قرآن، حديث، دعا |
زندگينامه |
کتابخانه |
احكام و فتاوا |
دروس |
معرفى و اخبار دفاتر |
ديدارها و ملاقات ها |
پيامها |
فعاليتهاى فرهنگى |
کتابخانه تخصصى فقهى |
نگارخانه |
اخبار |
مناسبتها |
صفحه ويژه |
|
حين التحقق غير
إرادي و غير اختياري لزم تخلف إرادته تعالى عن مراده و هو محال، فما ذهب إليه
المجبرة من الأشاعرة من أن تعلق الإرادة الإلهية بالأفعال الإرادية يوجب بطلان
تأثير الإرادة و الاختيار فاسد جدا، فالحق الحقيق بالتصديق أن الأفعال
الإنسانية لها نسبة إلى الفاعل و نسبة إلى الواجب و إحدى النسبتين لا توجب
بطلان الأخرى لكونهما طوليتين لا عرضيتين.
الثاني: أن الأفعال كما أن لها استنادا إلى عللها التامة و قد عرفت أن هذه
النسبة ضرورية وجوبية كسائر الموجودات المنسوبة إلى عللها التامة بالوجوب كذلك
لها استنادا إلى بعض أجزاء عللها التامة كالإنسان مثلا، و قد عرفت أن هذه
النسبة بالإمكان فكون فعل من الأفعال ضروري الوجود بملاحظة علته التامة
الضرورية لا يوجب عدم كون هذا الفعل ممكنا بنظر آخر، إذ النسبتان ثابتتان و هما
غير متنافيتين كما مر فما ذكره جمع من الماديين من فلاسفة العصر الحاضر من شمول
الجبر لنظام الطبيعة و إنكار الاختيار باطل جدا بل الحق أن الحوادث بالنسبة إلى
عللها التامة واجبة الوجود بالنسبة إلى موادها و أجزاء عللها ممكنة الوجود، و
هذا هو الملاك في أعمال الإنسان و أفعاله فبناؤه في جميع مواقف عمله على أساس
الرجاء و التربية و التعليم و نحو ذلك، و لا معنى لابتناء الواجبات و الضروريات
على التربية و التعليم، و لا الركون إلى الرجاء فيها و هو ظاهر.
2 سورة البقرة - 28 - 29
كَيْف تَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَ كنتُمْ أَمْوَتاً فَأَحْيَكُمْ ثُمّ يُمِيتُكُمْ
ثُمّ يحْيِيكُمْ ثُمّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) هُوَ الّذِى خَلَقَ لَكُم مّا
فى الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمّ استَوَى إِلى السمَاءِ فَسوّاهُنّ سبْعَ سمَوَتٍ وَ
هُوَ بِكلِّ شىْءٍ عَلِيمٌ (29)
بيان
رجوع ثان إلى ما في بدء الكلام فإنه تعالى بعد ما بين في أول السورة ما بين
أوضحه بنحو التلخيص بقوله: يا أيها الناس اعبدوا ربكم إلى بضع آيات، ثم رجع
إليه ثانيا و أوضحه بنحو البسط و التفصيل بقوله: كيف تكفرون إلى اثنتي عشرة
آية، ببيان حقيقة الإنسان و ما أودعه الله تعالى فيه من ذخائر الكمال و ما تسعه
دائرة وجوده و ما يقطعه هذا الموجود في مسير وجوده من منازل موت و حياة ثم موت
ثم حياة ثم رجوع إلى الله سبحانه و إن إلى ربك المنتهى و فيه ذكر جمل ما خص
الله تعالى به الإنسان من مواهب التكوين و التشريع، أنه كان ميتا فأحياه، ثم لا
يزال يميته و يحييه حتى يرجعه إليه، و قد خلق له ما في الأرض و سخر له السماوات
و جعله خليفته في الأرض و أسجد له ملائكته و أسكن أباه الجنة و فتح له باب
التوبة و أكرمه بعبادته و هدايته، و هذا هو المناسب لسياق قوله: كيف تكفرون
بالله و كنتم أمواتا فأحياكم إلخ، فإن السياق سياق العتبى و الامتنان.
قوله تعالى: كيف تكفرون بالله و كنتم أمواتا.
الآية قريبة السياق من قوله تعالى: "قالوا ربنا أمتنا اثنتين و أحييتنا اثنتين
فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل:" المؤمن - 11، و هذه من الآيات التي
يستدل بها على وجود البرزخ بين الدنيا و الآخرة، فإنها تشتمل على إماتتين، فلو
كان إحداهما الموت الناقل من الدنيا لم يكن بد في تصوير الإماتة الثانية من فرض
حياة بين الموتين و هو البرزخ، و هو استدلال تام اعتني به في بعض الروايات
أيضا، و ربما ذكر بعض المنكرين للبرزخ أن الآيتين أعني قوله: كيف تكفرون الآية،
و قوله: قالوا ربنا الآية، متحدتا السياق، و قد اشتملتا على موتين و حياتين،
فمدلولهما واحد، و الآية الأولى ظاهرة في أن الموت الأول هو حال الإنسان قبل
ولوج الروح في الحياة الدنيا، فالموت و الحياة الأوليان هما الموت قبل الحياة
الدنيا و الحياة الدنيا، و الموت و الحياة الثانيتان هما الموت عن الدنيا و
الحياة يوم البعث، و المراد بالمراتب في الآية الثانية هو ما في الآية الأولى،
فلا معنى لدلالتها على البرزخ، و هو خطأ فإن الآيتين مختلفتان سياقا إذ المأخوذ
في الآية الأولى موت واحد و إماتة واحدة و إحيائان، و في الآية الثانية إماتتان
و إحيائان، و من المعلوم أن الإماتة لا يتحقق لها مصداق من دون سابقة حياة
بخلاف الموت، فالموت الأول في الآية الأولى غير الإماتة الأولى في الآية
الثانية، فلا محالة في قوله تعالى، أمتنا اثنتين و أحييتنا اثنتين، الإماتة
الأولى هي التي بعد الدنيا و الإحياء الأول بعدها للبرزخ و الإماتة و الإحياء
الثانيتان للآخرة يوم البعث، و في قوله تعالى.
و كنتم أمواتا فأحياكم إنما يريد الموت قبل الحياة و هو موت و ليس بإماتة و
الحياة هي الحياة الدنيا، و في قوله تعالى: ثم إليه ترجعون حيث فصل بين الإحياء
و الرجوع بلفظ ثم تأييد لما ذكرنا هذا.
قوله تعالى: و كنتم أمواتا، بيان حقيقة الإنسان من حيث وجوده فهو وجود متحول
متكامل يسير في مسير وجوده المتبدل المتغير تدريجا و يقطعه مرحلة مرحلة، فقد
كان الإنسان قبل نشأته في الحياة الدنيا ميتا ثم حيي بإحياء الله ثم يتحول
بإماتة و إحياء و هكذا و قد قال سبحانه: "و بدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله
من سلالة من ماء مهين ثم سواه و نفخ فيه من روحه:" السجدة - 9، و قال تعالى:
"ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين:" المؤمنون - 14، و قال تعالى،
"و قالوا أ إذا ضللنا في الأرض أ إنا لفي خلق جديد، بل هم بلقاء ربهم كافرون.
قل يتوفيكم ملك الموت الذي وكل بكم:" السجدة - 11، و قال تعالى.
"منها خلقناكم و فيها نعيدكم و منها نخرجكم تارة أخرى:" طه - 55.
و الآيات كما ترى و سنزيدها توضيحا في محالها تدل على أن الإنسان جزء من الأرض
غير مفارقها و لا مباين معها، انفصل منها ثم شرع في التطور بأطواره حتى بلغ
مرحلة أنشىء فيها خلقا آخر، فهو المتحول خلقا آخر و المتكامل بهذا الكمال
الجديد الحديث، ثم يأخذ ملك الموت هذا الإنسان من البدن نوع أخذ يستوفيه ثم
يرجع إلى الله سبحانه، فهذا صراط وجود الإنسان.
ثم إن الإنسان صاغه التقدير صوغا يرتبط به مع سائر الموجودات الأرضية و
السماوية من بسائط العناصر و قواها المنبجسة منها و مركباتها من حيوان و نبات و
معدن و غير ذلك من ماء أو هواء و ما يشاكلها، و كل موجود من الموجودات الطبيعية
كذلك، أي إنه مفطور على الارتباط مع غيره ليفعل و ينفعل و يستبقي به موهبة
وجوده غير أن نطاق عمل الإنسان و مجال سعيه أوسع كيف؟ و هذا الموجود الأعزل على
أنه يخالط الموجودات الآخر الطبيعية بالقرب و البعد و الاجتماع و الافتراق
بالتصرفات البسيطة لغاية مقاصده البسيطة في حياته، فهو من جهة - تجهيزه
بالإدراك و الفكر يختص بتصرفات خارجة عن طوق سائر الموجودات بالتفصيل و التركيب
و الإفساد و الإصلاح، فما من موجود إلا و هو في تصرف الإنسان، فزمانا يحاكي
الطبيعة بالصناعة فيما لا يناله من الطبيعة و زمانا يقاوم الطبيعة بالطبيعة، و
بالجملة فهو مستفيد لكل غرض من كل شيء، و لا يزال مرور الدهور على هذا النوع
العجيب يؤيده في تكثير تصرفاته و تعميق أنظاره ليحق الله الحق بكلماته، و ليصدق
قوله: "سخر لكم ما في السموات و ما في الأرض جميعا منه": الجاثية - 13، و قوله:
"ثم استوى إلى السماء": البقرة - 29.
و كون الكلام واقعا موقع بيان النعم لتمام الامتنان يعطي أن يكون الاستواء إلى
السماء لأجل الإنسان فيكون تسويتها سبعا أيضا لأجله، و عليك بزيادة التدبر فيه.
