قرآن، حديث، دعا |
زندگينامه |
کتابخانه |
احكام و فتاوا |
دروس |
معرفى و اخبار دفاتر |
ديدارها و ملاقات ها |
پيامها |
فعاليتهاى فرهنگى |
کتابخانه تخصصى فقهى |
نگارخانه |
اخبار |
مناسبتها |
صفحه ويژه |
|
البرق خوفا و طمعا و من آياته فيكون عطفا لجملة على جملة و قوله « خوفا و طمعا »
منصوبان على تقدير
مجمع البيان ج : 8 ص : 470 اللام و التقدير لتخافوا خوفا
و لتطمعوا طمعا ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض الجار يتعلق بمحذوف في موضع الحال من
الكاف و الميم أي إذا دعاكم خارجين من الأرض و إن شئت كان وصفا للنكرة أي دعوة
ثابتة من هذه الجهة و لا يجوز أن يتعلق بيخرجون لأن ما بعد إذا لا يعمل فيما قبله .
المعنى ثم عطف سبحانه على ما قدمه من تنبيه العبيد على دلائل التوحيد
فقال « و من آياته أن خلق لكم من أنفسكم » أي جعل لكم من شكل أنفسكم و من جنسكم «
أزواجا » و إنما من سبحانه علينا بذلك لأن الشكل إلى الشكل أميل عن أبي مسلم و قيل
معناه أن حواء خلقت من ضلع آدم (عليه السلام) عن قتادة و قيل إن المراد بقوله « من
أنفسكم » أن النساء خلقن من نطف الرجال « لتسكنوا إليها » أي لتطمئنوا إليها و
تألفوا بها و يستأنس بعضكم ببعض « و جعل بينكم مودة و رحمة » يريد بين المرأة و
زوجها جعل سبحانه بينهما المودة و الرحمة فهما يتوادان و يتراحمان و ما شيء أحب إلى
أحدهما من الآخر من غير رحم بينهما قال السدي المودة المحبة و الرحمة الشفقة « إن
في ذلك » أي في خلق الأزواج مشاكلة للرجال « لآيات » أي لدلالات واضحات « لقوم
يتفكرون » في ذلك و يعتبرون به ثم نبه سبحانه على آية أخرى فقال « و من آياته »
الدالة على توحيده « خلق السماوات و الأرض » و ما فيهما من عجائب خلقه و بدائع صنعه
مثل ما في السماوات من النجوم و الشمس و القمر و جريها في مجاريها على غاية الاتساق
و النظام و ما في الأرض من أنواع الجماد و النبات و الحيوان المخلوقة على وجه
الأحكام « و اختلاف ألسنتكم » فالألسنة جمع لسان و اختلافها هو أن ينشئها الله
تعالى مختلفة في الشكل و الهيأة و التركيب فتختلف نغماتها و أصواتها حتى أنه لا
يشتبه صوتان من نفسين هما إخوان و قيل إن اختلاف الألسنة هو اختلاف اللغات من
العربية و العجمية و غيرهما و لا شيء من الحيوانات تتفاوت لغاتها كتفاوت لغات
الإنسان فإن كانت اللغات توقيفيا من قبل الله تعالى فهو الذي فعلها و ابتدأها و إن
كانت مواضعة من قبل العباد فهو الذي يسرها « و ألوانكم » أي و اختلاف ألوانكم من
البياض و الحمرة و الصفرة و السمرة و غيرها فلا يشبه أحد أحدا مع التشاكل في الخلقة
و ما ذلك إلا للتراكيب البديعة و اللطائف العجيبة الدالة على كمال قدرته و حكمته
حتى لا يشتبه اثنان من الناس و لا يلتبسان مع كثرتهم « إن في ذلك لآيات » أي أدلة
واضحات « للعالمين » أي للمكلفين « و من آياته » الدالة على توحيده و إخلاص العبادة
له « منامكم بالليل و النهار و ابتغاؤكم من فضله » بالنهار و هذا تقديره أي يصرفكم
في طلب المعيشة و المنام و النوم بمعنى واحد و قيل إن الليل و النهار معا وقت للنوم
و وقت لابتغاء الفضل لأن من الناس من
مجمع البيان ج : 8 ص : 471
يتصرف في
كسبه ليلا و ينام نهارا فيكون معناه و من دلائله النوم الذي جعله الله راحة
لأبدانكم بالليل و قد تنامون بالنهار فإذا انتبهتم انتشرتم لابتغاء فضل الله « إن
في ذلك لآيات لقوم يسمعون » ذلك فيقبلونه و يتفكرون فيه لأن من لا يتفكر فيه لا
ينتفع به فكأنه لم يسمعه « و من آياته يريكم البرق خوفا و طمعا » معناه و من
دلالاته أن يريكم النار تنقدح من السحاب يخافه المسافر و يطمع فيه المقيم عن قتادة
و قيل خوفا من الصواعق و طمعا في الغيث عن الضحاك و قيل خوفا من أن يخلف و لا يمطر
و طمعا في المطر عن أبي مسلم « و ينزل من السماء ماء » أي غيثا و مطرا « فيحيي به »
أي بذلك الماء « الأرض بعد موتها » أي بعد انقطاع الماء عنها و جدوبها « إن في ذلك
لآيات لقوم يعقلون » أي للعقلاء المكلفين « و من آياته أن تقوم السماء و الأرض
بأمره » بلا دعامة تدعمها و لا علاقة تتعلق بها بأمره لهما بالقيام كقوله تعالى «
إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون » و قيل بأمره أي بفعله و إمساكه
إلا أن أفعال الله عز اسمه تضاف إليه بلفظ الأمر لأنه أبلغ في الاقتدار فإن قول
القائل أراد فكان أو أمر فكان أبلغ في الدلالة على الاقتدار من أن يقول فعل فكان و
معنى القيام الثبات و الدوام و يقال السوق قائمة « ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض » أي
من القبر عن ابن عباس يأمر الله عز اسمه إسرافيل (عليه السلام) فينفخ في الصور بعد
ما يصور الصور في القبور فيخرج الخلائق كلهم من قبورهم « إذا أنتم تخرجون » من
الأرض أحياء و قيل أنه سبحانه جعل النفخة دعاء لأن إسرافيل يقول أجيبوا داعي الله
فيدعو بأمر الله سبحانه و قيل إن معناه أخرجكم من قبوركم بعد أن كنتم أمواتا فيها
فعبر عن ذلك بالدعاء إذ هو بمنزلة الدعاء و بمنزلة كن فيكون في سرعة تأتي ذلك و
امتناع التعذر و إنما ذكر سبحانه هذه المقدورات على اختلافها ليدل عباده على أنه
القادر الذي لا يعجزه شيء العالم الذي لا يعزب عنه شيء و تدل هذه الآيات على فساد
قول من قال إن المعارف ضرورية لأن ما يعرف ضرورة لا يمكن الاستدلال عليه . وَ
لَهُ مَن فى السمَوَتِ وَ الأَرْضِ كلُّ لَّهُ قَنِتُونَ(26) وَ هُوَ الَّذِى
يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَ لَهُ الْمَثَلُ
الأَعْلى فى السمَوَتِ وَ الأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(27) ضرَب لَكُم
مَّثَلاً مِّنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَت أَيْمَنُكُم مِّن شرَكاءَ
فى مَا رَزَقْنَكمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سوَاءٌ تخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكمْ أَنفُسكُمْ
كذَلِك نُفَصلُ الاَيَتِ لِقَوْم يَعْقِلُونَ(28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظلَمُوا
أَهْوَاءَهُم بِغَيرِ عِلْم فَمَن يهْدِى مَنْ أَضلَّ اللَّهُ وَ مَا لهَُم مِّن
نَّصِرِينَ(29) فَأَقِمْ وَجْهَك لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطرَت اللَّهِ الَّتى فَطرَ
النَّاس عَلَيهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِك الدِّينُ الْقَيِّمُ وَ
لَكِنَّ أَكثرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ(30)
مجمع البيان ج : 8 ص : 472
الإعراب « هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء » لكم الجار و المجرور في
موضع رفع بأنه خبر المبتدأ و المبتدأ من شركاء و من مزيدة و من في قوله « من ما
ملكت أيمانكم » تتعلق بما يتعلق به اللام و يجوز أن يتعلق بمحذوف و يكون في موضع
نصب على الحال و العامل في الحال ما يتعلق به اللام . « فأنتم فيه سواء » جملة
في موضع نصب لأنه جواب قوله « هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء » و تقديره
فتستووا و قوله « تخافونهم » أي تخافون أن يساووكم كخيفتكم مساواة بعضكم بعضا .
حنيفا نصب على الحال . فطرة الله منصوب بمعنى اتبع فطرة الله لأن معنى «
فأقم وجهك للدين القيم » اتبع الدين القيم فيكون بدلا من وجهك في المعنى .
