(الصفحة 212)
مطلقاً وهو ممّا لم يقل به أحد ولا يرتضى به الصدوقان والشيخان ومن تبعهم، هذا تمام الكلام في أدلّة المنع.
وامّا القائل بالجواز الذي عرفت انّه المشهور ـ مضافاً إلى أنّه يكفيه العمومات والإطلاقات وعدم قيام دليل على المنع ـ يمكن له الاستدلال بعدّة روايات:
منها: صحيحة علي بن جعفر(عليه السلام) عن أبي الحسن الأوّل(عليه السلام) قال: سألته عن الرجل يصيب الماء في ساقية أو مستنقع، أيغتسل منه للجنابة أو يتوضّأ منه للصلاة إذا كان لا يجد غيره والماء لا يبلغ صاعاً للجنابة ولا مدّاً للوضوء وهو متفرّق فكيف يصنع وهو يتخوّف أن يكون السباع قد شربت منه؟ فقال: إن كانت يده نظيفة فليأخذ كفّاً من الماء بيد واحدة فلينضحه خلفه، وكفّاً أمامه، وكفّاً عن يمينه، وكفّاً عن شماله، فإن خشي أن لا يكفيه غسل رأسه ثلاث مرّات، ثمّ مسح جلده بيده فإنّ ذلك يجزيه، وإن كان الوضوء غسل وجهه، ومسح يده على ذراعيه ورأسه ورجليه، وإن كان الماء متفرّقاً فقدر أن يجمعه وإلاّ اغتسل من هذا، ومن هذا وإن كان في مكان واحد وهو قليل لا يكفيه لغسله فلا عليه أن يغتسل ويرجع الماء فيه فإنّ ذلك يجزيه. فإنّ قوله(عليه السلام) في ذيل الرواية : «فلا عليه أن يغتسل...» يدلّ على كفاية الاغتسال بالماء ولو رجع فيه غسالة بعض الأعضاء.
هذا ولكن دلالة الرواية على المنع والاستدلال بها عليه أوضح من دلالة سائر روايات المنع وأولى منها للاستدلال بها عليه نظراً إلى أنّ حكمه(عليه السلام) بالنضح باليد إلى الجهات الأربع ليس إلاّ لعلاج رجوع الماء المستعمل فيه وهو لا ينافي الحكم بالاجزاء في الذيل فإنّ ذلك يختص بحال الضرورة فالرواية دليل على المنع لا على الجواز.
هذا ولكن الإنصاف كما عرفت انّ النضح ليس لعلاج رجوع الماء بتقريب انّ
(الصفحة 213)
رش الأرض يوجب سرعة جذبها للماء فإنّ ذلك مخالف للوجدان ضرورة انّ رشّها لو لم يكن مانعاً عن جذب الماء لا يكون موجباً لسرعة الانجذاب قطعاً، وكذلك المراد من النضح ليس هو النضح على البدن ـ كما قيل ـ فإنّ ذلك مناف للأمر به في الوضوء أيضاً كما في رواية الكاهلي قال: سمعت أبا عبدالله(عليه السلام) يقول: إذا أتيت ماء وفيه قلّة فانضح عن يمينك وعن يسارك وبين يديك وتوضّأ.
وهذه الرواية كما أنّها دليل على بطلان احتمال كون النضح على البدن كذلك يدلّ على بطلان احتمال كون النضح مانعاً عن رجوع الماء المستعمل إلى محلّه الأصلي فإنّ النضح لو كان علاجاً للرجوع لكان اللاّزم أن يختص بما إذا اُريد الاغتسال، وامّا إذا اُريد التوضّي فلا; إذ لم يقل أحد بعدم جواز التوضّي بالماء المستعمل في الوضوء وقد عرفت معاملة الأصحاب مع ماء وضوء النبي(صلى الله عليه وآله) .
والذي تحصّل لنا بعد التتبّع في الأخبار والتأمّل فيها انّ النضح إنّما هو في مورد الشكّ في نجاسة الأرض فهو نظير الغسل ـ بالفتح ـ في مقطوع النجاسة كما يظهر بالتتبّع في الأخبار التي تدلّ على الغسل في مورد العلم بالنجاسة والنضح في موضع الشكّ فيها التي منها رواية محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن أبوال الدواب والبغال والحمير فقال: اغسله، فإن لم تعلم مكانه فاغسل الثوب كلّه، فإن شككت فانضحه.