فذاك الذي ذكرناه من صراط الإنسان في مسير وجوده، و هذا الذي ذكرناه من شعاع
عمله في تصرفاته في عالم الكون هو الذي يذكره سبحانه من العالم الإنساني و من
أين يبتدي و إلى أين ينتهي.
غير أن القرآن كما يعد مبدأ حياته الدنيوية آخذة في الشروع من الطبيعة الكونية
و مرتبطة بها أحيانا كذلك يربطها بالرب تعالى و تقدس، فقال تعالى: "و قد خلقتك
من قبل و لم تك شيئا": مريم - 8، و قال تعالى: "إنه هو يبدىء و يعيد": البروج -
13، فالإنسان و هو مخلوق مربى في مهد التكوين مرتضع من ثدي الصنع و الإيجاد
متطور بأطوار الوجود يرتبط سلوكه بالطبيعة الميتة، كما أنه من جهة الفطر و
الإبداع مرتبط متعلق بأمر الله و ملكوته، قال تعالى: "إنما أمره إذا أراد شيئا
أن يقول له كن فيكون": يس - 82، و قال تعالى: "إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن
نقول له كن فيكون": النحل - 40، فهذا من جهة البدء و أما من جهة العود و الرجوع
فيعد صراط الإنسان متشعبا إلى طريقين طريق السعادة و طريق الشقاوة، فأما طريق
السعادة فهو أقرب الطرق يأخذ في الانتهاء إلى الرفيع الأعلى و لا يزال يصعد
الإنسان و يرفعه حتى ينتهي به إلى ربه، و أما طريق الشقاوة فهو طريق بعيد يأخذ
في الانتهاء إلى أسفل السافلين حتى ينتهي إلى رب العالمين، و الله من ورائهم
محيط، و قد مر بيان ذلك في ذيل قوله تعالى: اهدنا الصراط المستقيم من سورة
الفاتحة.
فهذا إجمال القول في صراط الإنسان، و أما تفصيل القول في حياته قبل الدنيا و
فيها و بعد الدنيا فسيأتي كل في محله، غير أن كلامه تعالى إنما يتعرض لذلك من
جهة ارتباطه بالهداية و الضلال و السعادة و الشقاء، و يطوي البحث عما دون ذلك
إلا بمقدار يماس غرض القرآن المذكور.
و قوله تعالى: فسويهن سبع سموات، سيأتي الكلام في السماء في سورة حم السجدة إن
شاء الله تعالى.
2 سورة البقرة - 30 - 33
وَ إِذْ قَالَ رَبّك لِلْمَلَئكَةِ إِنى جَاعِلٌ فى الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا
أَ تجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَ يَسفِك الدِّمَاءَ وَ نحْنُ نُسبِّحُ
بحَمْدِك وَ نُقَدِّس لَك قَالَ إِنى أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ (30) وَ
عَلّمَ ءَادَمَ الأَسمَاءَ كلّهَا ثُمّ عَرَضهُمْ عَلى الْمَلَئكَةِ فَقَالَ
أَنبِئُونى بِأَسمَاءِ هَؤُلاءِ إِن كُنتُمْ صدِقِينَ (31) قَالُوا سبْحَنَك لا
عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلّمْتَنَا إِنّك أَنت الْعَلِيمُ الحَْكِيمُ (32)
قَالَ يَئَادَمُ أَنبِئْهُم بِأَسمَائهِمْ فَلَمّا أَنبَأَهُم بِأَسمَائهِمْ
قَالَ أَ لَمْ أَقُل لّكُمْ إِنى أَعْلَمُ غَيْب السمَوَتِ وَ الأَرْضِ وَ
أَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَ مَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ (33)
بيان
الآيات تنبىء عن غرض إنزال الإنسان إلى الدنيا و حقيقة جعل الخلافة في الأرض و
ما هو آثارها و خواصها، و هي على خلاف سائر قصصه لم يقع في القرآن إلا في محل
واحد و هو هذا المحل.
قوله تعالى: و إذ قال ربك إلخ، سيأتي الكلام في معنى القول منه تعالى و كذا
القول من الملائكة و الشيطان إن شاء الله.
قوله تعالى: "قالوا أ تجعل فيها من يفسد فيها و يسفك الدماء، إلى قوله. و نقدس
لك.
مشعر بأنهم إنما فهموا وقوع الإفساد و سفك الدماء من قوله سبحانه. إني جاعل في
الأرض خليفة، حيث إن الموجود الأرضي بما أنه مادي مركب من القوى الغضبية و
الشهوية، و الدار دار التزاحم، محدودة الجهات، وافرة المزاحمات، مركباتها في
معرض الانحلال، و انتظاماتها و إصلاحاتها في مظنة الفساد و مصب البطلان، لا تتم
الحياة فيها إلا بالحياة النوعية، و لا يكمل البقاء فيها إلا بالاجتماع و
التعاون، فلا تخلو من الفساد و سفك الدماء، ففهموا من هناك أن الخلافة المرادة
لا تقع في الأرض إلا بكثرة من الأفراد و نظام اجتماعي بينهم يفضي بالآخرة إلى
الفساد و السفك، و - الخلافة - و هي قيام شيء مقام آخر لا تتم إلا بكون الخليفة
حاكيا للمستخلف في جميع شئونه الوجودية و آثاره و أحكامه و تدابيره بما هو
مستخلف، و الله سبحانه في وجوده مسمى بالأسماء الحسنى متصف بالصفات العليا، من
أوصاف الجمال و الجلال، منزه في نفسه عن النقص و مقدس في فعله عن الشر و الفساد
جلت عظمته، و الخليفة الأرضي بما هو كذلك لا يليق بالاستخلاف و لا يحكي بوجوده
المشوب بكل نقص و شين الوجود الإلهي المقدس المنزه عن جميع النقائص و كل
الأعدام، فأين التراب و رب الأرباب، و هذا الكلام من الملائكة في مقام تعرف ما
جهلوه و استيضاح ما أشكل عليهم من أمر هذا الخليفة، و ليس من الاعتراض و
الخصومة في شيء، و الدليل على ذلك قولهم فيما حكاه الله تعالى عنهم: إنك أنت
العليم الحكيم حيث صدر الجملة بإن التعليلية المشعرة بتسلم مدخولها فافهم،
فملخص قولهم يعود إلى أن جعل الخلافة إنما هو لأجل أن يحكي الخليفة مستخلفه
بتسبيحه بحمده و تقديسه له بوجوده، و الأرضية لا تدعه يفعل ذلك بل تجره إلى
الفساد و الشر، و الغاية من هذا الجعل و هي التسبيح و التقديس بالمعنى الذي مر
من الحكاية حاصلة بتسبيحنا بحمدك و تقديسنا لك، فنحن خلفاؤك أو فاجعلنا خلفاء
لك، فما فائدة جعل هذه الخلافة الأرضية لك؟ فرد الله سبحانه ذلك عليهم بقوله:
إني أعلم ما لا تعلمون و علم آدم الأسماء كلها.
و هذا السياق: يشعر أولا: بأن الخلافة المذكورة إنما كانت خلافة الله تعالى، لا
خلافة نوع من الموجود الأرضي كانوا في الأرض قبل الإنسان و انقرضوا ثم أراد
الله تعالى أن يخلفهم بالإنسان كما احتمله بعض المفسرين، و ذلك لأن الجواب الذي
أجاب سبحانه به عنهم و هو تعليم آدم الأسماء لا يناسب ذلك، و على هذا فالخلافة
غير مقصورة على شخص آدم (عليه السلام) بل بنوه يشاركونه فيها من غير اختصاص، و
يكون معنى تعليم الأسماء إيداع هذا العلم في الإنسان بحيث يظهر منه آثاره
تدريجا دائما و لو اهتدى إلى السبيل أمكنه أن يخرجه من القوة إلى الفعل، و يؤيد
عموم الخلافة قوله تعالى "إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح": الأعراف - 69، و و
قوله تعالى "ثم جعلناكم خلائف في الأرض": يونس - 14، و قوله تعالى "و يجعلكم
خلفاء الأرض": النمل - 62.
و ثانيا: إنه سبحانه لم ينف عن خليفة الأرض الفساد و سفك الدماء، و لا كذب
الملائكة في دعويهم التسبيح و التقديس، و قررهم على ما ادعوا، بل إنما أبدى
شيئا آخر و هو أن هناك أمرا لا يقدر الملائكة على حمله و لا تتحمله و يتحمله
هذا الخليفة الأرضي فإنه يحكي عن الله سبحانه أمرا و يتحمل منه سرا ليس في وسع
الملائكة، و لا محالة يتدارك بذلك أمر الفساد و سفك الدماء، و قد بدل سبحانه
قوله: قال إني أعلم ما لا تعلمون ثانيا بقوله: أ لم أقل لكم إني أعلم غيب
السموات و الأرض، و المراد بهذا الغيب هو الأسماء لا علم آدم بها فإن الملائكة
ما كانت تعلم أن هناك أسماء لا يعلمونها، لا أنهم كانوا يعلمون وجود أسماء كذلك
و يجهلون من آدم أنه يعلمها، و إلا لما كان لسؤاله تعالى إياهم عن الأسماء وجه
و هو ظاهر بل كان حق المقام أن يقتصر بقوله: قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم حتى
يتبين لهم أن آدم يعلمها لا أن يسأل الملائكة عن ذلك، فإن هذا السياق يعطي أنهم
ادعوا الخلافة و أذعنوا انتفاءها عن آدم و كان اللازم أن يعلم الخليفة بالأسماء
فسألهم عن الأسماء فجهلوها و علمها آدم، فثبت بذلك لياقته لها و انتفاؤها عنهم،
و قد ذيل سبحانه السؤال بقوله: إن كنتم صادقين، و هو مشعر بأنهم كانوا ادعوا
شيئا كان لازمه العلم بالأسماء.