المعنى ثم قال سبحانه بعد أن ذكر الدلالات الدالة على توحيده « و له من
في السماوات و الأرض » من العقلاء يملكهم و يملك التصرف فيهم و إنما خص العقلاء لأن
ما عداهم في حكم التبع لهم ثم أخبر سبحانه عن جميعهم فقال « كل له قانتون » أي كل
له مطيعون في الحياة و البقاء و الموت و البعث و إن عصوا في العبادة عن ابن عباس و
هذا مفسر في سورة البقرة « و هو الذي يبدؤا الخلق ثم يعيده » أي يخلقهم إنشاء و
يخترعهم ابتداء ثم يعيدهم بعد الإفناء فجعل سبحانه ما ظهر من ابتداء خلقه دليلا على
ما خفي من إعادته استدلالا بالشاهد على الغائب ثم أكد ذلك بقوله « و هو أهون عليه »
هو يعود إلى مصدر يعيده فالمعنى و الإعادة أهون و قيل فيه أقوال ( أحدها ) أن معناه
و هو هين عليه كقوله « الله أكبر » أي كبير لا يدانيه أحد في كبريائه و كقول الشاعر
:
مجمع البيان ج : 8 ص : 473
لعمرك ما أدري و إني لأوجل على أينا
تغدو المنية أول فمعنى لأوجل أي وجل و قال الفرزدق : إن الذي سمك السماء بنى
لنا بيتا دعائمه أعز و أطول أي عزيزة طويلة و قد قيل فيه أنه أراد أعز و أطول
من دعائم بيوت العرب و قال آخر : تمنى رجال أن أموت و إن أمت فتلك سبيل لست
فيها بأوحد أي بواحد هذا قول أهل اللغة ( و الثاني ) أنه إنما قال أهون لما تقرر في
العقول إن إعادة الشيء أهون من ابتدائه و معنى أهون أيسر و أسهل و هم كانوا مقرين
بالابتداء فكأنه قال لهم كيف تقرون بما هو أصعب عندكم و تنكرون ما هو أهون عندكم (
الثالث ) إن الهاء في عليه يعود إلى الخلق و هو المخلوق أي و الإعادة على المخلوق
أهون من النشأة الأولى لأنه إنما يقال له في الإعادة كن فيكون و في النشأة الأولى
كان نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظاما ثم كسيت العظام لحما ثم نفخ فيه الروح فهذا على
المخلوق أصعب و الإنشاء يكون أهون عليه و هذا قول النحويين و مثله يروى عن ابن عباس
قال و هو أهون على المخلوق لأنه يقول له يوم القيامة كن فيكون و أما ما يروى عن
مجاهد أنه قال الإنشاء أهون عليه من الابتداء فقوله مرغوب عنه لأنه تعالى لا يكون
عليه شيء أهون من شيء « و له المثل الأعلى » أي و له الصفات العليا « في السماوات و
الأرض » و هي أنه لا إله إلا هو وحده لا شريك له لأنها دائمة يصفه بها الثاني كما
يصفه بها الأول عن قتادة و قيل هي أنه ليس كمثله شيء عن ابن عباس و قيل هي جميع ما
يختص به عز اسمه من الصفات العلى التي لا يشاركه فيها سواه و الأسماء الحسنى التي
تفيد التعظيم كالقاهر و الإله « و هو العزيز » في ملكه « الحكيم » في خلقه ثم احتج
سبحانه على عبدة الأوثان فقال « ضرب لكم » أيها المشركون « مثلا من أنفسكم » أي بين
لكم شبها لحالكم ذلك المثل من أنفسكم ثم بينه فقال « هل لكم من ما ملكت أيمانكم »
أي من عبيدكم و إمائكم « من شركاء فيما رزقناكم » من المال و الأملاك و النعم أي هل
يشاركونكم في أموالكم و هو قوله « فأنتم فيه سواء » أي فأنتم و شركاؤكم من عبيدكم و
إمائكم فيما رزقناكم شرع سواء « تخافونهم » أن يشاركوكم فيما ترثونه من آبائكم «
كخيفتكم أنفسكم » أي كما يخاف الرجل الحر شريكه الحر في المال يكون بينهما أن ينفرد
دونه فيه بأمر و كما يخاف الرجل شريكه في الميراث أن يشاركه لأنه يجب أن ينفرد به
فهو يخاف شريكه يعني أن هذه الصفة لا تكون بين المالكين و المملوكين
مجمع
البيان ج : 8 ص : 474 كما تكون بين الأحرار و معنى أنفسكم هاهنا أمثالكم من
الأحرار كقوله « و لا تلمزوا أنفسكم » و كقوله « ظن المؤمنون و المؤمنات بأنفسهم
خيرا » أي بأمثالهم من المؤمنين و المؤمنات و المعنى أنكم إذا لم ترضوا في عبيدكم
أن يكونوا شركاء لكم في أموالكم و أملاككم فكيف ترضون لربكم أن يكون له شركاء في
العبادة قال سعيد بن جبير لأنه كانت تلبية قريش لبيك اللهم لبيك لا شريك لك إلا
شريكا هو لك تملكه و ما ملك فأنزل الله تعالى الآية ردا عليهم و إنكارا لقولهم «
كذلك » أي كما ميزنا لكم هذه الأدلة « نفصل الآيات » أي الأدلة « لقوم يعقلون »
فيتدبرون ذلك ثم قال سبحانه مبينا لهم أنهم إنما اتبعوا أهواءهم فيما أشركوا به «
بل اتبع الذين ظلموا » أي أشركوا بالله « أهواءهم » في الشرك « بغير علم » يعلمونه
جاءهم من الله « فمن يهدي من أضل الله » أي فمن يهدي إلى الثواب و الجنة من أضله
الله عن ذلك عن الجبائي و قيل معناه من أضل عن الله الذي هو خالقه و رازقه و المنعم
عليه مع ما نصبه له من الأدلة فمن يهديه بعد ذلك عن أبي مسلم قال و هو من قولهم أضل
فلان بعيره بمعنى ضل بعيره عنه قال الشاعر : هبوني امرءا منكم أضل بعيره له
ذمة إن الذمام كثير و إنما المعنى ضل بعيره عنه « و ما لهم من ناصرين » ينصرونهم و
يدفعون عنهم عذاب الله تعالى إذا حل بهم ثم خاطب سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) و المراد جميع المكلفين و قال « فأقم وجهك للدين » أي أقم قصدك
للدين و المعنى كن معتقدا للدين و قيل معناه اثبت و دم على الاستقامة و قيل معناه
أخلص دينك عن سعيد بن جبير و قيل معناه سدد عملك فإن الوجه ما يتوجه إليه و عمل
الإنسان و دينه مما يتوجه الإنسان إليه لتشديده و إقامته « حنيفا » أي مائلا إليه
ثابتا عليه مستقيما فيه لا يرجع عنه إلى غيره « فطرت الله التي فطر الناس عليها »
فطرة الله الملة و هي الدين و الإسلام و التوحيد التي خلق الناس عليها و لها و بها
أي لأجلها و التمسك بها فيكون كقوله « و ما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون » و هو
كما يقول القائل لرسوله بعثتك على هذا و لهذا و بهذا و المعنى واحد و منه قول النبي
(صلى الله عليه وآله وسلّم) كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه هما اللذان
يهودانه و ينصرانه و يمجسانه و قيل معناه اتبع من الدين ما دلك عليه فطرة الله و هو
ابتداء خلقه للأشياء لأنه خلقهم و ركبهم و صورهم على وجه يدل على أن لهم صانعا
قادرا عالما حيا قديما واحدا لا يشبه شيئا و لا يشبهه شيء عن أبي مسلم « لا تبديل
لخلق الله » أي لا تغيير لدين الله الذي أمر الناس بالثبات عليه في التوحيد و العدل
و إخلاص العبادة لله عن الضحاك و مجاهد
مجمع البيان ج : 8 ص : 475 و قتادة
و سعيد بن جبير و إبراهيم و ابن زيد و قالوا أن لا هاهنا بمعنى النهي أي لا تبدلوا
دين الله التي أمرتم بالثبات عليها و قيل المراد به النهي عن الخصاء عن ابن عباس و
عكرمة و قيل معناه لا تبديل لخلق الله فيما دل عليه بمعنى أنه فطرة الله على وجه
يدل على صانع حكيم فلا يمكن أن يجعله خلقا بغير الله حتى يبطل وجه الاستدلال عن أبي
مسلم و المعنى إنما دلت عليه الفطرة لا يمكن فيه التبديل « ذلك الدين القيم » أي
ذلك الدين المستقيم الذي يجب اتباعه « و لكن أكثر الناس لا يعلمون » صحة ذلك
لعدولهم عن النظر فيه . * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَ اتَّقُوهُ وَ أَقِيمُوا
الصلَوةَ وَ لا تَكُونُوا مِنَ الْمُشرِكينَ(31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا
دِينَهُمْ وَ كانُوا شِيَعاً كلُّ حِزْبِ بِمَا لَدَيهِمْ فَرِحُونَ(32) وَ إِذَا
مَس النَّاس ضرُّ دَعَوْا رَبهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُم
مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنهُم بِرَبِّهِمْ يُشرِكُونَ(33) لِيَكْفُرُوا
بِمَا ءَاتَيْنَهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسوْف تَعْلَمُونَ(34) أَمْ أَنزَلْنَا
عَلَيْهِمْ سلْطناً فَهُوَ يَتَكلَّمُ بِمَا كانُوا بِهِ يُشرِكُونَ(35)
القراءة قرأ حمزة و الكسائي فارقوا بالألف و الباقون « فرقوا » و قد مضى
بيانه في سورة الأنعام و في الشواذ قراءة أبي العالية فيمتعوا فسوف يعلمون و معناه
تطول أعمارهم على كفرهم فسوف يعلمون تهديدا على ذلك . اللغة الإنابة
الانقطاع إلى الله بالطاعة فأصله على هذا القطع و منه الناب لأنه قاطع و ينيب في
الأمر إذا نشب فيه كما ينشب الناب القاطع و يجوز أن يكون من ناب ينوب إذا رجع مرة
بعد مرة فتكون الإنابة التوبة التي يجددها مرة بعد مرة و الشيع الفرق و كل فرقة
شيعة على حدة سموا بذلك لأن بعضهم يشيع بعضا على مذهبه فشيعة الحق هم الذين اجتمعوا
على الحق و كذلك شيعة أمير المؤمنين (عليه السلام) هم الذين اجتمعوا معه على الحق .
