(الصفحة 6)
«باريس» وإقامته فيها مدّة ، ولكنّه في جميع تلك المدّة التي تزيد على خمس عشرة سنة ، خصوصاً في أيّام إقامته بـ«باريس» أيقظ الأُمّة وأرشد الشعب ، وكشف عن جنايات الحكومة والقدرة الحاكمة ، وهداهم إلى طريق المبارزة والقيام في مقابلها ، الذي هو الجهاد من المسلم في مقابل الكفر والزندقة .
ونتيجة تلك الإرشادات تنبّه الاُمّة وخروجهم عن الغفلة ، وتوجّههم إلى ما يجري عليهم حال المملكة من إحاطة الاستعمار على جميع شؤونها وجوانبها ، ونهب المخازن والمعادن والمنابع بأجمعها ، وفي المقابل فقر الاُمّة من جميع الجهات السياسيّة والاقتصادية والدينيّة وغيرها .
وبعد يقظتهم وقيامهم في مقابل الحكومة ، والمظاهرات المتعدّدة المتعاقبة الموجبة للضحايا المتكثّرة ، واستشهاد الذين يبلغ عددهم عشرات الآلاف ، انهدم نظام الحكومة وانفصمت أركان السلطنة ، بحيث اضطرّ من تقمّصها إلى الخروج من المملكة خروجاً لا رجوع بعده أبداً ، وبذلك اختتم دوران الاختناق والاستعمار ، ولكنّه مع ذلك كانت بقاياه مانعة عن تشكيل الحكومة الجمهورية
(الصفحة 7)
الإسلاميّة ، وذلك لأجل منعه عن رجوع الإمام إلى الوطن وإقامته مع الشعب ، ولكنّ الممانعة قد ارتفعت بقيام الاُمّة ومظاهراتهم ، ولو تأخّر رجوعه عن الزمان الذي رجع فيه لخيف على المملكة .
وبعد رجوعه واستقبال عدد كثير خارج عن حدّ العدّ والإحصاء عنه أمر بتشكيل الحكومة المذكورة ، وأمر بمتابعة الناس وإطاعتهم لها ، وبيّن أنّ الإطاعة لها كالإطاعة لمالك الأشتر حين ولاّه الإمام علي(عليه السلام) على مصر .
والاُمّة بعد ذلك قد رأوا أنفسهم في مسير الدين الحنيف ، ومجرى الشريعة المطهّرة ، ومحلاًّ لهداية الكتاب العزيز ، وإن وقعت بعده أيضاً حوادث ناشئة من عروق الاستعمار وبقاياه ، ولكن تلك الحوادث لم تتمكّن من تغيير مسير الاُمّة ، ولم توجب خللا في طريق الحقّ الذي وجدته بعد قرون متعدّدة ، سيّما في القرن الأخير الذي بلغ فيه الاستعمار المرتبة الكاملة والاستثمار حدّاً ليس فوقه حدّ ، فنحمد الله تعالى على هذه النعمة الجارية على الاُمّة ببركة الإمام ، ونسأل منه تعالى إتمامها باستقرار الحكومة الإسلامية بجميع جوانبها وشؤونها ، وقطع بقايا الاستعمار وعروقه ، وأن تتّصل هذه الحكومة بالحكومة المهدوية المنتظرة المسيطرة على جميع أقطار العالم إن شاء الله تعالى .
وأمّا ما يتعلّق بهذا الكتاب متناً وشرحاً . أمّا المتن ، فقد ألّفه الإمام الماتن ـ دام ظلّه ـ كما أفاده في مقدّمته في مملكة تركيا حين ما أُقصي من إيران إليها ، وإن وقع تكميله في النجف الأشرف بعد انتقاله منها إليه .
وأمّا الشرح ، فقد شرعت فيه في بلدة «يزد» ـ المعروفة بدار العبادة والإيمان ـ
(الصفحة 8)
حينما كنت مقيماً فيها بالإقامة الجبرية من ناحية الحكومة الجائرة(1) ، بعدما أقمت في «بندر لنگه» من سواحل الجنوب ما يقرب من أربعة أشهر في أواسط الصيف ، الذي تكون شدّة حرارة الهواء فيها منضمّة إلى شدّة الرطوبة غير قابلة للتحمّل ، ولأجله قد خفت على نفسي مكرّراً ، وبعد الانتقال إلى البلدة المذكورة والإقامة فيها شرعت في شرح الكتاب ، واشتغلت به جميع مدّة إقامتي فيها التي هي أكثر من سنتين ونصف ، ووفّقت في تلك المدّة لتأليف مجلّدات متعدّدة منه ، واستمرّ ذلك بعد تماميّة مدّة الإقامة والرجوع إلى بلدة قم ، إلى أن بلغ إلى الآن إثنى عشر مجلّداً ، نسأل الله تبارك وتعالى التوفيق للإتمام ـ ولعلّه يبلغ أربعين مجلّداً ـ بحقّ النبيّ الصادع للشرع والأئمّة الكرام عليه وعليهم السلام ، وسمّيته بـ «تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة» .