و قوله تعالى: و علم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم، مشعر بأن هذه الأسماء أو أن
مسمياتها كانوا موجودات أحياء عقلاء، محجوبين تحت حجاب الغيب و أن العلم
بأسمائهم كان غير نحو العلم الذي عندنا بأسماء الأشياء، و إلا كانت الملائكة
بإنباء آدم إياهم بها عالمين و صائرين مثل آدم مساوين معه، و لم يكن في ذلك
إكرام لآدم و لا كرامة حيث علمه الله سبحانه أسماء و لم يعلمهم، و لو علمهم
إياها كانوا مثل آدم أو أشرف منه، و لم يكن في ذلك ما يقنعهم أو يبطل حجتهم، و
أي حجة تتم في أن يعلم الله تعالى رجلا علم اللغة ثم يباهي به و يتم الحجة على
ملائكة مكرمين لا يسبقونه بالقول و هم بأمره يعملون بأن هذا خليفتي و قابل
لكرامتي دونكم؟ و يقول تعالى أنبئوني باللغات التي سوف يضعها الآدميون بينهم
للإفهام و التفهيم إن كنتم صادقين في دعويكم أو مسألتكم خلافتي، على أن كمال
اللغة هو المعرفة بمقاصد القلوب و الملائكة لا تحتاج فيها إلى التكلم، و إنما
تتلقى المقاصد من غير واسطة، فلهم كمال فوق كمال التكلم، و بالجملة فما حصل
للملائكة من العلم بواسطة إنباء آدم لهم بالأسماء هو غير ما حصل لآدم من حقيقة
العلم بالأسماء بتعليم الله تعالى فأحد الأمرين كان ممكنا في حق الملائكة و في
مقدرتهم دون الآخر، و آدم إنما استحق الخلافة الإلهية بالعلم بالأسماء دون
إنبائها إذ الملائكة إنما قالوا في مقام الجواب: سبحانك لا علم لنا إلا ما
علمتنا، فنفوا العلم.
فقد ظهر مما مر أن العلم بأسماء هؤلاء المسميات يجب أن يكون بحيث يكشف عن
حقائقهم و أعيان وجوداتهم، دون مجرد ما يتكفله الوضع اللغوي من إعطاء المفهوم
فهؤلاء المسميات المعلومة حقائق خارجية، و وجودات عينيه و هي مع ذلك مستورة تحت
ستر الغيب غيب السماوات و الأرض، و العلم بها على ما هي عليها كان أولا ميسورا
ممكنا لموجود أرضي لا ملك سماوي و ثانيا دخيلا في الخلافة الإلهية.
و الأسماء في قوله تعالى: و علم آدم الأسماء كلها، جمع محلى باللام و هو يفيد
العموم على ما صرحوا به، مضافا إلى أنه مؤكد بقوله: كلها، فالمراد بها كل اسم
يقع لمسمى و لا تقييد و لا عهد، ثم قوله: عرضهم، دال على كون كل اسم أي مسماه
ذا حياة و علم و هو مع ذلك تحت حجاب الغيب، غيب السموات و الأرض.
و إضافة الغيب إلى السماوات و الأرض و إن أمكن أن يكون في بعض الموارد إضافة
من، فيفيد التبعيض لكن المورد و هو مقام إظهار تمام قدرته تعالى و إحاطته و عجز
الملائكة و نقصهم يوجب كون إضافة الغيب إلى السماوات و الأرض إضافة اللام،
فيفيد أن الأسماء أمور غائبة عن العالم السماوي و الأرضي، خارج محيط الكون، و
إذا تأملت هذه الجهات أعني عموم الأسماء و كون مسمياتها أولي حياة و علم و
كونها غيب السماوات و الأرض قضيت بانطباقها بالضرورة على ما أشير إليه في قوله
تعالى: "و إن من شيء إلا عندنا خزائنه و ما ننزله إلا بقدر معلوم":، الحجر -
21، حيث أخبر سبحانه بأنه كل ما، يقع عليه اسم شيء فله عنده تعالى خزائن مخزونة
باقية عنده غير نافدة، و لا مقدرة بقدر، و لا محدودة بحد، و أن القدر و الحد في
مرتبة الإنزال و الخلق، و أن الكثرة التي في هذه الخزائن ليست من جنس الكثرة
العددية الملازمة للتقدير و التحديد بل تعدد المراتب و الدرجات، و سيجيء بعض
الكلام فيها في سورة الحجر إن شاء الله تعالى.
فتحصل أن هؤلاء الذين عرضهم الله تعالى على الملائكة موجودات عالية محفوظة عند
الله تعالى، محجوبة بحجب الغيب، أنزل الله سبحانه كل اسم في العالم بخيرها و
بركتها و اشتق كل ما في السماوات و الأرض من نورها و بهائها، و أنهم على كثرتهم
و تعددهم لا يتعددون تعدد الأفراد، و لا يتفاوتون تفاوت الأشخاص، و إنما يدور
الأمر هناك مدار المراتب و الدرجات و نزول الاسم من عند هؤلاء إنما هو بهذا
القسم من النزول.
و قوله تعالى: و أعلم ما تبدون و ما كنتم تكتمون و كان هذان القسمان من الغيب
النسبي الذي هو بعض السماوات و الأرض، و لذلك قوبل به قوله: أعلم غيب السموات و
الأرض، ليشمل قسمي الغيب أعني الخارج عن العالم الأرضي و السماوي و غير الخارج
عنه.
و قوله تعالى: كنتم تكتمون، تقييد الكتمان بقوله: كنتم، مشعر بأن هناك أمرا
مكتوما في خصوص آدم و جعل خلافته، و يمكن أن يستظهر ذلك من قوله تعالى في الآية
التالية: "فسجدوا إلا إبليس أبى و استكبر و كان من الكافرين".
فيظهر أن إبليس كان كافرا قبل ذلك الحين، و أن إباءه عن السجدة كان مرتبطا بذلك
فقد كان أضمره هذا.
و يظهر بذلك أن سجدة الملائكة و إباء إبليس عنها كانت واقعة بين قوله تعالى:
قال إني أعلم ما لا تعلمون و بين قوله: أعلم ما تبدون و ما كنتم تكتمون، و يظهر
السر أيضا في تبديل قوله: إني أعلم ما لا تعلمون، ثانيا بقوله: إني أعلم غيب
السموات و الأرض.
بحث روائي
في تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام)، قال: ما علم الملائكة بقولهم: أ
تجعل فيها من يفسد فيها و يسفك الدماء، لو لا أنهم قد كانوا رأوا من يفسد فيها
و يسفك الدماء أقول: يمكن أن يشير بها إلى دورة في الأرض سابقة على دورة بني
آدم هذه كما وردت فيه الأخبار و لا ينافي ذلك ما مر أن الملائكة فهمت ذلك من
قوله تعالى: إني جاعل في الأرض خليفة، بل لا يتم الخبر بدون ذلك، و إلا كان هذا
القول قياسا من الملائكة مذموما كقياس إبليس.
و في تفسير العياشي، أيضا عنه (عليه السلام) قال زرارة: دخلت على أبي جعفر
(عليه السلام) فقال: أي شيء عندك من أحاديث الشيعة فقلت: إن عندي منها شيئا
كثيرا فقد هممت أن أوقد لها نارا فأحرقها فقال (عليه السلام): وارها تنس ما
أنكرت منها فخطر على بالي الآدميون فقال: ما كان علم الملائكة حيث قالوا: أ
تجعل فيها من يفسد فيها و يسفك الدماء؟ قال و كان يقول أبو عبد الله (عليه
السلام): إذا حدث بهذا الحديث هو كسر على القدرية، ثم قال أبو عبد الله (عليه
السلام): إن آدم (عليه السلام) كان له في السماء خليل من الملائكة، فلما هبط
آدم من السماء إلى الأرض استوحش الملك و شكى إلى الله تعالى و سأله أن يأذن له،
فأذن له فهبط عليه فوجده قاعدا في قفرة من الأرض، فلما رآه آدم وضع يده على
رأسه و صاح صيحة، قال أبو عبد الله (عليه السلام): يروون أنه أسمع عامة الخلق
فقال له الملك: يا آدم ما أراك إلا و قد عصيت ربك و حملت على نفسك ما لا تطيق،
أ تدري ما قال لنا الله فيك فرددنا عليه؟ قال: لا، قال: قال: إني جاعل في الأرض
خليفة، قلنا أ تجعل فيها من يفسد فيها و يسفك الدماء؟ فهو خلقك أن تكون في
الأرض أ يستقيم أن تكون في السماء؟ قال أبو عبد الله (عليه السلام) و الله عزى
بها آدم ثلاثا.
أقول: و يستفاد من الرواية أن جنة آدم كانت في السماء و سيجيء فيه روايات أخر
أيضا.
و في تفسير العياشي، أيضا عن أبي العباس عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال:
سألته عن قول الله: و علم آدم الأسماء كلها، ما ذا علمه؟ قال الأرضين و الجبال
و الشعاب و الأودية، ثم نظر إلى بساط تحته، فقال: و هذا البساط مما علمه.
و في التفسير، أيضا عن الفضيل بن العباس عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال
سألته عن قول الله: و علم آدم الأسماء كلها ما هي؟ قال: أسماء الأودية و النبات
و الشجر و الجبال من الأرض.
و في التفسير، أيضا عن داود بن سرحان العطار، قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه
السلام) فدعا بالخوان فتغذينا ثم دعا بالطست و الدست سنانه فقلت: جعلت فداك،
قوله: و علم آدم الأسماء كلها، الطست و الدست سنانه منه فقال: (عليه السلام)
الفجاج و الأودية و أهوى بيده كذا و كذا.