المعنى ثم قال سبحانه « منيبين إليه » قال الزجاج زعم جميع النحويين أن
معناه فأقيموا وجوهكم منيبين إليه لأن مخاطبة النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) تدخل
معه فيها الأمة
مجمع البيان ج : 8 ص : 476
و الدليل على ذلك قوله « يا أيها
النبي إذا طلقتم النساء » فقوله « فأقم وجهك » معناه فأقيموا وجوهكم منيبين إليه أي
راجعين إلى كل ما أمر به مع التقوى و أداء الفرض و هو قوله « و اتقوه و أقيموا
الصلوة » ثم أخبر سبحانه أنه لا ينفع ذلك إلا بالإخلاص في التوحيد فقال « و لا
تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم » أي لا تكونوا من أهل الشرك من جملة
الذين فرقوا دينهم عن الفراء و يجوز أن يكون قوله « من الذين فرقوا دينهم » « و
كانوا شيعا » ابتداء كلام و معناه الذين أوقعوا في دينهم الاختلاف و صاروا ذوي
أديان مختلفة فصار بعضهم يعبدوننا و بعضهم يعبد نارا و بعضهم شمسا إلى غير ذلك و قد
تقدم تفسيره في سورة الأنعام « كل حزب بما لديهم فرحون » أي كل أهل ملة بما عندهم
من الدين راضون عن مقاتل و قيل كل فريق بدينهم معجبون مسرورون يظنون أنهم على حق «
و إذا مس الناس ضر دعوا ربهم » أي إذا أصابهم مرض أو فقر أو شدة دعوا الله تعالى «
منيبين إليه » أي منقطعين إليه مخلصين في الدعاء له « ثم إذا أذاقهم منه رحمة » بأن
يعافيهم من المرض أو يغنيهم من الفقر أو ينجيهم من الشدة « إذا فريق منهم بربهم
يشركون » أي يعودون إلى عبادة غير الله على خلاف ما يقتضيه العقل من مقابلة النعم
بالشكر ثم بين سبحانه أنهم يفعلون ذلك « ليكفروا بما آتيناهم » من النعم إذ لا غرض
في الشرك إلا كفران نعم الله سبحانه و قيل إن هذه اللام للأمر على معنى التهديد مثل
قوله « فمن شاء فليؤمن و من شاء فليكفر » ثم قال سبحانه يخاطبهم مهددا لهم «
فتمتعوا » بهذه الدنيا و انتفعوا بنعيمها الفاني كيف شئتم « فسوف تعلمون » عاقبة
كفركم « أم أنزلنا عليهم سلطانا » هذا استفهام مستأنف معناه بل أنزلنا عليهم برهانا
و حجة يتسلطون بذلك على ما ذهبوا إليه « فهو يتكلم بما كانوا به يشركون » أي فذلك
البرهان كأنه يتكلم بصحة شركهم و يحتج لهم به و المعنى أنهم لا يقدرون على تصحيح
ذلك و لا يمكنهم ادعاء برهان و حجة عليه . وَ إِذَا أَذَقْنَا النَّاس رَحْمَةً
فَرِحُوا بهَا وَ إِن تُصِبْهُمْ سيِّئَةُ بِمَا قَدَّمَت أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ
يَقْنَطونَ(36) أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسط الرِّزْقَ لِمَن يَشاءُ وَ
يَقْدِرُ إِنَّ فى ذَلِك لاَيَت لِّقَوْم يُؤْمِنُونَ(37) فَئَاتِ ذَا الْقُرْبى
حَقَّهُ وَ الْمِسكِينَ وَ ابْنَ السبِيلِ ذَلِك خَيرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ
وَجْهَ اللَّهِ وَ أُولَئك هُمُ الْمُفْلِحُونَ(38) وَ مَا ءَاتَيْتُم مِّن رِّبًا
لِّيرْبُوَا فى أَمْوَلِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِندَ اللَّهِ وَ مَا ءَاتَيْتُم
مِّن زَكَوة تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئك هُمُ الْمُضعِفُونَ(39) اللَّهُ
الَّذِى خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكمْ ثُمَّ يحْيِيكُمْ هَلْ مِن
شرَكائكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُم مِّن شىْء سبْحَنَهُ وَ تَعَلى عَمَّا
يُشرِكُونَ(40)
مجمع البيان ج : 8 ص : 477
القراءة قرأ ابن كثير و
ما أتيتم من ربا مقصورة الألف غير ممدودة و قرأ الباقون « ما آتيتم » بالمد و قرأ
أهل المدينة و يعقوب و سهل لتربوا بالتاء و ضمها و سكون الواو و الباقون « ليربوا »
بالياء و فتحها و نصب الواو . الحجة قال أبو علي معنى « ما آتيتم من
ربا » ما أتيتم من هدية أهديتموها لتعوضوا ما هو أكثر منه و تكافئوا أزيد منه « فلا
يربوا عند الله » لأنكم إنما قصدتم إلى زيادة العوض فلم تبتغوا في ذلك وجه الله و
مثل هذا في المعنى قوله « و لا تمنن تستكثر » فمن مد آتيتم فلأن المعنى أعطيتم و من
قصر فإنه يؤول في المعنى إلى قول من مد إلا أن أتيتم على لفظ جئتم كما تقول جئت
زيدا فكأنه قال ما جئتم من ربا و مجيئهم لذلك إنما هو على وجه الإعطاء له كما تقول
أتيت الخطأ و أتيت الصواب قال الشاعر : أتيت الذي يأتي السفيه لغرتي إلى أن
علا وخط من الشيب مفرقي فإتيانه الذي يأتيه السفيه إنما هو فعل منه له قال و لم
يختلفوا في مد « و ما آتيتم من زكوة » فهو كقوله « و إيتاء الزكاة » و إن كان لو
قال أتيت الزكاة لجاز أن يعني به فعلتها و لكن الذي جاء منه في التنزيل و في سائر
الكلام الإيتاء و من قرأ « ليربوا » فإن فاعله الربا المذكور في قوله « و ما آتيتم
من ربا » و قدر المضاف و حذفه كأنه في اجتلاب أموال الناس و اجتذابه و نحو ذلك و
كأنه سمي هذا المدفوع على وجه اجتلاب الزيادة ربا و لو قصد به وجه الله لما كان
مجمع البيان ج : 8 ص : 478 العوض فيه الاستزادة على ما أعطي فسمي باسم
الزيادة و الربا هو الزيادة بذلك سمي المحرم المتوعد فاعله و بالزيادة ما يأخذ على
ما أعطى و المدفوع ليس في الحقيقة ربا إنما المحرم الزيادة التي يأخذها زيدا على ما
أعطى فسمي الجميع ربا فكذلك ما أعطاه الواهب و المهدي لاستجلاب الزيادة سمي ربا
لمكان الزيادة المقصودة في المكافاة فوجه « ليربوا في أموال الناس » ليربوا ما
آتيتم فلا يربوا عند الله لأنه لم يقصد به وجه البر و القربة إنما قصد به اجتلاب
الزيادة و لو قصد به وجه الله تعالى لكان كقوله « و ما آتيتم من زكاة تريدون وجه
الله فأولئك هم المضعفون » أي صاروا ذوي أضعاف من الثواب على ما أتوا من الزكاة
يعطون بالحسنة عشرا فله عشر أمثالها و قول نافع لتربوا أي لتصيروا ذوي زيادة فيما
أتيتم من أموال الناس أي تستدعونها و تجتلبونها و كأنه من أربى أي صار ذا زيادة مثل
أقطف و أجرب . المعنى لما تقدم ذكر المشركين عقبه سبحانه بذكر أحوالهم
في البطر عند النعمة و اليأس عند الشدة فقال « و إذا أذقنا الناس رحمة » أي إذا
آتيناهم نعمة من عافية و صحة جسم أو سعة رزق أو أمن و دعة « فرحوا بها » أي سروا
بتلك الرحمة « و إن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم » أي و إن أصابهم بلاء و عقوبة
بذنوبهم التي قدموها و سمي ذلك سيئة توسعا لكونه جزاء على السيئة عن الجبائي و قيل
و إن يصبهم قحط و انقطاع مطر و شدة و سميت سيئة لأنها تسوء صاحبها « إذا هم يقنطون
» أي ييأسون من رحمة الله و إنما قال « بما قدمت أيديهم » و لم يقل بما قدموا على
التغليب للأظهر الأكثر فإن أكثر العمل لليدين و العمل للقلب و إن كان كثيرا فإنه
أخفى ثم نبههم سبحانه على توحيده فقال « أ و لم يروا أن الله يبسط الرزق » أي يوسعه
« لمن يشاء و يقدر » أي و يضيق لمن يشاء على حسب ما تقتضيه مصالح العباد « إن في
ذلك » أي في بسط الرزق لقوم و تضييقه لقوم آخرين « لآيات » أي دلالات « لقوم يؤمنون
» بالله ثم خاطب نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقال « ف آت ذا القربى حقه » أي و
أعط ذوي قرباك يا محمد حقوقهم التي جعلها الله لهم من الأخماس عن مجاهد و السدي و
روى أبو سعيد الخدري و غيره إنه لما نزلت هذه الآية على النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أعطى فاطمة (عليهاالسلام) فدكا و سلمه إليها و هو المروي عن أبي
جعفر (عليه السلام) و أبي عبد الله (عليه السلام) و قيل أنه خطاب له (صلى الله عليه وآله وسلّم) و لغيره و المراد بالقربى قرابة الرجل و هو أمر بصلة الرحم بالمال و
النفس عن الحسن « و المسكين و ابن السبيل » معناه و آت المسكين و المسافر المحتاج
ما فرض الله لهم في مالك « ذلك خير » أي إعطاء الحقوق مستحقيها خير « للذين يريدون
وجه الله » بالإعطاء دون الرياء و السمعة « و أولئك هم المفلحون » أي الفائزون
بثواب الله « و ما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا
مجمع البيان ج