وقد بذلت الجهد في تبيين المطالب بعبارات قريبة إلى الطباع ، وكلمات مقبولة عند السماع من دون إيجاز مخلّ ولا إطناب مملّ ، وأسأل من القرّاء أن ينظروا بعين الإغماض . وأبتهل إلى الله أن يجعله خالصاً لوجهه الكريم ، وأن يثبّتني حين تزلّ الأقدام على الصراط المستقيم ، وأن يجعله تذكرة لي وتبصرة لغيري ، إ نّه خير مسؤول ومجيب .
قم ـ الحوزة العلميّة : محمّد الفاضل اللنكراني
شوّال المكرّم 1399 الهجرية
- (1) لأجل المعارضة معها تبعاً واقتداءً بالإمام .
(الصفحة 9)
وجوب التقليد أو الاحتياط لغير المجتهد
إعلم أنّه يجب على كلّ مكلّف غير بالغ مرتبة الاجتهاد في غير الضروريّات من عباداته ومعاملاته ولو في المستحبّات والمباحات أن يكون إمّا مقلّداً ، أو محتاطاً بشرط أن يعرف موارد الاحتياط، ولا يعرف ذلك إلاّ القليل، فعمل العامّي غير العارف بمواضع الاحتياط من غير تقليد باطل بتفصيل يأتي 1.
1 ـ في هذا المقام جهات من الكلام :
الجهة الاُولى : في بيان المراد من هذا الوجوب ، لا ينبغي الإشكال في أنّ المراد منه هو الوجوب العقلي الذي مرجعه إلى إدراك العقل وحكمه بأ نّه بعد الالتفات إلى أصل التشريع ، وحصول العلم إجمالا بثبوت أحكام إلزاميّة كثيرة في الشريعة المقدّسة ، ولزوم رعايتها والتعرّض لامتثالها ; لعدم كون الناس مهملين في أُمورهم ، مفوّضين إلى اختيارهم ، مضافاً إلى التوعيد الثابت من الشرع قطعاً على ترك التعرّض للامتثال وعدم المبالاة برعاية الأحكام ، يلزم لأجل التخلّص عن ترتّب العقوبة وحصول الأمن من العذاب أن يمشي طريقاً يؤمّنه من ذلك .
فمرجع حكم العقل إلى صحّة عقوبة المولى لتارك هذا الطريق ، وإلزامه إيّاه بالتخلّص عنها لو كان بصدد الفرار عن العقوبة والتخلّص منها ، وعليه : فليس
(الصفحة 10)
الثابت في هذا المقام إلاّ إدراك العقل لذلك كسائر الأحكام العقليّة ، وإلاّ فمن الواضح أ نّه ليس له حكم إلزامي مولويّ أصلا ، كما أ نّه من الواضح أ نّه ليس في المقام حكم وجوبي شرعيّ ، وإن كان في إمكانه كلام يأتي .
ثمّ إنّه يقع الكلام بعد ذلك في أنّ الحكم العقلي المذكور ـ وهو إدراكه لما أفاده في المتن ممّا مرجعه إلى لزوم اختيار أحد الطرق الثلاثة ; من الاجتهاد ، والتقليد، والاحتياط في غير الضروريّات من العبادات والمعاملات ، ولو في المستحبّات والمباحات ـ هل هو على نحو الوجوب التخييري ; بأن كان حاكماً ابتداءً بلزوم التوسّل إلى أحد الأُمور الثلاثة بنحو التخيير ، أو أنّ ما أدرك العقل لزوم مشيه من الطريق هو الأمر الجامع بين هذه الاُمور؟
لا ينبغي الإشكال في أنّ العقل لا يحكم ابتداءً بالتخيير بين الأُمور المختلفة ، بل إلزامه بأحد هذه الاُمور إنّما هو لأجل وجود جامع بينها يكون ذلك الجامع مؤثّراً في حصول الأمن وتحقّق التخلّص . نعم ، الحكم بالتخيير إنّما هو في النظر الثاني ، ولحاظ المحقّقات كما فيما يشابه المقام من الأحكام العقلية .
والظاهر أنّ العقلاء أيضاً لا يتجاوزون عن حدود هذا الحكم العقلي فيما يتعلّق بأُمورهم في الدنيا ; فإنّهم في تلك الأُمور أيضاً إمّا أن يختاروا طريقاً علميّاً موصلا إلى ما هو المهمّ لهم ، وإمّا أن يرجعوا إلى العالم الخبير بذلك الطريق ويقتفوا أثره ، وإمّا أن يختاروا الاحتياط بمشي جميع الطرق المحتملة ورعاية تمام الجوانب .
ثمّ إنّه هل يمكن أن يكون وجوب هذه الأُمور الثلاثة وجوباً شرعيّاً أم لا؟ قد يُقال بعدم الإمكان كما في شرح بعض السادة الأعلام على كتاب «العروة الوثقى» ـ على ما في تقريراته ـ وملخّص ما أفاده في هذا المقام أنّ الوجوب الشرعي إن كان المراد به هو الوجوب النفسي ، فتارة : يكون هذا الوجوب بلحاظ