و في المعاني، عن الصادق (عليه السلام): إن الله عز و جل علم آدم أسماء حججه
كلها ثم عرضهم و هم أرواح على الملائكة فقال: أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم
صادقين بأنكم أحق بالخلافة في الأرض لتسبيحكم و تقديسكم من آدم فقالوا: سبحانك
لا علم لنا - إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم قال الله تبارك و تعالى: يا
آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبئهم بأسمائهم وقفوا على عظيم منزلتهم عند الله عز
ذكره، فعلموا أنهم أحق بأن يكونوا خلفاء الله في أرضه و حججه على بريته، ثم
غيبهم عن أبصارهم و استعبدهم بولايتهم و محبتهم، و قال لهم: أ لم أقل لكم إني
أعلم غيب السموات و الأرض - و أعلم ما تبدون و ما كنتم تكتمون.
أقول: و بالرجوع إلى ما مر من البيان تعرف معنى هذه الروايات و أن لا منافاة
بين هذه و ما تقدمها، إذ قد تقدم أن قوله تعالى: و إن من شيء إلا عندنا خزائنه
تعطي أنه ما من شيء إلا و له في خزائن الغيب وجود، و إن هذه الأشياء التي قبلنا
إنما وجدت بالنزول من هناك، و كل اسم وضع بحيال مسمى من هذه المسميات فهي اسم
لما في خزائن الغيب، فسواء قيل: إن الله علم آدم ما في خزائن غيبه من الأشياء و
هي غيب السماوات و الأرض، أو قيل: إنه علم آدم أسماء كل شيء و هي غيب السماوات
و الأرض كان المؤدى و النتيجة واحدا و هو ظاهر.
و يناسب المقام عدة من أخبار الطينة كما رواه في البحار، عن جابر بن عبد الله
قال: قلت لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أول شيء خلق الله ما هو؟ فقال
نور نبيك يا جابر خلقه الله ثم خلق منه كل خير، ثم أقامه بين يديه في مقام
القرب ما شاء الله، ثم جعله أقساما، فخلق العرش من قسم، و الكرسي من قسم، و
حملة العرش و سكنة الكرسي من قسم، و أقام القسم الرابع في مقام الحب ما شاء
الله، ثم جعله أقساما، فخلق القلم من قسم، و اللوح من قسم، و الجنة من قسم، و
أقام القسم الرابع في مقام الخوف ما شاء الله، ثم جعله أجزاء فخلق الملائكة من
جزء، و الشمس من جزء و القمر من جزء، و أقام القسم الرابع في مقام الرجاء ما
شاء الله، ثم جعله أجزاء، فخلق العقل من جزء و العلم و الحلم من جزء، و العصمة
و التوفيق من جزء، و أقام القسم الرابع في مقام الحياء ما شاء الله، ثم نظر
إليه بعين الهيبة فرشح ذلك النور و قطرت منه مائة ألف و أربعة و عشرون ألف
قطرة، فخلق الله من كل قطرة روح نبي و رسول، ثم تنفست أرواح الأنبياء فخلق الله
من أنفاسها أرواح الأولياء و الشهداء و الصالحين.
أقول: و الأخبار في هذه المعاني كثيرة، متظافرة، و أنت إذا أجلت نظرة التأمل و
الإمعان فيها وجدتها شواهد على ما قدمناه، و سيجيء شطر من الكلام في بعضها.
و إياك أن ترمي أمثال هذه الأحاديث الشريفة المأثورة عن معادن العلم و منابع
الحكمة بأنها من اختلاقات المتصوفة و أوهامهم فللخلقة أسرار، و هو ذا العلماء
من طبقات أقوام الإنسان لا يألون جهدا في البحث عن أسرار الطبيعة، منذ أخذ
البشر في الانتشار، و كلما لاح لهم معلوم واحد بأن لهم مجاهيل كثيرة، و هي عالم
الطبيعة أضيق العوالم و أخسها فما ظنك بما وراءها، و هي عوالم النور و السعة.
2 سورة البقرة - 34
وَ إِذْ قُلْنَا لِلْمَلَئكَةِ اسجُدُوا لاَدَمَ فَسجَدُوا إِلا إِبْلِيس أَبى
وَ استَكْبرَ وَ كانَ مِنَ الْكَفِرِينَ (34)
بيان
قد عرفت أن قوله تعالى: و ما كنتم تكتمون، فيه دلالة على وقوع أمر مكتوم ظاهر
بعد أن كان مكتوما، و لا يخلو ذلك عن مناسبة مع قوله: أبى و استكبر و كان من
الكافرين حيث لم يعبر أبى و استكبر و كفر، و عرفت أيضا أن قصة السجدة كالواقعة
أو هي واقعة بين قوله تعالى: إني أعلم ما لا تعلمون، و قوله: و أعلم ما تبدون و
ما كنتم تكتمون، فقوله تعالى: و إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم، كالجملة
المستخرجة من بين الجمل ليتخلص بها إلى قصة الجنة، فإن هذه الآيات كما عرفت
إنما سيقت لبيان كيفية خلافة الإنسان و موقعه و كيفية نزوله إلى الدنيا و ما
يئول إليه أمره من سعادة و شقاء، فلا يهم من قصة السجدة هاهنا إلا إجمالها
المؤدي إلى قصة الجنة و هبوط آدم هذا، فهذا هو الوجه في الإضراب عن الإطناب إلى
الإيجاز، و لعل هذا هو السر أيضا في الالتفات من الغيبة إلى التكلم في قوله
تعالى: و إذ قلنا للملائكة اسجدوا، بعد قوله: و إذ قال ربك للملائكة إني جاعل.
و على ما مر فنسبة الكتمان إلى الملائكة و هو فعل إبليس بناء على الجري على
الدأب الكلامي من نسبة فعل الواحد إلى الجماعة إذا اختلط بهم و لم يتميز منهم،
و يمكن أن يكون له وجه آخر، و هو أن يكون ظاهر قوله تعالى: إني جاعل في الأرض
خليفة، إطلاق الخلافة حتى على الملائكة كما يؤيده أيضا أمرهم ثانيا بالسجود، و
يوجب ذلك خطورا في قلوب الملائكة، حيث إنها ما كانت تظن أن موجودا أرضيا يمكن
أن يسود على كل شيء حتى عليهم، و يدل على هذا المعنى بعض الروايات كما سيأتي.
و قوله تعالى: اسجدوا لآدم، يستفاد منه جواز السجود لغير الله في الجملة إذا
كان تحية و تكرمة للغير و فيه خضوع لله تعالى بموافقة أمره، و نظيره قوله تعالى
في قصة يوسف (عليه السلام) "و رفع أبويه على العرش و خروا له سجدا قال: يا أبت
هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا": يوسف - 100، و ملخص القول في ذلك
أنك قد عرفت في سورة الفاتحة أن العبادة هي نصب العبد نفسه في مقام العبودية و
إتيان ما يثبت و يستثبت به ذلك فالفعل العبادي يجب أن يكون فيه صلاحية إظهار
مولوية المولى أو، عبدية العبد كالسجود و الركوع و القيام أمامه حينما يقعد، و
المشي خلفه حينما يمشي و غير ذلك، و كلما زادت الصلاحية المزبورة ازدادت
العبادة تعينا للعبودية، و أوضح الأفعال في الدلالة على عز المولوية و ذل
العبودية السجدة، لما فيها من الخرور على الأرض، و وضع الجبهة عليها، و أما ما
ربما ظنه بعض: من أن السجدة عبادة ذاتية، فليس بشيء، فإن الذاتي لا يختلف.
و لا يتخلف و هذا الفعل يمكن أن يصدر بعينه من فاعله بداع غير داع التعظيم و
العبادة كالسخرية و الاستهزاء فلا يكون عبادة مع اشتماله على جميع ما يشتمل
عليه و هو عبادة نعم معنى العبادة أوضح في السجدة من غيرها، و إذا لم يكن عبادة
ذاتية لم يكن لذاته مختصا بالله سبحانه، بناء على أن المعبود منحصر فيه تعالى،
فلو كان هناك مانع لكان من جهة النهي الشرعي أو العقلي و الممنوع شرعا أو عقلا
ليس إلا إعطاء الربوبية لغيره تعالى، و أما تحية الغير أو تكرمته من غير إعطاء
الربوبية، بل لمجرد التعارف و التحية فحسب، فلا دليل على المنع من ذلك، لكن
الذوق الديني المتخذ من الاستيناس بظواهره يقضي باختصاص هذا الفعل به تعالى، و
المنع عن استعماله في غير مورده تعالى، و إن لم يقصد به إلا التحية و التكرمة
فقط، و أما المنع عن كل ما فيه إظهار الإخلاص لله، بإبراز المحبة لصالحي عباده
أو لقبور أوليائه أو آثارهم فمما لم يقم عليه دليل عقلي أو نقلي أصلا، و سنعود
إلى البحث عن هذا الموضوع في محل يناسبه إن شاء الله تعالى.
بحث روائي
في تفسير العياشي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لما أن خلق الله آدم أمر
الملائكة أن يسجدوا له فقالت الملائكة في أنفسها: ما كنا نظن أن الله خلق خلقا
أكرم عليه منا فنحن جيرانه و نحن أقرب الخلق إليه. فقال الله: أ لم أقل لكم إني
أعلم ما تبدون و ما كنتم تكتمون، فيما أبدوا من أمر بني الجان و كتموا ما في
أنفسهم، فلاذت الملائكة الذين قالوا ما قالوا بالعرش.
و في التفسير، أيضا عن علي بن الحسين (عليهما السلام): ما في معناه و فيه: فلما
عرفت الملائكة أنها وقعت في خطيئة لاذوا بالعرش، و أنها كانت عصابة من الملائكة
و هم الذين كانوا حول العرش، لم يكن جميع الملائكة إلى أن قال: فهم يلوذون حول
العرش إلى يوم القيامة.