: 8 ص : 479 عند الله » قيل في الربا المذكور في الآية قولان ( أحدهما ) أنه
ربا حلال و هو أن يعطي الرجل العطية أو يهدي الهدية ليثاب أكثر منها فليس فيه أجر و
لا وزر عن ابن عباس و طاووس و هو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام) ( و القول الآخر
) أنه الربا المحرم عن الحسن و الجبائي فعلى هذا يكون كقوله يمحق الله الربا و يربي
الصدقات « و ما آتيتم من زكاة » أي و ما أعطيتموه أهله على وجه الزكاة « تريدون »
بذلك « وجه الله » أي ثواب الله و رضاه و لا تطلبون بها المكافاة « فأولئك هم
المضعفون » أي فأهلها هم المضعفون يضاعف لهم الثواب و قيل المضعفون ذوو الأضعاف في
الحسنات كما يقال رجل مقو أي ذو قوة و موسر أي ذو يسار و قيل هم المضعفون للمال في
العاجل و للثواب في الآجل لأن الله سبحانه جعل الزكاة سببا لزيادة المال و منه
الحديث ما نقص مال من صدقة و قال أمير المؤمنين (عليه السلام) فرض الله تعالى
الصلاة تنزيها عن الكبر و الزكاة تسبيبا للرزق و الصيام ابتلاء لإخلاص الخلق و صلة
الأرحام منماة للعدد في كلام طويل و بدأ سبحانه في الآية بالخطاب ثم ثنى بالخبر و
ذلك معدود في الفصاحة ثم عاد إلى دليل التوحيد فقال « الله الذي خلقكم » أي أوجدكم
و أنشأ خلقكم « ثم رزقكم » أي أعطاكم أنواع النعم « ثم يميتكم » بعد ذلك ليصح
إيصالكم إلى ما عرضكم له من الثواب الدائم « ثم يحييكم » ليجازيكم على أفعالكم « هل
من شركائكم » التي عبدتموها من دونه « من يفعل من ذلكم من شيء » أو يقدر عليه فيجوز
لذلك توجه العبادة إليه ثم نزه سبحانه نفسه عن أن يشرك معه في العبادة فقال «
سبحانه و تعالى عما يشركون » . ظهَرَ الْفَسادُ فى الْبرِّ وَ الْبَحْرِ بِمَا
كَسبَت أَيْدِى النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْض الَّذِى عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ
يَرْجِعُونَ(41) قُلْ سِيرُوا فى الأَرْضِ فَانظرُوا كَيْف كانَ عَقِبَةُ الَّذِينَ
مِن قَبْلُ كانَ أَكثرُهُم مُّشرِكِينَ(42) فَأَقِمْ وَجْهَك لِلدِّينِ الْقَيِّمِ
مِن قَبْلِ أَن يَأْتىَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئذ
يَصدَّعُونَ(43) مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَ مَنْ عَمِلَ صلِحاً
فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ(44) لِيَجْزِى الَّذِينَ ءَامَنُوا وَ عَمِلُوا
الصلِحَتِ مِن فَضلِهِ إِنَّهُ لا يحِب الْكَفِرِينَ(45)
مجمع البيان ج : 8
ص : 480
اللغة الصدع الشق و تصدع القوم تفرقوا قال : و كنا كندماني
جذيمة حقبة من الدهر حتى قيل لن يتصدعا . المعنى ثم ذكر سبحانه ما
أصاب الخلق بسبب ترك التوحيد فقال « ظهر الفساد في البر و البحر » و معناه ظهر قحط
المطر و قلة النبات في البر حيث لا يجري نهر و هو البوادي و البحر و هو كل قرية على
شاطىء نهر عظيم « بما كسبت أيدي الناس » يعني كفار مكة عن ابن عباس و ليس المراد
بالبر و البحر في الآية كل بر و بحر في الدنيا و إنما المراد به حيث ظهر القحط
بدعاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) فعلى هذا يكون التقدير ظهر عقوبة الفساد في
البر و البحر قال الفراء أجدب البر و انقطعت مادة البحر بذنوبهم و كان ذلك ليذوقوا
الشدة في العاجل و يجوز أيضا أن يسمى الهلاك و الخراب فسادا كما يسمى العذاب سوءا و
إن كان ذلك حكمة و عدلا و قيل البر ظهر الأرض و البحر المعروف و الفساد ارتكاب
المعاصي عن أبي العالية و قيل فساد البر قتل قابيل بن آدم أخاه و فساد البحر أخذ
السفينة غصبا عن مجاهد و قيل ولاة السوء في البر و البحر و قيل فساد البر ما يحصل
فيه من المخاوف المانعة من سلوكه و يكون ذلك بخذلان الله تعالى لأهله و العقاب به و
فساد البحر اضطراب أمره حتى لا يكون للعباد متصرف فيه و كل ذلك ليرتدع الخلق عن
معاصيه و قيل البر البرية و البحر الريف و المواضع الخطبة و أصل البر من البر لأنه
يبر بصلاح المقام فيه و كذلك البر لأنه يبر بصلاحه في الغذاء أتم صلاح و أصل البحر
الشق لأنه شق في الأرض ثم كثر فسمي الماء الملح بحرا أنشد ثعلب : و قد عاد عذب
الماء بحرا فزادني على مرضي أن أبحر المشرب العذب
مجمع البيان ج : 8 ص :
481 « بما كسبت أيدي الناس » أي جزاء بما عمله الناس من الكفر و الفسوق و قيل
معناه بسوء أفعالهم و شؤم معاصيهم « ليذيقهم بعض الذي عملوا » أي ليصيبهم الله
بعقوبة بعض أعمالهم التي عملوها من المعاصي « لعلهم يرجعون » أي ليرجعوا عنها في
المستقبل و قيل معناه ليرجع من يأتي بعدهم عن المعاصي « قل » يا محمد « سيروا في
الأرض » ليس بأمر و لكنه مبالغة في العظة و روي عن ابن عباس أنه قال من قرأ القرآن
و عمله سار في الأرض لأن فيه أخبار الأمم « فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل »
من الملوك العاتية و القرون العاصية كيف أهلكهم الله و كيف صارت قصورهم قبورهم و
محاضرهم مقابرهم فلم يبق لهم عين و لا أثر ثم بين أنه فعل ذلك بهم لسوء صنيعهم فقال
« كان أكثرهم مشركين فأقم وجهك للدين القيم » أي استقم للدين المستقيم بصاحبه إلى
الجنة أي لا تعدل عنه يمينا و لا شمالا فإنك متى فعلت ذلك أداك إلى الجنة و هو مثل
قوله ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم و قوله تتقلب فيه القلوب و الأبصار « من قبل أن
يأتي يوم لا مرد له » أي لذلك اليوم و هو يوم القيامة « من الله » أي لا يرده أحد
من الله « يومئذ يصدعون » أي يتفرقون فيه فريق في الجنة و فريق في السعير عن قتادة
و غيره « من كفر فعليه كفره » أي عقوبة كفره لا يعاقب أحد بذنبه « و من عمل صالحا
فلأنفسهم يمهدون » أي يوطئون لأنفسهم منازلهم يقال مهدت لنفسي خيرا أي هيأته و
وطأته و المعنى أن ثواب ذلك يصل إليهم و يتمهد أحوالهم الحسنة عند الله و هذا توسع
يقول من أصلح عمله فكأنه فرش لنفسه في القبر و القيامة و سوى مضجعه و مثواه و روي
منصور بن حازم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال إن العمل الصالح ليسبق صاحبه إلى
الجنة فيمهد له كما يمهد لأحدكم خادمه فراشه « ليجزي الذين آمنوا و عملوا الصالحات
من فضله » أي ليجزيهم على قدر استحقاقهم و يزيدهم من فضله و قيل معناه بسبب فضله
لأنه خلقه و هداه و مكنه و أزاح علته حتى استحق الثواب و قيل من فضله يعني فضلا من
فضله و ثوابا لا ينقطع « إنه لا يحب الكافرين » أي لا يريد كرامتهم و منفعتهم و
إنما يريد عقابهم جزاء على كفرهم . وَ مِنْ ءَايَتِهِ أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ
مُبَشرَت وَ لِيُذِيقَكم مِّن رَّحْمَتِهِ وَ لِتَجْرِى الْفُلْك بِأَمْرِهِ وَ
لِتَبْتَغُوا مِن فَضلِهِ وَ لَعَلَّكمْ تَشكُرُونَ(46) وَ لَقَدْ أَرْسلْنَا مِن
قَبْلِك رُسلاً إِلى قَوْمِهِمْ فجَاءُوهُم بِالْبَيِّنَتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ
الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَ كانَ حَقاًّ عَلَيْنَا نَصرُ الْمُؤْمِنِينَ(47) اللَّهُ
الَّذِى يُرْسِلُ الرِّيَحَ فَتُثِيرُ سحَاباً فَيَبْسطهُ فى السمَاءِ كَيْف يَشاءُ
وَ يجْعَلُهُ كِسفاً فَترَى الْوَدْقَ يخْرُجُ مِنْ خِلَلِهِ فَإِذَا أَصاب بِهِ
مَن يَشاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَستَبْشِرُونَ(48) وَ إِن كانُوا مِن قَبْلِ
أَن يُنزَّلَ عَلَيْهِم مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ(49) فَانظرْ إِلى ءَاثَرِ
رَحْمَتِ اللَّهِ كيْف يحْىِ الأَرْض بَعْدَ مَوْتهَا إِنَّ ذَلِك لَمُحْىِ
الْمَوْتى وَ هُوَ عَلى كلِّ شىْء قَدِيرٌ(50)
مجمع البيان ج : 8 ص : 482
القراءة قرأ أبو جعفر و ابن ذكوان كسفا بسكون السين و الباقون بتحريكها و
قد مضى القول فيه و قرأ ابن عامر و أهل الكوفة غير أبي بكر « إلى آثار » على الجمع
و الباقون أثر بغير الألف على الواحد و روي عن علي (عليه السلام) و ابن عباس و
الضحاك من خلله و عن الجحدري و ابن السميقع و ابن حيوة كيف تحيي بالتاء .