ومنها: رواية علي بن جعفر(عليه السلام) عن أخيه موسى بن جعفر(عليهما السلام) قال: سألته عن الرجل يصيب ثوبه خنزير فلم يغسله فذكر وهو في صلاته كيف يصنع به؟ قال: إن كان دخل في صلاته فليمض، وإن لم يكن دخل في صلاته فلينضح ما أصابه من ثوبه إلاّ أن يكون فيه أثر فيغسله. وغيرهما من الأخبار التي تظهر للمتتبّع.
وبالجملة فلا ينبغي الارتياب في أنّ النضح إنّما يكون مستحبّاً في موارد الشكّ
(الصفحة 214)
في النجاسة، وعليه فالحكم بالنضح في الرواية ـ في المقام ـ لا يدلّ على عدم جواز الاغتسال بالماء المستعمل في رفع الحدث بل نقول: إنّ التأمّل في السؤال يقضي بأنّ محطّ نظر السائل إنّما هو نجاسة الماء القليل الموجود في الساقية أو المستنقع من حيث احتمال شرب السباع منه ولا ارتباط له بمسألة غسالة الجنب أصلاً، فحكم الإمام(عليه السلام)بالنضح إنّما هو لأجل عدم عروض النجاسة الاحتمالية للماء برجوع المياه الملاقية للأرض المشكوكة الطهارة إليه فهو مستحبّ تعبّدي في موارد الشكّ كما عرفت، والحكم بالاجزاء في الذيل مع عدم النضح ورجوع الماء إنّما يدلّ على أنّ استحباب النضح الرافع للقذارة المحتملة إنّما هو فيما إذا تمكّن من الاغتسال بالماء بعد النضح، وامّا في مورد عدم الكفاية مع النضح فلا يستحبّ.
وعلى ما ذكرنا فدلالة الرواية على الجواز تامّة إذ لو كان الاغتسال بالماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر محظوراً أو ممنوعاً شرعاً لكان الواجب على الإمام(عليه السلام) أن يبيّنه ومع عدم البيان وترك الاستفصال يفهم الجواز قطعاً فتدبّر جيّداً.
وبما ذكرنا ظهر فساد ما قد يقال من اختصاص الصحيحة بصورة الاضطرار لقول السائل في صدرها: «إذا كان لا يجد غيره» وعليه فلا يجوز الاغتسال بالماء المستعمل في رفع الحدث في غير صورة الاضطرار ووجدان ماء آخر غيره.
وجه ظهور الفساد انّك عرفت انّ محطّ نظر السائل إنّما هو نجاسة الماء القليل من حيث احتمال شرب السباع منه ولا ارتباط له بالمقام مع أنّ الظاهر انّ التقييد بذلك إنّما هو لأجل تفرّق الماء أوّلاً وعدم كفايته للوضوء والغسل المتعارفين بنحو روعي فيه الاستحباب واستعمال الصاع للجنابة والمدّ للوضوء ثانياً، ومنه ظهر انّ المراد بقوله(عليه السلام) في الذيل: «لا يكفيه لغسله» عدم كفايته لهذا النحو من الغسل فلا يرد عليه انّه مع فرض عدم الكفاية كيف أوجب عليه الغسل فتأمّل.
(الصفحة 215)
وربما يستدلّ على الجواز أيضاً بصحيحة محمد بن مسلم قال: قلت لأبي عبدالله(عليه السلام): الحمّام يغتسل فيه الجنب وغيره اغتسل من مائة؟ قال: لا بأس أن يغتسل منه الجنب، ولقد اغتسلت فيه وجئت فغسلت رجلي، وما غسلتهما إلاّ ممّا لزق بهما من التراب. فإن نفي البأس عن الاغتسال في الحمّام مع اغتسال الجنب فيه دليل على المطلوب وهو الجواز.