أقول: يمكن أن يستفاد مضمون الروايتين من قوله حكاية عن الملائكة: و نحن نسبح
بحمدك و نقدس لك إلى قوله: سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم
الحكيم.
و سيجيء أن العرش هو العلم، و بذلك وردت الروايات عن أئمة أهل البيت (عليهم
السلام) فافهم ذلك، و على هذا كان المراد من قوله تعالى: و كان من الكافرين،
قوم إبليس من الجان المخلوقين قبل الإنسان.
قال تعالى: "و لقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون و الجان خلقناه من قبل
من نار السموم": الحجر - 27، و على هذه الرواية فنسبة الكتمان إلى جميع
الملائكة لا تحتاج إلى عناية زائدة، بل هي على حقيقته، فإن المعنى المكتوم خطر
على قلوب جميع الملائكة، و لا منافاة بين هذه الرواية و ما تفيد أن المكتوم هو
ما كان يكتمه إبليس من الإباء عن الخضوع لآدم، و الاستكبار لو دعي إلى السجود،
لجواز استفادة الجميع كما هو كذلك.
و في قصص الأنبياء، عن أبي بصير، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): سجدت
الملائكة و وضعوا أجباههم على الأرض؟ قال: نعم تكرمة من الله تعالى.
و في تحف العقول، قال: إن السجود من الملائكة لآدم إنما كان ذلك طاعة لله و
محبة منهم لآدم.
و في الاحتجاج، عن موسى بن جعفر عن آبائه: أن يهوديا سأل أمير المؤمنين (عليه
السلام) عن معجزات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في مقابلة معجزات الأنبياء،
فقال: هذا آدم أسجد الله له ملائكته، فهل فعل بمحمد شيئا من هذا؟ فقال علي: لقد
كان ذلك، و لكن أسجد الله لآدم ملائكته، فإن سجودهم لم يكن سجود طاعة أنهم
عبدوا آدم من دون الله عز و جل، و لكن اعترافا لآدم بالفضيلة و رحمة من الله له
و محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أعطي ما هو أفضل من هذا، إن الله جل و علا
صلى عليه في جبروته و الملائكة بأجمعها، و تعبد المؤمنون بالصلاة عليه فهذه
زيادة له يا يهودي.
و في تفسير القمي،: خلق الله آدم فبقي أربعين سنة مصورا، و كان يمر به إبليس
اللعين فيقول: لأمر ما خلقت؟ فقال: العالم" فقال إبليس: لئن أمرني الله بالسجود
لهذا لعصيته" إلى أن قال: ثم قال الله تعالى للملائكة: اسجدوا لآدم فسجدوا
فأخرج إبليس ما كان في قلبه من الحسد فأبى أن يسجد.
و في البحار، عن قصص الأنبياء، عن الصادق (عليه السلام) قال: أمر إبليس بالسجود
لآدم فقال: يا رب و عزتك إن أعفيتني من السجود لآدم لأعبدنك عبادة ما عبدك أحد
قط مثلها، قال الله جل جلاله: إني أحب أن أطاع من حيث أريد و قال: إن إبليس رن
أربع رنات: أولهن يوم لعن، و يوم أهبط إلى الأرض، و يوم بعث محمد (صلى الله
عليه وآله وسلم) على فترة من الرسل، و حين أنزلت أم الكتاب، و نخر نخرتين: حين
أكل آدم من الشجرة، و حين أهبط من الجنة، و قال في قوله تعالى: فبدت لهما
سوآتهما، و كانت سوآتهما لا ترى فصارت ترى بارزة، و قال الشجرة التي نهي عنها
آدم هي السنبلة.
أقول: و في الروايات - و هي كثيرة - تأييد ما ذكرناه في السجدة.
2 سورة البقرة - 35 - 39
وَ قُلْنَا يَئَادَمُ اسكُنْ أَنت وَ زَوْجُك الجَْنّةَ وَ ُكلا مِنْهَا
رَغَداً حَيْث شِئْتُمَا وَ لا تَقْرَبَا هَذِهِ الشجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ
الظلِمِينَ (35) فَأَزَلّهُمَا الشيْطنُ عَنهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمّا كانَا
فِيهِ وَ قُلْنَا اهْبِطوا بَعْضكمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ وَ لَكمْ فى الأَرْضِ
مُستَقَرّ وَ مَتَعٌ إِلى حِينٍ (36) فَتَلَقّى ءَادَمُ مِن رّبِّهِ كلِمَتٍ
فَتَاب عَلَيْهِ إِنّهُ هُوَ التّوّاب الرّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطوا مِنهَا
جَمِيعاً فَإِمّا يَأْتِيَنّكُم مِّنى هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَاى فَلا خَوْفٌ
عَلَيهِمْ وَ لا هُمْ يحْزَنُونَ (38) وَ الّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذّبُوا
بِئَايَتِنَا أُولَئك أَصحَب النّارِ هُمْ فِيهَا خَلِدُونَ (39)
بيان
قوله تعالى: قلنا يا آدم اسكن، على أن قصة سجود الملائكة لآدم تكررت في عدة
مواضع من القرآن الكريم.
لم يقع قصة الجنة إلا في ثلاث مواضع: أحدها: هاهنا من سورة البقرة.
الثاني: في سورة الأعراف.
قال الله تعالى: "و يا آدم اسكن أنت و زوجك الجنة و كلا منها رغدا حيث شئتما و
لا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين. فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما
ووري عنهما و قال: ما نهيكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا
من الخالدين. و قاسمهما إني لكما لمن الناصحين. فدليهما بغرور فلما ذاقا الشجرة
بدت لهما سوآتهما و طفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة و ناديهما ربهما أ لم
أنهكما عن تلكما الشجرة و أقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين. قالا: ربنا ظلمنا
أنفسنا و إن لم تغفر لنا و ترحمنا لنكونن من الخاسرين. قال: اهبطوا بعضكم لبعض
عدو و لكم في الأرض مستقر و متاع إلى حين. قال: فيها تحيون و فيها تموتون و
منها تخرجون": الآيات 19، 25.
و الثالث: في سورة طه.
قال الله تعالى: "و لقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي و لم نجد له عزما. و إذ قلنا
للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى. فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك و
لزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى. إن لك ألا تجوع فيها و لا تعرى، و أنك لا
تظمؤا فيها و لا تضحى. فوسوس إليه الشيطان فقال: يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد
و ملك لا يبلى. فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما و طفقا يخصفان عليهما من ورق
الجنة و عصى آدم ربه فغوى. ثم اجتباه ربه فتاب عليه و هدى. قال: اهبطا منها
جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل و لا يشقى. و
من أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا و نحشره يوم القيامة أعمى. قال: رب لم
حشرتني أعمى و قد كنت بصيرا. قال: كذلك أتتك آياتنا فنسيتها و كذلك اليوم
تنسى".
الآيات
و سياق الآيات و خاصة قوله تعالى في صدر القصة: إني جاعل في الأرض خليفة يعطي
أن آدم (عليه السلام) إنما خلق ليحيا في الأرض و يموت فيها و إنما أسكنهما الله
الجنة لاختبارهما و لتبدو لهما سوآتهما حتى يهبطا إلى الأرض، و كذا سياق قوله
تعالى في سورة طه: فقلنا يا آدم، و في سورة الأعراف: و يا آدم اسكن حيث سبك قصة
الجنة مع قصة إسجاد الملائكة كلتيهما كقصة واحدة متواصلة، و بالجملة فهو (عليه
السلام) كان مخلوقا ليسكن الأرض، و كان الطريق إلى الاستقرار في الأرض هذا
الطريق، و هو تفضيله على الملائكة لإثبات خلافته، ثم أمرهم بالسجدة، ثم إسكان
الجنة.
و النهي عن قرب الشجرة المنهية حتى يأكلا منها فيبدو لهما سوآتهما فيهبطا إلى
الأرض، فآخر العوامل للاستقرار في الأرض، و انتخاب الحياة الدنيوية ظهور
السوأة، و هي العورة بقرينة قوله تعالى: و طفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة فهو
التمايل الحيواني و يستلزم التغذي و النمو أيضا فما كان لإبليس هم إلا إبداء
سوآتهما، و آدم و زوجته و إن كانا قد سواهما الله تعالى تسوية أرضية بشرية ثم
أدخلهما الجنة لم يمكثا بعد التسوية، و لم يمهلا كثيرا، ليتم في الدنيا
إدراكهما لسوآتهما و لا لغيرها من لوازم الحياة الدنيا و احتياجاتها حتى
أدخلهما الله الجنة، و أنه إنما أدخلهما الله الجنة حين أدخلهما و لما ينفصلا و
لما ينقطع إدراكهما عن عالم الروح و الملائكة، و الدليل على ذلك قوله تعالى:
ليبدي لهما ما ووري عنهما و لم يقل ما كان ووري عنهما، و هو مشعر بأن مواراة
السوآة ما كانت ممكنة في الحياة الدنيا استدامة و إنما تمشت دفعة ما و استعقب
ذلك إسكان الجنة فظهور السوآة كان مقضيا محتوما في الحياة الأرضية و مع أكل
الشجرة، و لذلك قال تعالى: فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى، و قال تعالى: و
أخرجهما مما كانا فيه و أيضا هو تعالى غفر خطيئتهما بعد ما تابا و لم يرجعهما
إلى الجنة بل أهبطهما إلى الدنيا ليحييا فيها و لو لم تكن الحياة الأرضية مع
أكل الشجرة و ظهور السوآة حتما مقضيا، و الرجوع إلى الجنة مع ذلك محالا، لرجعا
إليها بعد حط الخطيئة، فالعامل في خروجهما من الجنة و هبوطهما هو الأكل من
الشجرة و ظهور السوآة، و كان ذلك بوسوسة الشيطان اللعين، و قد قال تعالى في
سورة طه في صدر القصة: "و لقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي و لم نجد له عزما".