الحجة قال أبو علي الإفراد في أثر لأنه مضاف إلى مفرد و جاز الجمع لأن
رحمة الله يجوز أن يراد به الكثرة كما قال سبحانه و إن تعدوا نعمة الله لا تحصوها و
قوله « كيف يحيي الأرض » يجوز أن يكون فاعل يحيي الضمير العائد إلى أثر و يجوز أن
يكون الضمير العائد إلى اسم الله و هو الأولى و من رد الضمير إلى أثر لزمه أن يقول
تحيي بالتاء إذا قرأ « آثار رحمة الله » فأما من قرأ من خلله فيجوز أن يكون خلل
واحد خلال كجبل و جبال و يجوز أن يكون خلال واحدا عاقب خللا كالصلأ و الصلاء و من
قرأ إلى أثر رحمت الله كيف تحيي بالتاء فإنما جاز ذلك و إن كان لا يجوز أ ما ترى
إلى غلام هند كيف تضرب زيدا بالتاء لأن الرحمة قد يقوم مقامها أثرها و لا يقوم مقام
هند غلامها تقول رأيت عليك النعمة و رأيت عليك أثر النعمة و لا يعبر عن هند بغلامها
. الإعراب « و ليذيقكم » عطف على المعنى و تقديره يرسل الرياح ليبشركم
بها و ليذيقكم و قوله « كيف يشاء » تقديره أي مشيئة يشاء فيكون مفعولا مطلقا ليشاء
و قوله « كيف يحيي الأرض »
مجمع البيان ج : 8 ص : 483 يجوز أن يكون كيف في
موضع نصب على الحال من يحيي و ذو الحال الضمير المستكن في يحيي أو الأرض و التقدير
أ مبدعا يحيي الأرض أم لا أو مبدعه يحيي الأرض أم لا و يجوز أن يكون على تقدير
المصدر أي أي إحياء يحيي الأرض قال ابن جني و الجملة منصوبة الموضع على الحال حملا
على المعنى لا على اللفظ و ذلك أن اللفظ استفهام و الحال ضرب من الخبر و الاستفهام
و الخبر معنيان متدافعان و تلخيص كونها حالا أنه كأنه قال فانظر إلى آثار رحمة الله
محيية للأرض كما أن قوله : ما زلت أسعى بينهم و أختبط حتى إذا جاء الظلام
المختلط جاءوا بضيح هل رأيت الذئب قط فقوله : هل رأيت الذئب قط جملة
استفهامية في موضع وصف لضيح حملا على المعنى دون اللفظ فكأنه قال جاءوا بضيح يشبه
لونه لون الذئب و الضيح اللبن المخلوط بالماء و هو يضرب إلى الخضرة و الطلسة .
المعنى و لما وعد الله سبحانه و أوعد فكان قائلا قال ما أصل ما يجزي
الله عليه بالخير فقيل العبادة و أصل عبادة الله معرفته و معرفته إنما تكون بأفعاله
فقال « و من آياته » أي و من أفعاله الدالة على معرفته « أن يرسل الرياح مبشرات »
بالمطر فكأنها ناطقات بالبشارة لما فيها من الدلالة عليه و إرسال الرياح تحريكها و
إجراؤها في الجهات المختلفة تارة شمالا و تارة جنوبا صبا و أخرى دبورا على حسب ما
يعلم الله في ذلك من المصلحة « و ليذيقكم من رحمته » أي و ليصيبكم من نعمته و هي
الغيث و تقديره أنه يرسل الرياح للبشارة و الإذاقة من الرحمة « و لتجري الفلك » بها
« بأمره و لتبتغوا من فضله » أي و لتطلبوا بركوب السفن الأرياح و قيل لتطلبوا
بالأمطار فيما تزرعونه من فضل الله « و لعلكم تشكرون » نعمة الله تلطف سبحانه بلفظ
لعلكم في الدعاء إلى الشكر كما تلطف في الدعاء إلى البر بقوله من ذا الذي يقرض الله
قرضا حسنا ثم خاطب سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) تسلية له في تكذيب قومه
إياه فقال « و لقد أرسلنا من قبلك » يا محمد « رسلا إلى قومهم فجاؤهم بالبينات » أي
بالمعجزات و الآيات الباهرات و هاهنا حذف تقديره فكذبوهم و جحدوا ب آياتنا فاستحقوا
العذاب « فانتقمنا من
مجمع البيان ج : 8 ص : 484 الذين أجرموا » أي
عاقبناهم بتكذيبهم « و كان حقا علينا نصر المؤمنين » معناه و دفعنا السوء و العذاب
عن المؤمنين و كان واجبا علينا نصرهم بإعلاء الحجة و دفع الأعداء عنهم إلا أنه دل
على المحذوف قوله « و كان حقا علينا نصر المؤمنين » و جاءت الرواية عن أم الدرداء
أنها قالت سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يقول ما من امرىء مسلم يرد عن
عرض أخيه إلا كان حقا على الله أن يرد عنه نار جهنم يوم القيامة ثم قرأ « و كان حقا
علينا نصر المؤمنين » ثم قال سبحانه مفسرا لما أجمله في الآية المتقدمة « الله الذي
يرسل الرياح فتثير سحابا » أي فتهيج سحابا فتزعجه « فيبسطه » الله « في السماء كيف
يشاء » إن شاء بسطه مسيرة يوم و إن شاء بسطه مسيرة يومين و يجريها إلى أي جهة شاء و
إلى أي بلد شاء « و يجعله كسفا » أي قطعا متفرقة عن قتادة و قيل متراكبا بعضه على
بعض حتى يغلظ عن الجبائي و قيل قطعا تغطي ضوء الشمس عن أبي مسلم « فترى الودق » أي
القطر « يخرج من خلاله » أي من خلال السحاب « فإذا أصاب به » أي بذلك الودق « من
يشاء من عباده إذا هم يستبشرون » أي يفرحون و يبشر بعضهم بعضا به « و إن كانوا من
قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين » معناه و إنهم كانوا من قبل إنزال المطر عليهم
قانطين آيسين من نزول المطر عن قتادة و كرر كلمة « من قبل » للتوكيد عن الأخفش و
قيل إن الأول من قبل الإنزال للمطر و الثاني من قبل الإرسال للرياح « فانظر إلى
آثار رحمت الله كيف يحيي الأرض » حتى أنبت شجرا و مرعى « بعد موتها » أي بعد أن
كانت مواتا يابسة جعل الله سبحانه اليبس و الجدوبة بمنزلة الموت و ظهور النبات فيها
بمنزلة الحياة توسعا « أن ذلك لمحي الموتى » أي إن الله تعالى يفعل ما ترون و هو
الله تعالى ليحيي الموتى في الآخرة بعد كونهم رفاتا « و هو على كل شيء قدير » مر
معناه . وَ لَئنْ أَرْسلْنَا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصفَرًّا لَّظلُّوا مِن
بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ(51) فَإِنَّك لا تُسمِعُ الْمَوْتى وَ لا تُسمِعُ الصمَّ
الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ(52) وَ مَا أَنت بِهَدِ الْعُمْىِ عَن
ضلَلَتِهِمْ إِن تُسمِعُ إِلا مَن يُؤْمِنُ بِئَايَتِنَا فَهُم مُّسلِمُونَ(53) *
اللَّهُ الَّذِى خَلَقَكُم مِّن ضعْف ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضعْف قُوَّةً ثُمَّ
جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّة ضعْفاً وَ شيْبَةً يخْلُقُ مَا يَشاءُ وَ هُوَ الْعَلِيمُ
الْقَدِيرُ(54) وَ يَوْمَ تَقُومُ الساعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا
غَيرَ ساعَة كَذَلِك كانُوا يُؤْفَكُونَ(55)
مجمع البيان ج : 8 ص : 485
القراءة قرأ ابن كثير و عباس عن أبي عمرو و لا يسمع الصم و الباقون « و لا
تسمع الصم » و قد ذكرناه في سورة النمل و قرأ عاصم و حمزة من ضعف بالضم و الباقون
بفتح الضاد و قد ذكرناه في سورة الأنفال . الإعراب جواب الشرط من قوله
« و لئن أرسلنا » قد حذف لأنه قد أغنى عنه جواب القسم لأن المعنى في قوله « لظلوا »
ليظلن كما أن قوله « أن أرسلنا » بمعنى أن نرسل فجواب القسم قد ناب عن الأمرين و
كان أحق بالحكم لتقدمه على الشرط و لو تقدم الشرط لكان الجواب له كقولك إن أرسلنا
ريحا فظلوا و الله يكفرون و اللام في قوله « و لئن » يسميها البصريون لام توطئة
القسم و يسميها الكوفيون لام إنذار القسم و المعنى ظل يفعل في صدر النهار و هو
الوقت الذي فيه الظل للشمس . المعنى ثم عاب سبحانه كافر النعمة فقال «
و لئن أرسلنا ريحا » مؤذنة بالهلاك باردة « فرأوه مصفرا » أي فرأوا النبت و الزرع
الذي كان من أثر رحمة الله مصفرا من البرد بعد الخضرة و النضارة و قيل إن الهاء
يعود إلى السحاب و معناه فرأوا السحاب مصفرا لأنه إذا كان كذلك لم يكن فيه مطر «
لظلوا من بعده يكفرون » أي لصاروا من بعد أن كانوا راجين مستبشرين يكفرون بالله و
بنعمته و لم يرضوا بقضاء الله تعالى فيه فعل من جهل صانعه و مدبره و لا يعلم أنه
حكيم لا يفعل إلا الأصلح فيشكر عند النعمة و يصبر عند الشدة ثم قال سبحانه لنبيه
(صلى الله عليه وآله وسلّم) « فإنك لا تسمع » يا محمد « الموتى و لا تسمع الصم الدعاء
» شبه الكفار في ترك تدبرهم فيما يدعوهم إليه النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) تارة
بالأموات و تارة بالصم لأنهم لا ينتفعون بدعاء الداعي فكأنهم لا يسمعونه « إذا ولوا
مدبرين » أي إذا أعرضوا عن أدلتنا ذاهبين إلى الضلال و الفساد غير سالكين سبيل
الرشاد « و ما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم » يعني أنهم كالعمي لا يهتدون بالأدلة و
لا تقدر على ردهم عن العمى إذ لم يطلبوا الاستبصار « إن تسمع إلا من يؤمن ب آياتنا
» ليس تسمع إلا من يصدق ب آياتنا و أدلتنا فإنهم المنتفعون بدعائك و إسماعك « فهم
مسلمون » منقادون لأمر الله ثم عاد سبحانه إلى ذكر الأدلة فقال « الله الذي خلقكم
من ضعف » أي من نطف و قيل معناه خلقكم أطفالا لا تقدرون على البطش و المشي و
التصرفات « ثم جعل من بعد ضعف قوة » أي شبابا « ثم جعل من بعد قوة ضعفا و شيبة »
يعني حال
مجمع البيان ج : 8 ص : 486 الشيخوخة و الكبر « يخلق ما يشاء » من
ضعف و قوة « و هو العليم » بما فيه مصالح خلقه « القدير » على فعله بحسب ما يعلمه
من المصلحة ثم بين سبحانه حال البعث فقال « و يوم تقوم الساعة يقسم المجرمون » أي
يحلف المشركون « ما لبثوا » في القبور « غير ساعة » واحدة عن الكلبي و مقاتل و قيل
يحلفون ما مكثوا في الدنيا غير ساعة لاستقلالهم مدة الدنيا و قيل يحلفون ما لبثوا
بعد انقطاع عذاب القبر غير ساعة عن الجبائي و متى قيل كيف يحلفون كاذبين مع أن
معارفهم في الآخرة ضرورية قيل فيه أقوال ( أحدها ) أنهم حلفوا على الظن و لم يعلموا
لبثهم في القبور فكأنهم قالوا ما لبثنا غير ساعة في ظنوننا عن أبي علي و أبي هاشم (
و ثانيها ) أنهم استقلوا الدنيا لما عاينوا من أمر الآخرة فكأنهم قالوا ما الدنيا
في الآخرة إلا ساعة فاستقلوا حيث اشتغلوا في المدة اليسيرة بما أوردهم تلك الأهوال
الكثيرة ( و ثالثها ) أن ذلك يجوز أن يقع منهم قبل إكمال عقولهم عن أبي بكر بن
الإخشيد « كذلك كانوا يؤفكون » في دار الدنيا أي يكذبون و قيل يصرفون صرفهم جهلهم
عن الحق في الدارين و من استدل في هذه الآية على نفي عذاب القبر فقد أبعد لما بينا
أنه يجوز أن يريدوا أنهم لم يلبثوا بعد عذاب الله إلا ساعة . وَ قَالَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَ الايمَنَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فى كِتَبِ اللَّهِ إِلى
يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَ لَكِنَّكمْ كُنتُمْ لا
تَعْلَمُونَ(56) فَيَوْمَئذ لا يَنفَعُ الَّذِينَ ظلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَ لا
هُمْ يُستَعْتَبُونَ(57) وَ لَقَدْ ضرَبْنَا لِلنَّاسِ فى هَذَا الْقُرْءَانِ مِن
كلِّ مَثَل وَ لَئن جِئْتَهُم بِئَايَة لَّيَقُولَنَّ الَّذِينَ كفَرُوا إِنْ
أَنتُمْ إِلا مُبْطِلُونَ(58) كَذَلِك يَطبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا
يَعْلَمُونَ(59) فَاصبرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقُّ وَ لا يَستَخِفَّنَّك
الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ(60)
القراءة قرأ أهل الكوفة « لا ينفع » بالياء و
الباقون بالتاء و كذلك في حم المؤمن و وافق نافع أهل الكوفة في حم المؤمن .
