُصول : 4 / 138 .
-
(2) تهذيب الاُصول : 2 / 375 ـ 377 .
-
(3) وسائل الشيعة: 4/125 ـ 131 و 156 ـ 162 و 290 ـ 293، كتاب الصلاة، أبواب المواقيت: ب4 و 10 و 63 .
(الصفحة 55)
الصورة لا يعلم كونه هو العصر الواقعي ، بل كونه عصراً يلازم كون السابق ظهراً ، فلا وجه لعدم جواز الاشتغال به .
مدفوعة بأنّ المستفاد من الأدلّة ـ مثل دليل العدول ونحوه(1) ـ أنّ الشارع لم يرض بالاشتغال بصلاة بعنوان أنّها الصلاة اللاحقة إلاّ بعد العلم بفراغ الذمّة عن التكليف بالصلاة السابقة ، فمع الشكّ في الفراغ عن عهدة تكليف الظهر كيف يجوز الشروع في صلاة بعنوان أنّها صلاة العصر ؟ فتدبّر .
الأمر الرابع : قال صاحب العروة بعد حكمه بجواز العمل بالاحتياط ولو كان مستلزماً للتكرار : لكن يجب أن يكون عارفاً بكيفيّة الاحتياط بالاجتهاد أو بالتقليد(2) . وفي المستمسك : هذا شرط للاكتفاء بالاحتياط في نظر العقل ، بل لعلّ عدم المعرفة مانع من حصول الاحتياط فلا يحصل الأمن(3) .
أقول :يرد على المتن أ نّه بعد وضوح عدم كون هذا الوجوب إلاّ وجوباً عقليّاً إرشادياً لا دليل على لزوم المعرفة بكيفيّة الاحتياط من طريق التقليد أو الاجتهاد ، بل اللازم بعد ترك الطريقين هو التوسّل إلى الاحتياط ولو لم يكن عارفاً بكفيّـته ، بل احتاط في الكيفيّة أيضاً .
ألا ترى أ نّه في مثل اشتباه القبلة إذا كان الواجب أمرين مترتّبين شرعاً كالظهرين مثلا ، إذا أراد المصلّي الاحتياط بالصلاة إلى أربع جهات .
فتارة: يعرف من طريق الاجتهاد أو التقليد أنّ اللازم مثلا هو تقديم محتملات الظهر بجميعها ; بأن يأتي بها أوّلا ثمّ يأتي بمحتملات العصر ثانياً .
- (1) وسائل الشيعة: 4/290، كتاب الصلاة، أبواب المواقيت: ب63 ، وص125 ب4 ، و ص156 ب10 .
-
(2) العروة الوثقى : 1/6 مسألة 2 .
-
(3) مستمسك العروة الوثقى : 1 / 7 .