ثم ساق تعالى القصة
فهل هذا العهد هو قوله تعالى: لا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين؟ أو أنه
قوله تعالى: إن هذا عدو لك و لزوجك أو أنه العهد بمعنى الميثاق العمومي المأخوذ
من جميع الإنسان، و من الأنبياء خاصة بوجه آكد و أغلظ.
و الاحتمال الأول غير صحيح لقوله تعالى: "فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما
ووري عنهما من سوآتهما و قال ما نهيكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين
أو تكونا من الخالدين. و قاسمهما إني لكما لمن الناصحين" الآيتان فهما قد كانا
حين اقتراف الخطيئة و اقتراب الشجرة على ذكر من النهي، و قد قال تعالى: "فنسي و
لم نجد له عزما" فالعهد المذكور ليس هو النهي عن قرب الشجرة و أما الاحتمال
الثاني و هو أن يكون العهد المذكور هو التحذير عن اتباع إبليس فهو و إن لم يكن
بالبعيد، كل البعيد، لكن ظواهر الآيات لا تساعد عليه فإن العهد مخصوص بآدم
(عليه السلام) كما هو ظاهر الآية.
مع أن التحذير عن إبليس كان لهما معا، و أيضا ذيل الآيات و هو على طبق صدرها في
سورة طه يناسب العهد بمعنى الميثاق الكلي، لا العهد بمعنى التحذير عن إبليس،
قال تعالى: "فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل و لا يشقى و من أعرض
عن ذكري فإن له معيشة ضنكا و نحشره يوم القيامة أعمى الآيات" فبحسب التطبيق
ينطبق قوله تعالى: و من أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا على نسيان العهد و هو
كما ترى مع العهد بمعنى الميثاق على الربوبية و العبودية أنسب منه مع التحذير
من إبليس، إذ لا كثير مناسبة بحسب المفهوم بين الإعراض عن الذكر و اتباع إبليس،
و أما الميثاق على الربوبية فهو له أنسب، فإن الميثاق على الربوبية هو أن لا
ينسى الإنسان كونه تعالى ربا له أي مالكا مدبرا أي لا ينسى الإنسان أبدا و لا
في حال أنه مملوك طلق لا يملك لنفسه شيئا لا نفعا و لا ضرا و لا موتا و لا حياة
و لا نشورا، أي لا ذاتا و لا وصفا و لا فعلا.
و الخطيئة التي تقابله هو إعراض الإنسان عن ذكر مقام ربه و الغفلة عنه
بالالتفات إلى نفسه أو ما يعود و يرجع إلى نفسه من زخارف الحياة الدنيا الفانية
البالية هذا.
لكنك إذا أمعنت النظر في الحياة الدنيا على اختلاف جهاتها و تشتت أطرافها و
أنحائها و وحدتها و اشتراكها بين المؤمن و الكافر وجدتها بحسب الحقيقة و الباطن
مختلفة في الموردين بحسب ذوق العلم بالله تعالى و الجهل به فالعارف بمقام ربه
إذا نظر إلى نفسه و كذلك إلى الحياة الدنيا الجامعة لأقسام الكدورات و أنواع
الآلام و ضروب المكاره من موت و حياة، و صحة و سقم، و سعة و إقتار، و راحة و
تعب، و وجدان و فقدان.
على أن الجميع أعم مما في نفس الإنسان أو في غيره مملوكة لربه، لا استقلال لشيء
منها و فيها، بل الكل ممن ليس عنده إلا الحسن و البهاء و الجمال و الخير على ما
يليق بعزته و جلاله، و لا يترشح من لدنه إلا الجميل و الخير، فإذا نظر إليها و
هي هكذا لم ير مكروها يكرهه و لا مخوفا يخافه، و لا مهيبا يهابه، و لا محذورا
يحذره، بل يرى كل ما يراه حسنا محبوبا إلا ما يأمره ربه أن يكرهه و يبغضه، و هو
مع ذلك يكرهه لأمره، و يحب ما يحب و يلتذ و يبتهج بأمره، لا شغل له إلا بربه،
كل ذلك لما يرى الجميع ملكا طلقا لربه لا نصيب و لا حظ لشيء غيره في شيء منها،
فما له و لمالك الأمر و ما يتصرف به في ملكه؟ من إحياء و إماتة، و نفع و ضر و
غيرها، فهذه هي الحياة الطيبة التي لا شقاء فيها البتة و هي نور لا ظلمة معه، و
سرور لا غم معه، و وجدان لا فقد معه، و غنى لا فقر معه كل ذلك بالله سبحانه، و
في مقابل هذه الحياة حياة الجاهل بمقام ربه، إذ هذا المسكين بانقطاعه عن ربه لا
يقع بصره على موجود من نفسه و غيره إلا رآه مستقلا بنفسه ضارا أو نافعا خيرا أو
شرا فهو يتقلب في حياته بين الخوف عما يخاف فوته، و الحذر عما يحذر وقوعه، و
الحزن لما يفوته، و الحسرة لما يضيع عنه من جاه أو مال أو بنين أو أعوان و سائر
ما يحبه و يتكل و يعتمد عليه و يؤثره.
كلما نضج جلده بالاعتياد بمكروه و السكون إلى مرارة بدل جلدا غيره، ليذوق
العذاب بفؤاد مضطرب قلق، و حشى ذائب محترق، و صدر ضيق حرج، كأنما يصعد في
السماء، كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون.
إذا عرفت هذا علمت: أن مرجع الأمرين أعني نسيان الميثاق و شقاء الحياة الدنيا
واحد، و أن الشقاء الدنيوي من فروع نسيان الميثاق.
و هذا هو الذي يشعر به كلامه سبحانه حيث أتى بالتكليف الجامع لأهل الدنيا في
سورة طه فقال تعالى: "فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل و لا يشقى. و
من أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا و نحشره يوم القيامة أعمى".
و بدل ذلك في هذه السورة من قوله: "فمن اتبع هداي فلا خوف عليهم و لا هم
يحزنون".
و من هنا تحدس إن كنت ذا فطانة أن الشجرة كانت شجرة في اقترابها تعب الحياة
الدنيا و شقاؤها، و هو أن يعيش الإنسان في الدنيا ناسيا لربه، غافلا عن مقامه،
و أن آدم (عليه السلام) كأنه أراد أن يجمع بينها و بين الميثاق المأخوذ عليه،
فلم يتمكن فنسي الميثاق و وقع في تعب الحياة الدنيا، ثم تدورك له ذلك بالتوبة.
قوله تعالى: "و كلا منها رغدا" الرغد الهناء و طيب العيش و أرغد القوم مواشيهم
تركوها ترعى كيف شاءت، و قوم رغد، و نساء رغد، أي ذوو عيش رغيد.
و قوله تعالى: "و لا تقربا هذه الشجرة" و كأن النهي إنما كان عن أكل الثمرة و
إنما تعلق بالقرب من الشجرة إيذانا بشدة النهي و مبالغة في التأكيد و يشهد بذلك
قوله تعالى "فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما":، الأعراف - 22.
و قوله تعالى: "فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما": طه - 121، فكانت المخالفة
بالأكل فهو المنهي عنه بقوله: و لا تقربا.
قوله تعالى: فتكونا من الظالمين، من الظلم لا من الظلمة على ما احتمله بعضهم و
قد اعترفا بظلمهما حيث قالا على ما حكاه الله تعالى عنهما: "ربنا ظلمنا أنفسنا
و إن لم تغفر لنا و ترحمنا".
إلا أنه تعالى بدل في سورة طه هذه الكلمة أعني قوله: فتكونا من الظالمين من
قوله فتشقى و الشقاء هو التعب ثم فسر التعب و فصله، فقال: "إن لك ألا تجوع فيها
و لا تعرى و أنك لا تظمؤا فيها و لا تضحى الآيات".
و من هنا يظهر أن وبال هذا الظلم إنما كان هو الوقوع في تعب حياة هذه الدنيا من
جوع و عطش و عراء و عناء و على هذا فالظلم منهما إنما هو ظلمهما لأنفسهما، لا
بمعنى المعصية المصطلحة و الظلم على الله سبحانه.
و من هنا يظهر أيضا أن هذا النهي أعني قوله: و لا تقربا، إنما كان نهيا تنزيهيا
إرشاديا يرشد به إلى ما فيه خير المكلف و صلاحه في مقام النصح لا نهيا مولويا.
فهما إنما ظلما أنفسهما في ترك الجنة على أن جزاء المخالفة للنهي المولوي
التكليفي يتبدل بالتوبة إذا قبلت و لم يتبدل في موردهما، فإنهما تابا و قبلت
توبتهما و لم يرجعا إلى ما كانا فيه من الجنة و لو لا أن التكليف إرشادي ليس له
إلا التبعة التكوينية دون التشريعية لاستلزام قبول التوبة رجوعهما إلى ما كانا
فيه من مقام القرب و سيأتي لهذا الكلام بقية فيما سيأتي إن شاء الله.
قوله سبحانه: فأزلهما الشيطان، الظاهر من هذه الجملة كنظائرها و إن لم يكن أزيد
من وسوسة الشيطان لهما مثل ما يوسوس لنا بني آدم على نحو إلقاء الوسوسة في
القلب من غير رؤية الشخص.