مجمع البيان ج : 8 ص : 487
الحجة قال أبو علي التأنيث حسن لأن
المعذرة اسم مؤنث و أما التذكير فلأن التأنيث غير حقيقي و قد وقع الفصل بين الفعل و
فاعله و الفصل يحسن التذكير . المعنى ثم أخبر سبحانه عن علماء المؤمنين
في ذلك اليوم فقال « و قال الذين أوتوا العلم و الإيمان » أي آتاهم الله العلم بما
نصب لهم من الأدلة الموجبة له فنظروا فيها فحصل لهم العلم فلذلك أضافه إلى نفسه لما
كان هو الناصب للأدلة على العلوم و التصديق بالله و برسوله « لقد لبثتم » أي مكثتم
« في كتاب الله » و معناه إن لبثكم ثابت في كتاب الله ثبته الله فيه و هو قوله و من
ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون و هذا كما يقال إن كل ما يكون فهو في اللوح المحفوظ أي
هو مثبت فيه و المراد لقد لبثتم في قبوركم « إلى يوم البعث » و قيل إن الذين أوتوا
العلم و الإيمان هم الملائكة و قيل هم الأنبياء و قيل هم المؤمنون و قيل إن هذا على
التقديم و تقديره و قال الذين أوتوا العلم في كتاب الله و هم الذين يعلمون كتاب
الله و الإيمان لقد لبثتم إلى يوم البعث و قال الزجاج « في كتاب الله » أي في علم
الله المثبت في اللوح المحفوظ « فهذا يوم البعث » الذي كنتم تنكرونه في الدنيا « و
لكنكم كنتم لا تعلمون » وقوعه في الدنيا فلم ينفعكم العلم به الآن و يدل على هذا
المعنى قوله « فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا » أنفسهم بالكفر « معذرتهم » فلا يمكنون
من الاعتذار و لو اعتذروا لم يقبل عذرهم « و لا هم يستعتبون » أي لا يطلب منهم
الإعتاب و الرجوع إلى الحق « و لقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل » أي
بالغنا في البيان للمكلفين في هذا القرآن الذي أنزلناه على نبينا من كل مثل يدعوهم
إلى التوحيد و الإيمان « و لئن جئتهم ب آية » أي معجزة باهرة مما اقترحوها منك «
ليقولن الذين كفروا إن أنتم إلا مبطلون » أي أصحاب أباطيل و هذا إخبار عن عناد
القوم و تكذيبهم بالآيات « كذلك » أي مثل ما طبع الله على قلوب هؤلاء « يطبع الله
على قلوب الذين لا يعلمون » توحيد الله و الطبع و الختم مفسران في سورة البقرة «
فاصبر » يا محمد على أذى هؤلاء الكفار و إصرارهم على كفرهم « إن وعد الله حق »
بالعذاب و التنكيل لأعدائك و النصر و التأييد لك و لدينك « و لا يستخفنك » أي لا
يستفزنك « الذين لا يوقنون » بالبعث و الحساب فهم ضالون شاكون و قيل لا يستخفنك أي
لا يحملنك كفر هؤلاء على الخفة و العجلة لشدة الغضب عليهم لكفرهم ب آياتنا فتفعل
خلاف ما أمرت به من الصبر و الرفق عن الجبائي .
مجمع البيان ج : 8 ص : 488
( 31 ) سورة لقمان مكية و آياتها أربع و ثلاثون ( 34 ) مكية عن ابن عباس
سوى ثلاث آيات نزلن بالمدينة و لو أن ما في الأرض من شجرة أقلام إلى آخرهن .
عدد آيها ثلاث و ثلاثون آية حجازي أربع في الباقين .
اختلافها
آيتان « الم » كوفي « مخلصين له الدين » بصري شامي . فضلها أبي بن
كعب عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال و من قرأ سورة لقمان كان لقمان له رفيقا
يوم القيامة و أعطي من الحسنات عشرا بعدد من عمل بالمعروف و عمل بالمنكر و روى محمد
بن جبير العزرمي عن أبيه عن أبي جعفر (عليه السلام) قال من قرأ سورة لقمان في كل
ليلة وكل الله به في ليلته ثلاثين ملكا يحفظونه من إبليس و جنوده حتى يصبح فإن
قرأها بالنهار لم يزالوا يحفظونه من إبليس و جنوده حتى يمسي . تفسيرها
لما ختم الله سورة الروم و بذكر الآيات الدالة على صحة نبوته افتتح هذه السورة
بذكر آيات القرآن فقال : . سورة لقمان بِسمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الم(1) تِلْك ءَايَت الْكِتَبِ الحَْكِيمِ(2) هُدًى وَ رَحْمَةً
لِّلْمُحْسِنِينَ(3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصلَوةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكَوةَ وَ هُم
بِالاَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ(4) أُولَئك عَلى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَ أُولَئك
هُمُ الْمُفْلِحُونَ(5) وَ مِنَ النَّاسِ مَن يَشترِى لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ
عَن سبِيلِ اللَّهِ بِغَيرِ عِلْم وَ يَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئك لهَُمْ عَذَابٌ
مُّهِينٌ(6) وَ إِذَا تُتْلى عَلَيْهِ ءَايَتُنَا وَلى مُستَكبراً كَأَن لَّمْ
يَسمَعْهَا كَأَنَّ فى أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشرْهُ بِعَذَاب أَلِيم(7) إِنَّ
الَّذِينَ ءَامَنُوا وَ عَمِلُوا الصلِحَتِ لهَُمْ جَنَّت النَّعِيمِ(8) خَلِدِينَ
فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَ هُوَ الْعَزِيزُ الحَْكيمُ(9) خَلَقَ السمَوَتِ
بِغَيرِ عَمَد تَرَوْنهَا وَ أَلْقَى فى الأَرْضِ رَوَسىَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَ
بَث فِيهَا مِن كلِّ دَابَّة وَ أَنزَلْنَا مِنَ السمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا
فِيهَا مِن كلِّ زَوْج كَرِيم(10)
مجمع البيان ج : 8 ص : 489
القراءة
قرأ حمزة و رحمة بالرفع و الباقون « و رحمة » بالنصب و قرأ أهل الكوفة غير أبي
بكر و يعقوب « و يتخذها » بالنصب و الباقون بالرفع و قد ذكرنا فيما تقدم أن ابن
كثير و أبا عمرو و يعقوب قرءوا ليضل بفتح الياء و أن نافعا يقرأ الأذن بسكون الذال
كل القرآن . الحجة قال أبو علي و الزجاج وجه النصب في « و رحمة » إنه
انتصب عن الاسم المبهم على الحال أي تلك آيات الكتاب في حال الهداية و الرحمة و
الرفع على إضمار المبتدأ أي هو هدى و رحمة و من رفع و يتخذها جعله عطفا على الفعل
الأول أي من يشتري و يتخذ و من نصب عطفه على « ليضل » « و يتخذها » و أما الضمير في
يتخذها فيجوز أن يكون للحديث لأنه بمعنى الأحاديث و يجوز أن يكون للسبيل لأن السبيل
يؤنث قال قل هذه سبيلي و يجوز أن يكون لآيات الله و قد جرى ذكرها في قوله « تلك
آيات الكتاب » . الإعراب مفعول يضل محذوف أي ليضل الناس بغير علم في
موضع النصب على الحال تقديره ليضل الناس جاهلا أو غير عالم . « كأن لم يسمعها »
الكاف في موضع الحال و كذا قوله « كان في أذنيه وقرا » في موضع الحال أي ولى
مستكبرا مشبها للصم . « لهم جنات النعيم » جنات ترتفع بالظرف على المذهبين لأنه
جر خبرا على المبتدأ . وعد الله مصدر
مجمع البيان ج : 8 ص : 490 فعل
محذوف و حقا صفة للمصدر و تقديره وعد الله وعدا حقا . بغير عمد يجوز أن يكون
غير صفة لمحذوف مجرور بالياء أي بعمد غير عمد ترونها و ترونها جملة في موضع جر
بكونها صفة لعمد أي بغير عمد مرئية و يجوز أن يكون غير بمعنى لا و على الوجهين
يتعلق الباء بخلق و يجوز أن يكون الباء للحال فيكون حالا من السموات و يجوز وجه آخر