ولا يخفى ما في دلالتها فإنّ الظاهر انّ الغسل في الحمّام إنّما هو في خارج الحياض الصغيرة، والمياه المنتضحة منه إليها أو إلى بدن مغتسل آخر لا يوجب المنع عن الاغتسال لأنّ المانع أيضاً لا يمنع من القطرات المنتضحة كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
فالظاهر كون مقصود السائل هو السؤال عن نجاسة الماء بانتضاح القطرات إلى الماء الموجود في الحياض لكون بدن الجنب غالباً مشتملاً على نجاسة، فالمراد بنفي البأس في الجواب نفي النجاسة ومنشأه عدم العلم بكون هذا الجنب بدنه نجساً أوّلاً.
وعدم العلم بانتضاح غسالة النجس إلى الماء الموجود في الحياض ثانياً.
واعتصام ماء الحمّام الذي يكون المراد به هو خصوص المياه الموجودة في الحياض الصغيرة ثالثاً لما عرفت في مطاوي المباحث السابقة انّ ماء الحمّام من جملة المياه المعتصمة وإن لم يقع التعرّض له بعنوانه مستقلاًّ في المتن فتأمّل.
ويؤيّد ما ذكرنا ذيل الرواية الدالّ على أنّ غسل الرجلين ليس لأجل نجاستهما بل لأجل رفع التراب الذي لزق بهما فإنّه يؤيّد كون النظر إنّما هو إلى النجاسة والطهارة لا إلى الماء المستعمل في رفع حدث الجنابة بما أنّه مستعمل فيه.
وقد تحصّل من جميع ما ذكرنا انّ الأقوى هو القول بالجواز لأنّه مضافاً إلى كونه مقتضى الأصل والإطلاقات يدلّ عليه صحيحة علي بن جعفر ـ المتقدّمة ـ وقد
(الصفحة 216)
عرفت انّ أدلّة المانعين بين ما لا يجوز الاعتماد عليه لضعف السند وإن كانت دلالته تامّة كالرواية الاُولى التي كان في سندها أحمد بن هلال، وبين ما لا تتمّ دلالته وإن كان موثوقاً به من حيث السند كأكثر الروايات المتقدّمة فلا محيص عن القول بالجواز.
ثمّ إنّه لو قلنا بالمنع فلا إشكال في اختصاصه بما إذا اغتسل بالماء القليل الذي يصدق عليه عرفاً انّه اغتسل به الرجل لا اغتسل فيه الرجل، فلا إشكال فيما لو اغتسل في الماء الكثير أو القليل بحيث يصدق عرفاً انّه اغتسل فيه، وإن كان يصدق على كلّ ما اغتسل فيه، انّه اغتسل به ـ بحسب اللغة ـ إلاّ انّ العرف يفرّق بينهما والمدار إنّما هو عليه فكلّ ماء صدق عليه انّه اغتسل به الرجل فلا يجوز استعماله في رفع الحدث مطلقاً لأنّ النهي عن التوضّي وأشباهه إنّما هو بهذا الماء كما في رواية ابن سنان المتقدّمة.
ومن هنا يظهر انّه لا بأس بالقطرات المنتضحة من بدن الجنب أو من الأرض في ماء آخر لأنّه لا يصدق عليها انّها اغتسل بها الرجل بعد استهلاكها في ذلك الماء، بل لا اختصاص لذلك بالقطرات، فكلّ مقدار يسير منه إذا اختلط مع ماء كثير بحيث صار مستهلكاً فيه ومعدوماً بنظر العرف فلا إشكال فيه.
بل يمكن أن يقال: إنّه لو امتزج الماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر مع ماء مساو له من حيث المقدار أو أنقص منه في الجملة يجوز استعمال المجموع الممتزج، في رفع الحدث لأنّك عرفت انّ النهي إنّما هو عن استعمال الماء الذي اغتسل به الرجل، ومن المعلوم انّ هذا العنوان لا يصدق على المجموع المختلط فيدخل ذلك في عموم قوله(عليه السلام) في صدر الرواية: «لا بأس بأن يتوضّأ بالماء المستعمل» فيجوز استعماله في رفع الحدث مطلقاً.