لكن الظاهر من أمثال قوله تعالى في سورة طه: "فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك و
لزوجك" يدل على أنه تعالى أراهما الشيطان و عرفهما إياه بالشخص و العين دون
الوصف و كذا قوله تعالى حكاية عن الشيطان: "يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد"
الآية حيث أتى بالكلام في صورة حكاية الخطاب، و يدل ذلك على متكلم مشعور به.
و كذا قوله تعالى في سورة الأعراف: "و قاسمهما إني لكما لمن الناصحين" و القسم
إنما يكون من مقاسم مشعور به.
و كذا قوله تعالى: "و ناديهما ربهما أ لم أنهكما عن تلكما الشجرة و أقل لكما إن
الشيطان لكما عدو مبين" كل ذلك يدل على أنه كان يتراءى لهما و كانا يشاهدانه.
و لو كان حالهما (عليهما السلام) مثل حالنا من عدم المشاهدة حين الوسوسة لجاز
لهما أن يقولا: ربنا إننا لم نشعر و خلنا أن هذه الوساوس هي من أفكارنا من غير
استشعار بحضوره، و لا قصد لمخالفة ما وصيتنا به من التحذير من وسوسته.
و بالجملة فهما كانا يشاهدانه و يعرفانه، و الأنبياء و هم المعصومون بعصمة الله
كذلك يعرفونه و يشاهدونه حين تعرضه بهم لو تعرض على ما وردت به الروايات في نوح
و إبراهيم و موسى و عيسى و يحيى و أيوب و إسماعيل و محمد (صلى الله عليه وآله
وسلم) هذا.
و كذا ظاهر هذه الآيات كظاهر قوله تعالى: "ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة" حيث
ينبىء عن كونهما معه لعنه الله بحيال الشجرة في الجنة، فقد كان دخل الجنة، و
صاحبهما و غرهما بوسوسته، و لا محذور فيه إذ لم تكن الجنة جنة الخلد حتى لا
يدخلها الشيطان، و الدليل على ذلك خروجهم جميعا من هذه الجنة.
و أما قوله تعالى خطابا لإبليس: "فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج
منها": الأعراف - 13، فيمكن أن يكون المراد به الخروج من الملائكة، أو الخروج
من السماء من جهة كونها مقام قرب و تشريف.
قوله تعالى: "و قلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو" الآية ظاهر السياق أنه خطاب لآدم و
زوجته و إبليس و قد خص إبليس وحده بالخطاب في سورة الأعراف حيث قال: "فاهبط
منها فما يكون لك أن تتكبر فيها" الآية فقوله تعالى: اهبطوا كالجمع بين
الخطابين و حكاية عن قضاء قضى الله به العداوة بين إبليس لعنه الله و بين آدم و
زوجته و ذريتهما، و كذلك قضى به حياتهم في الأرض و موتهم فيها و بعثهم منها.
و ذرية آدم مع آدم في الحكم كما ربما يستشعر من ظاهر قوله: "فيها تحيون و فيها
تموتون و منها تخرجون" الآية و كما سيأتي في قوله تعالى: "و لقد خلقناكم ثم
صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم" الآية من سورة الأعراف.
إن إسجاد الملائكة لآدم (عليه السلام) إنما كان من جهة أنه خليفة أرضي، فكان
المسجود له آدم و حكم السجدة لجميع البشر، فكان أقامه آدم (عليه السلام) مقام
المسجود له معنونا بعنوان الأنموذج و النائب.
و بالجملة يشبه أن تكون هذه القصة التي قصها الله تعالى من إسكان آدم و زوجته
الجنة، ثم إهباطهما لأكل الشجرة كالمثل يمثل به ما كان الإنسان فيه قبل نزوله
إلى الدنيا من السعادة و الكرامة بسكونه حظيرة القدس، و منزل الرفعة و القرب، و
دار نعمة و سرور، و أنس و نور، و رفقاء طاهرين، و أخلاء روحانيين، و جوار رب
العالمين.
ثم إنه يختار مكانه كل تعب و عناء و مكروه و ألم بالميل إلى حياة فانية، و جيفة
منتنة دانية، ثم إنه لو رجع بعد ذلك إلى ربه لأعاده إلى دار كرامته و سعادته و
لو لم يرجع إليه و أخلد إلى الأرض و اتبع هواه فقد بدل نعمة الله كفرا و أحل
بنفسه دار البوار، جهنم يصلاها و بئس القرار.
قوله تعالى: "فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه"، التلقي هو التلقن، و هو أخذ
الكلام مع فهم و فقه و هذا التلقي كان هو الطريق المسهل لآدم (عليه السلام)
توبته.
و من ذلك يظهر أن التوبة توبتان: توبة من الله تعالى و هي الرجوع إلى العبد
بالرحمة، و توبة من العبد و هي الرجوع إلى الله بالاستغفار و الانقلاع من
المعصية.
و توبة العبد، محفوفة بتوبتين من الله تعالى، فإن العبد لا يستغني عن ربه في
حال من الأحوال، فرجوعه عن المعصية إليه يحتاج إلى توفيقه تعالى و إعانته و
رحمته حتى يتحقق منه التوبة، ثم تمس الحاجة إلى قبوله تعالى و عنايته و رحمته،
فتوبة العبد إذا قبلت كانت بين توبتين من الله كما يدل عليه قوله تعالى: "ثم
تاب عليهم ليتوبوا: التوبة - 119.
و قراءة نصب آدم و رفع كلمات تناسب هذه النكتة، و إن كانت القراءة الأخرى و هي
قراءة رفع آدم و نصب كلمات لا تنافيه أيضا.
و أما أن هذه الكلمات ما هي؟ فربما يحتمل أنها هي ما يحكيه الله تعالى عنهما في
سورة الأعراف بقوله: "قالا ربنا ظلمنا أنفسنا و إن لم تغفر لنا و ترحمنا لنكونن
من الخاسرين": الأعراف - 23، إلا أن وقوع هذه الكلمات أعني قوله: "قالا ربنا
ظلمنا" الآية قبل قوله: "قلنا اهبطوا" في سورة الأعراف و وقوع قوله "فتلقى آدم"
الآية بعد قوله: قلنا اهبطوا، في هذه السورة لا يساعد عليه.
لكن هاهنا شيء: و هو أنك عرفت في صدر القصة أن الله تعالى حيث قال: "إني جاعل
في الأرض خليفة"، قالت الملائكة: "أ تجعل فيها من يفسد فيها و يسفك الدماء و
نحن نسبح بحمدك و نقدس لك" الآية و هو تعالى لم يرد عليهم دعواهم على الخليفة
الأرضي بما رموه به و لم يجب عنه بشيء إلا أنه علم آدم الأسماء كلها.
و لو لا أنه كان فيما صنعه تعالى من تعليم الأسماء ما يسد باب اعتراضهم ذلك لم
ينقطع كلامهم و لا تمت الحجة عليهم قطعا.
ففي جملة ما علمه الله تعالى آدم من الأسماء أمر ينفع العاصي إذا عصى و المذنب
إذا أذنب، فلعل تلقيه من ربه كان متعلقا بشيء من تلك الأسماء فافهم ذلك.
و اعلم أن آدم (عليه السلام) و إن ظلم نفسه في إلقائها إلى شفا جرف الهلكة و
منشعب طريقي السعادة و الشقاوة أعني الدنيا، فلو وقف في مهبطه فقد هلك، و لو
رجع إلى سعادته الأولى فقد أتعب نفسه و ظلمها، فهو (عليه السلام) ظالم لنفسه
على كل تقدير، إلا أنه (عليه السلام) هيأ لنفسه بنزوله درجة من السعادة و منزلة
من الكمال ما كان ينالها لو لم ينزل و كذلك ما كان ينالها لو نزل من غير خطيئة.
فمتى كان يمكنه أن يشاهد ما لنفسه من الفقر و المذلة و المسكنة و الحاجة و
القصور و له في كل ما يصيبه من التعب و العناء و الكد روح و راحة في حظيرة
القدس و جوار رب العالمين، فلله تعالى صفات من عفو و مغفرة و توبة و ستر و فضل
و رأفة و رحمة لا ينالها إلا المذنبون، و له في أيام الدهر نفحات لا يرتاح بها
إلا المتعرضون.
فهذه التوبة هي التي استدعت تشريع الطريق الذي يتوقع سلوكه و تنظيف المنزل الذي
يرجى سكونه، فوراءها تشريع الدين و تقويم الملة.
و يدل على ذلك ما تراه أن الله تعالى يكرر في كلامه تقدم التوبة على الإيمان.
قال تعالى: "فاستقم كما أمرت و من تاب معك": هود - 112، و قال: "و إني لغفار
لمن تاب و آمن": طه - 82، إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى: قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى.
و هذا أول ما شرع من الدين لآدم (عليه السلام) و ذريته، أوجز الدين كله في
جملتين لا يزاد عليه شيء إلى يوم القيامة.
و أنت إذا تدبرت هذه القصة قصة الجنة و خاصة ما وقع في سورة طه وجدت أن
المستفاد منها أن جريان القصة أوجب قضاءين منه تعالى في آدم و ذريته، فأكل
الشجرة أوجب حكمه تعالى و قضاءه بالهبوط و الاستقرار في الأرض و الحياة فيها
تلك الحياة الشقية التي حذرا منها حين نهيا عن اقتراب الشجرة هذا.
و أن التوبة ثانيا: تعقب قضاء و حكما ثانيا منه تعالى بإكرام آدم و ذريته
بالهداية إلى العبودية فالمقضي أولا كان نفس الحياة الأرضية، ثم بالتوبة طيب
الله تلك الحياة بأن ركب عليها الهداية إلى العبودية، فتألفت الحياة من حياة
أرضية، و حياة سماوية.
و هذا هو المستفاد من تكرار الأمر بالهبوط في هذه السورة حيث قال تعالى: "و
قلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو و لكم في الأرض مستقر و متاع إلى حين" الآية و قال
تعالى: "قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى الآية.