و هو أن يتعلق الباء بترون و الجملة في موضع نصب على الحال من خلق فالتقدير خلق
السموات مرئية بغير عمد أن تميد في موضع نصب بأنه مفعول له و تقديره حذر أن تميد و
كراهة أن تميد . النزول نزل قوله « و من الناس من يشتري لهو الحديث »
في النضر بن الحرث بن علقمة بن كلدة بن عبد الدار بن قصي بن كلاب كان يتجر فيخرج
إلى فارس فيشتري أخبار الأعاجم و يحدث بها قريشا و يقول لهم إن محمدا يحدثكم بحديث
عاد و ثمود و أنا أحدثكم بحديث رستم و إسفنديار و أخبار الأكاسرة فيستمعون حديثه و
يتركون استماع القرآن عن الكلبي و قيل نزل في رجل اشترى جارية تغنيه ليلا و نهارا
عن ابن عباس و يؤيده ما رواه أبو أمامة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال لا
يحل تعليم المغنيات و لا بيعهن و أثمانهن حرام و قد نزل تصديق ذلك في كتاب الله
تعالى « و من الناس من يشتري » الآية و الذي نفسي بيده ما رفع رجل عقيرته يتغنى إلا
ارتدفه شيطانان يضربان أرجلهما على صدره و ظهره حتى يسكت . المعنى
«
الم تلك آيات الكتاب الحكيم » تقدم تفسيره « هدى و رحمة للمحسنين » أي بيان و دلالة
و نعمة للمطيعين و قيل للموحدين و قيل للذين يحسنون العمل ثم وصفهم فقال « الذين
يقيمون الصلوة و يؤتون الزكوة » إلى قوله « هم المفلحون » قد مر تفسيره في سورة
البقرة ثم وصف الذين حالهم تخالف حال هؤلاء فقال « و من الناس من يشتري لهو الحديث
» أي باطل الحديث و أكثر المفسرين على أن المراد بلهو الحديث الغناء و هو قول ابن
عباس و ابن مسعود و غيرهما و هو المروي عن أبي جعفر و أبي عبد الله و أبي الحسن
الرضا (عليه السلام) قالوا منه الغناء و روي أيضا عن أبي عبد الله (عليه السلام)
أنه قال هو الطعن بالحق و الاستهزاء به و ما كان أبو جهل و أصحابه يجيئون به إذ قال
يا معشر قريش أ لا أطعمكم من الزقوم الذي يخوفكم به صاحبكم ثم أرسل إلي زبدا و تمرا
فقال هذا هو الزقوم الذي يخوفكم به قال و منه الغناء فعلى هذا فإنه يدخل فيه كل شيء
يلهي عن سبيل الله و عن
مجمع البيان ج : 8 ص : 491 طاعته من الأباطيل و
المزامير و الملاهي و المعارف و يدخل فيه السخرية بالقرآن و اللغو فيه كما قاله أبو
مسلم و الترهات و البسابس على ما قاله عطا و كل لهو و لعب على ما قاله قتادة و
الأحاديث الكاذبة و الأساطير الملهية عن القرآن على ما قاله الكلبي و روى الواحدي
بالإسناد عن نافع عن ابن عمر أنه سمع النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) في هذه الآية
« و من الناس من يشتري لهو الحديث » قال باللعب و الباطل كثير النفقة سمح فيه و لا
تطيب نفسه بدرهم يتصدق به و روي أيضا بالإسناد عن أبي هريرة قال قال رسول الله (صلى
الله عليهوآلهوسلّم) من ملأ مسامعه من غناء لم يؤذن له أن يسمع صوت الروحانيين يوم
القيامة قيل و ما الروحانيون يا رسول الله قال قراء أهل الجنة « ليضل عن سبيل الله
» أي ليضل غيره و من أضل غيره فقد ضل هو و من قرأ بفتح الياء فالمعنى ليصير أمره
إلى الضلال و هو أن لم يكن يشتري للضلال فإنه يصير أمره إلى ذلك قال قتادة يحسب
المرء من الضلالة أن يختار حديث الباطل على حديث الحق و سبيل الله قراءة القرآن و
ذكر الله عن ابن عباس « بغير علم » معناه أنه جاهل فيما يفعله لا يفعل عن علم « و
يتخذها هزوا » أي و يتخذ آيات القرآن هزوا أو و يتخذ سبيل الله هزوا يستهزىء بها «
أولئك لهم عذاب مهين » أي مضل يهينهم الله به « و إذا تتلى عليه آياتنا » أي و إذا
قرىء عليه القرآن « ولى مستكبرا كأن لم يسمعها » أي أعرض عن سماعه إعراض من لا
يسمعه رافعا نفسه فوق مقدارها « كان في أذنيه وقرا » أي كان في مسامعه ثقلا يمنعه
عن سماع تلك الآيات « فبشره » يا محمد « بعذاب أليم » أي مؤلم موجع في القيامة ثم
أخبر سبحانه عن صفة المؤمنين المصدقين فقال « إن الذين آمنوا و عملوا الصالحات لهم
جنات النعيم » يوم القيامة يتنعمون فيها « خالدين فيها » أي مؤبدين في تلك الجنات «
وعد الله حقا » أي وعدا وعده الله حقا لا خلف له « و هو العزيز » في انتقاله «
الحكيم » في جميع أفعاله و أحكامه لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة ثم أخبر سبحانه عن
أفعاله الدالة على توحيده فقال « خلق السموات » أي أنشأها و اخترعها « بغير عمد
ترونها » إذ لو كان لها عمد لرأيتموها لأنها لو كانت تكون أجساما عظاما حتى يصح
منها أن تقل السموات و لو كانت كذلك لاحتاجت إلى عمد آخر فكان يتسلسل فإذا لا عمد
لها و قيل إن المراد بغير عمد مرئية و المعنى أن لها عمدا لا ترونها عن مجاهد و
الصحيح الأول « و ألقى في الأرض رواسي » أي جبالا ثابتة « أن تميد بكم » أي كراهة
أن تميد بكم و قيل لئلا تميد بكم « و بث فيها » أي فرق فيها أي في الأرض « من كل
دابة » تدب على وجهها من أنواع الحيوانات « و أنزلنا من السماء ماء » أي غيثا و
مطرا « فأنبتنا فيها » أي في الأرض بذلك الماء « من كل زوج » أي صنف « كريم » أي
حسن النبتة طيب الثمرة .
مجمع البيان ج : 8 ص : 492
هَذَا خَلْقُ
اللَّهِ فَأَرُونى مَا ذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظلِمُونَ فى ضلَل
مُّبِين(11) وَ لَقَدْ ءَاتَيْنَا لُقْمَنَ الحِْكْمَةَ أَنِ اشكُرْ للَّهِ وَ مَن
يَشكرْ فَإِنَّمَا يَشكُرُ لِنَفْسِهِ وَ مَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنىُّ
حَمِيدٌ(12) وَ إِذْ قَالَ لُقْمَنُ لابْنِهِ وَ هُوَ يَعِظهُ يَبُنىَّ لا تُشرِك
بِاللَّهِ إِنَّ الشرْك لَظلْمٌ عَظِيمٌ(13) وَ وَصيْنَا الانسنَ بِوَلِدَيْهِ
حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْن وَ فِصلُهُ فى عَامَينِ أَنِ اشكرْ لى وَ
لِوَلِدَيْك إِلىَّ الْمَصِيرُ(14) وَ إِن جَهَدَاك عَلى أَن تُشرِك بى مَا لَيْس
لَك بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَ صاحِبْهُمَا فى الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَ
اتَّبِعْ سبِيلَ مَنْ أَنَاب إِلىَّ ثُمَّ إِلىَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكم بِمَا
كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(15)
القراءة قرأ ابن كثير في رواية البزي يا بني لا
تشرك بالله ساكنة الياء يا بني إنها مكسورة الياء يا بني أقم الصلاة مفتوحة الياء و
قرأ في رواية القواس يا بني إنها مكسورة الياء و قرأ ابن فليج يا بني لا تشرك يا
بني إنها مكسورة الياء فيهما يا بني أقم مفتوحة الياء و قرأ حفص « يا بني » بفتح
الياء في كل القرآن و الباقون بكسر الياء في كل القرآن و في الشواذ قراءة عيسى
الثقفي و رواية بعضهم عن أبي عمرو وهنا على وهن بفتح الهاء و قراءة الحسن بخلاف و
أبي رجا و الجحدري و قتادة و يعقوب و فصله في عامين .
الحجة قال أبو
علي من أسكن الياء في الوصل فإنه يجوز أن يكون على قول من قال يا غلام أقبل فلما
وقف قال يا غلام فاسكن للوقف و يكون أجرى الوصل مجرى الوقف و هذا يجيء في الشعر
كقول عمران بن حطان : قد كنت عندك حولا لا تروعني فيه روائع من إنس و من
جان فإنما خفف جان للقافية ثم وصل بحرف الإطلاق و أجرى الوصل مجرى الوقف و هذا
مجمع البيان ج : 8 ص : 493 لا نعلم جاء في الكلام و من قال يا بني إنها فهو
على قولك يا غلام أقبل و من قال « يا بني » بفتح الياء فإنه على قولك يا بنيا فأبدل
ياء الإضافة ألفا و من الكسرة فتحة و على هذا حمل أبو عثمان قوله يا أبت و قد تقدم
ذكر ذلك فيما سلف و من قرأ وهنا على وهن بفتح الهاء فيمكن أن يكون حرك الهاء لأجل
حرف الحلق كقراءة الحسن إلى يوم البعث فهذا يوم البعث بفتح العين و أما الفصل فإنه
أعم من الفصال لأنه يستعمل في الرضاع و غيره و الفصال هاهنا أوجه لأن الموضع مختص
بالرضاع .
الإعراب « فأروني ما ذا خلق الذين من دونه » تقديره أي شيء
خلق فما ذا بمنزلة اسم واحد في موضع نصب بأنه مفعول خلق و الجملة معلقة بأروني .
« أن اشكر لله » قال الزجاج معناه لأن يشكر لله و يجوز أن تكون أن مفسرة فيكون
المعنى أن اشكر لله و تأويل أن اشكر قلنا له اشكر الله على ما أتاك . « حملته
أمه » جملة في موضع النصب على الحال بإضمار قل و العامل في الحال معنى الفعل الذي
يدل عليه قوله « و وصينا الإنسان بوالديه » فإن معناه أمرنا بالإحسان إلى والديه و
حاله أنه كان محمولا لأمه و مثله قوله كيف تكفرون بالله و كنتم أمواتا » أي و حالكم
أنكم كنتم أمواتا . وهنا مصدر فعل محذوف في موضع الحال أي تهن وهنا و قوله «
على وهن » في موضع الصفة لقوله « وهنا » و يجوز أن يتعلق أيضا بالعامل في « وهنا »
و قوله « معروفا » صفة لمصدر محذوف و تقديره مصاحبا معروفا بمعنى مصاحبة معروفة .
المعنى ثم أشار سبحانه إلى ما تقدم ذكره فقال « هذا خلق الله » أي هذا
الذي ذكرت من السموات على عظمها و كبر حجمها و الأرض و ما فيها خلق الله الذي أوجده
و أحدثه « فأروني ما ذا خلق الذين من دونه » يعني آلهتهم التي يعبدونها « بل
الظالمون في ضلال مبين » المعنى أنهم لا يجدون لهذا الكلام جوابا و لا يمكنهم أن
يشيروا إلى شيء هو خلق آلهتهم فلم يحملهم على عبادتهم خلقها لشيء و لكنهم في عدول
ظاهر عن الحق و لما ذكر سبحانه الأدلة الدالة على توحيده و قدرته و حكمته بين عقيب
ذلك قصة لقمان و أنه أعطاه الحكمة فقال « و لقد آتينا لقمان الحكمة » أي أعطيناه
العقل و العلم و العمل به و الإصابة في الأمور و اختلف فيه فقيل إنه كان حكيما و لم
يكن نبيا عن ابن عباس و مجاهد و قتادة و أكثر المفسرين و قيل إنه كان نبيا عن عكرمة
و السدي و الشعبي و فسروا الحكمة هنا بالنبوة و قيل إنه كان عبدا أسود حبشيا غليظ
المشافر مشقوق الرجلين في زمن داود (عليه السلام) و قال له بعض
مجمع البيان ج :
8 ص : 494
الناس أ لست كنت ترعى معنا فقال نعم قال فمن أين أوتيت ما أرى قال
قدر الله و أداء الأمانة و صدق الحديث و الصمت عما لا يعنيني و قيل إنه كان ابن أخت
أيوب عن وهب و قيل كان ابن خالة أيوب عن مقاتل و روي عن نافع عن ابن عمر قال سمعت
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يقول حقا أقول لم يكن لقمان نبيا و لكن كان
عبدا كثير التفكر حسن اليقين أحب الله فأحبه و من عليه بالحكمة كان نائما نصف
النهار إذ جاءه نداء يا لقمان هل لك أن يجعلك الله خليفة في الأرض تحكم بين الناس
بالحق فأجاب الصوت إن خيرني ربي قبلت العافية و لم أقبل البلاء و إن عزم علي فسمعا
و طاعة فإني أعلم أنه إن فعل بي ذلك أعانني و عصمني فقالت الملائكة بصوت لا يراهم
لم يا لقمان قال لأن الحكم أشد المنازل و آكدها يغشاه الظلم من كل مكان إن وقى
فبالحري أن ينجو و إن أخطأ أخطأ طريق الجنة و من يكن في الدنيا ذليلا و في الآخرة
شريفا خير من أن يكون في الدنيا شريفا و في الآخرة ذليلا و من يختر الدنيا على
الآخرة تفته الدنيا و لا يصيب الآخرة فتعجبت الملائكة من حسن منطقه فنام نومة فأعطي
الحكمة فانتبه يتكلم بها ثم كان يؤازر داود بحكمته فقال له داود طوبى لك يا لقمان
أعطيت الحكمة و صرفت عنك البلوى « أن اشكر لله » معناه و قلنا له اشكر لله تعالى
على ما أعطاك من الحكمة « و من يشكر فإنما يشكر لنفسه » أي من يشكر نعمة الله و
نعمة من أنعم عليه فإنه إنما يشكر لنفسه لأن ثواب شكره عائد عليه و يستحق مزيد
النعمة و الزيادة الحاصلة بالشكر تكون له « و من كفر فإن الله غني » عن شكر
الشاكرين « حميد » أي محمود على أفعاله و قيل مستحمد إلى خلقه بالإنعام عليهم و
الشكر لا يكون إلا على نعمة سبقت فهو يقتضي منعما فعلى هذا لا يصح أن يشكر الإنسان
نفسه كما لا يصح أن يكون منعما على نفسه و يجري مجرى الدين في أنه حق لغيره عليه
يلزمه أداؤه فكما لا يصح أن يقرض نفسه فكذلك لا يصح أن ينعم على نفسه « و إذ قال
لقمان لابنه » معناه و اذكر يا محمد إذ قال لقمان لابنه و يجوز أيضا أن يتعلق إذ
بقوله « و لقد آتينا لقمان الحكمة » إذ قال لابنه « و هو يعظه » أي يؤدبه و يذكره
أي في حال ما يعظه « يا بني لا تشرك بالله » أي لا تعدل بالله شيئا في العبادة « إن
الشرك لظلم عظيم » أصل الظلم النقصان و منع الواجب فمن أشرك بالله فقد منع ما وجب
لله عليه من معرفة التوحيد فكان ظالما و قيل إنه ظلم نفسه ظلما عظيما بأن أوبقها «
و وصينا الإنسان بوالديه » لما قدم الأمر بشكر النعمة أتبعه بالتنبيه على وجوب
الشكر لكل منعم فبدأ بالوالدين أي أمرناه بطاعة الوالدين و شكرهما و الإحسان إليهما
و إنما قرن شكرهما بشكره لأنه الخالق المنشىء و هما السبب في الإنشاء و التربية ثم
بين سبحانه زيادة نعمة الأم فقال « حملته أمه وهنا على وهن » معناه ضعفا على ضعف عن
الضحاك و الحسن يعني ضعف
مجمع البيان ج : 8 ص : 495
نطفة الوالد على ضعف
نطفة الأم عن أبي مسلم و قيل لأن الحمل يؤثر فيها فكلما ازداد الحمل ازدادت ضعفا
على ضعف و قيل لأنها ضعيفة الخلقة فازدادت ضعفا بالحمل و قيل وهنا على وهن أي شدة
على شدة و جهدا على جهد عن ابن عباس و قتادة « و فصاله في عامين » أي و فطامه من
الرضاع في انقضاء عامين لأن العامين جملة مدة الرضاع فهو كقوله « يرضعن أولادهن
حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة » و المراد أنها بعد ما تلده ترضعه عامين و
تربيه فتلحقها المشقة بذلك أيضا « أن اشكر لي و لوالديك » هذا تفسير قوله « و وصينا
الإنسان » أي وصيناه بشكرنا و شكر والديه فشكر الله سبحانه بالحمد و الطاعة و شكر
الوالدين بالبر و الصلة « إلي المصير » و فيه تهديد أي إلي مرجعكم فأجازيكم على حسب
أعمالكم « و إن جاهداك » أيها الإنسان أي جاهداك والداك « على أن تشرك بي » معبودا
آخر فلا تطعهما و هو قوله « ما ليس لك به علم » لأن ما يكون حقا تعلم صحته فما لا
تعلم صحته فهو باطل فكأنه قال فإن دعواك إلى باطل « فلا تطعهما » في ذلك « و
صاحبهما في الدنيا معروفا » أي و أحسن إليهما و ارفق بهما في الأمور الدنيوية و إن
وجبت مخالفتهما في أبواب الدين لمكان كفرهما « و اتبع سبيل من أناب إلي » أي و اسلك
طريقة من رجع إلى طاعتي و أقبل إلي بقلبه و هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) و
المؤمنون قال « ثم إلي » أي إلى حكمي « مرجعكم » و منقلبكم « فأنبئكم » أي أخبركم «
بما كنتم تعملون » في دار الدنيا من الأعمال و أجازيكم عليها بحسبها .
[
فصل في ذكر نبذ من حكم لقمان ] ذكر في التفسير أن مولاه دعاه فقال اذبح شاة
فأتني بأطيب مضغتين منها فذبح شاة و أتاه بالقلب و اللسان فسأله عن ذلك فقال إنهما
أطيب شيء إذا طابا و أخبث شيء إذا خبثا و قيل إن مولاه دخل المخرج فأطال فيه الجلوس
فناداه لقمان أن طول الجلوس على الحاجة يفجع منه الكبد و يورث منه الباسور و يصعد
الحرارة إلى الرأس فاجلس هونا و قم هونا قال فكتب حكمته على باب الحش . قال عبد
الله بن دينار قدم لقمان من سفر فلقي غلامه في الطريق فقال ما فعل أبي قال مات قال
ملكت أمري قال ما فعلت امرأتي قال ماتت قال جدد
|