و توسيط التوبة بين الأمرين بالهبوط مشعر بأن التوبة وقعت و لما ينفصلا من
الجنة و إن لم يكونا أيضا فيها كاستقرارهما فيها قبل ذلك.
يشعر بذلك أيضا قوله تعالى: "و ناديهما ربهما أ لم أنهكما عن تلكما الشجرة"
الآية بعد ما قال لهما: لا تقربا هذه الشجرة فأتى بلفظة تلكما و هي إشارة إلى
البعيد بعد ما أتى بلفظة هذه و هي إشارة إلى القريب و عبر بلفظة نادى و هي
للبعيد بعد ما أتى بلفظة قال و هي للقريب فافهم.
و اعلم أن ظاهر قوله تعالى: "و قلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو و لكم في الأرض
مستقر و متاع إلى حين" الآية و قوله تعالى: "قال فيها تحيون و فيها تموتون و
منها تخرجون" الآية أن نحوة هذه الحياة بعد الهبوط تغاير نحوها في الجنة قبل
الهبوط، و أن هذه حياة ممتزجة حقيقتها بحقيقة الأرض ذات عناء و شقاء يلزمها أن
يتكون الإنسان في الأرض ثم يعاد بالموت إليها ثم يخرج بالبعث منها.
فالحياة الأرضية تغاير حياة الجنة فحياتها حياة سماوية غير أرضية.
و من هنا يمكن أن يجزم أن جنة آدم كانت في السماء، و إن لم تكن جنة الآخرة جنة
الخلد التي لا يخرج منها من دخل فيها.
نعم: يبقى الكلام في معنى السماء و لعلنا سنوفق لاستيفاء البحث منه، إن شاء
الله تعالى.
بقي هنا شيء و هو القول في خطيئة آدم فنقول ظاهر الآيات في بادي النظر و إن كان
تحقق المعصية و الخطيئة منه (عليه السلام) كما قال تعالى: فتكونا من الظالمين،
و قال تعالى: و عصى آدم ربه فغوى الآية، و كما اعترف به فيما حكاه الله عنهما:
"ربنا ظلمنا أنفسنا و إن لم تغفر لنا و ترحمنا لنكونن من الخاسرين الآية.
لكن التدبر في آيات القصة و الدقة في النهي الوارد عن أكل الشجرة يوجب القطع
بأن النهي المذكور لم يكن نهيا مولويا و إنما هو نهي إرشادي يراد به الإرشاد و
الهداية إلى ما في مورد التكليف من الصلاح و الخير لا البعث و الإرادة
المولوية.
و يدل على ذلك أولا: أنه تعالى فرع على النهي في هذه السورة و في سورة الأعراف
أنه ظلم حيث قال: "لا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين" ثم بدله في سورة طه
من قوله: فتشقى مفرعا إياه على ترك الجنة.
و معنى الشقاء التعب ثم ذكر بعده كالتفسير له: "إن لك أن لا تجوع فيها و لا
تعرى، و أنك لا تظمؤا فيها و لا تضحى" الآيات.
فأوضح أن المراد بالشقاء هو التعب الدنيوي، الذي تستتبعه هذه الحياة الأرضية من
جوع و عطش و عراء و غير ذلك.
فالتوقي من هذه الأمور هو الموجب للنهي الكذائي لا جهة أخرى مولوية فالنهي
إرشادي، و مخالفة النهي الإرشادي لا توجب معصية مولوية، و تعديا عن طور
العبودية و على هذا فالمراد بالظلم أيضا في ما ورد من الآيات ظلمهما على
أنفسهما في إلقائها في التعب و التهلكة دون الظلم المذموم في باب الربوبية و
العبودية و هو ظاهر.
و ثانيا: أن التوبة، و هي الرجوع من العبد إذا استتبع القبول من جانب المولى
أوجب كون الذنب كلا ذنب، و المعصية كأنها لم تصدر، فيعامل مع العاصي التائب
معاملة المطيع المنقاد، و في مورد فعله معاملة الامتثال و الانقياد.
و لو كان النهي عن أكل الشجرة مولويا و كانت التوبة توبة عن ذنب عبودي و رجوعا
عن مخالفة نهي مولوي كان اللازم رجوعهما إلى الجنة مع أنهما لم يرجعا.
و من هنا يعلم أن استتباع الأكل المنهي للخروج من الجنة كان استتباعا ضروريا
تكوينيا، نظير استتباع السم للقتل و النار للإحراق، كما في موارد التكاليف
الإرشادية لا استتباعا من قبيل المجازاة المولوية في التكاليف المولوية، كدخول
النار لتارك الصلاة، و استحقاق الذم و استيجاب البعد في المخالفات العمومية
الاجتماعية المولوية.
و ثالثا: أن قوله تعالى: "قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع
هداي فلا خوف عليهم و لا هم يحزنون، و الذين كفروا و كذبوا بآياتنا أولئك أصحاب
النار هم فيها خالدون، الآيات".
و هو كلمة جامعة لجميع التشريعات التفصيلية التي أنزلها الله تعالى في هذه
الدنيا من طرق ملائكته و كتبه و رسله، يحكي عن أول تشريع شرع للإنسان في هذه
الدنيا التي هي دنيا آدم و ذريته، و قد وقع على ما يحكي الله تعالى بعد الأمر
الثاني بالهبوط و من الواضح أن الأمر بالهبوط أمر تكويني متأخر عن الكون في
الجنة و اقتراف الخطيئة، فلم يكن حين مخالفة النهي و اقتراب الشجرة لا دين
مشروع و لا تكليف مولوي فلم يتحقق عند ذلك ذنب عبودي، و لا معصية مولوية.
و لا ينافي ذلك كون خطاب اسجدوا للملائكة و لإبليس و هو قبل خطاب لا تقربا،
خطابا مولويا لأن المكلف غير المكلف.
فإن قلت: إذا كان النهي نهيا إرشاديا لا نهيا مولويا فما معنى عده تعالى فعلهما
ظلما و عصيانا و غواية؟.
قلت: أما الظلم فقد مر أن المراد به ظلمهما لأنفسهما في جنب الله تعالى، و أما
العصيان فهو لغة عدم الانفعال أو الانفعال بصعوبة كما يقال: كسرته فانكسر و
كسرته فعصى، و العصيان و هو عدم الانفعال عن الأمر أو النهي كما يتحقق في مورد
التكاليف المولوية كذلك يتحقق في مورد الخطابات الإرشادية.
و أما تعين معنى المعصية في هذه الأزمنة عندنا جماعة المسلمين في مخالفة مثل
صل، أم صم، أو حج، أو لا تشرب الخمر، أو لا تزن و نحو ذلك فهو تعين بنحو
الحقيقة الشرعية أو المتشرعة لا يضر بعموم المعنى بحسب اللغة و العرف العام
هذا.
و أما الغواية فهو عدم اقتدار الإنسان مثلا على حفظ المقصد و تدبير نفسه في
معيشته بحيث يناسب المقصد و يلائمه.
و واضح أنه يختلف باختلاف الموارد من إرشاد و مولوية.
فإن قلت: فما معنى التوبة حينئذ و قولهما: "و إن لم تغفر لنا و ترحمنا لنكونن
من الخاسرين؟".
قلت: التوبة كما مر هي الرجوع و الرجوع، يختلف بحسب اختلاف موارده.
فكما يجوز للعبد المتمرد عن أمر سيده و إرادته أن يتوب إليه، فيرد إليه مقامه
الزائل من القرب عنده كذلك يجوز للمريض الذي نهاه الطبيب نهيا إرشاديا عن أكل
شيء معين من الفواكه و المأكولات، و إنما كان ذلك منه مراعاة لجانب سلامته و
عافيته فلم ينته المريض عن نهيه فاقترفه فتضرر فأشرف على الهلاك.
يجوز أن يتوب إلى الطبيب ليشير إليه بدواء يعيده إلى سابق حاله و عافيته، فيذكر
له أن ذلك محتاج إلى تحمل التعب و المشقة و العناء و الرياضة خلال مدة حتى يعود
إلى سلامة المزاج الأولية بل إلى أشرف منها و أحسن، هذا.
و أما المغفرة و الرحمة و الخسران فالكلام فيها نظير الكلام في نظائرها في
اختلافها بحسب اختلاف مواردها، هذا.
بحث روائي
في تفسير القمي، عن أبيه رفعه قال: سئل الصادق (عليه السلام) عن جنة آدم أ من
جنان الدنيا كانت أم من جنان الآخرة؟ فقال (عليه السلام): كانت من جنان الدنيا
تطلع فيها الشمس و القمر، و لو كانت من جنان الآخرة ما خرج منها أبدا، قال
(عليه السلام): فلما أسكنه الله الجنة و أباحها له إلا الشجرة، لأنه خلق خلقة
لا يبقى إلا بالأمر و النهي و الغذاء و اللباس و الاكتنان و النكاح، و لا يدرك
ما ينفعه مما يضره إلا بالتوفيق، فجاءه إبليس فقال له إنكما إن أكلتما من هذه
الشجرة التي نهاكما الله عنها صرتما ملكين، و بقيتما في الجنة أبدا، و إن لم
تأكلا منها أخرجكما الله من الجنة، و حلف لهما أنه لهما ناصح كما قال الله عز و
جل حكاية عنه: "ما نهيكما ربكما عن هذه الشجرة - إلا أن تكونا ملكين أو تكونا
من الخالدين - و قاسمهما إني لكما لمن الناصحين فقبل آدم قوله فأكلا من الشجرة"
فكانا كما حكى الله، فبدت لهما سوآتهما، و سقط عنهما ما ألبسهما الله من الجنة"
و أقبلا يستتران من ورق الجنة، و ناديهما ربهما: أ لم أنهكما عن تلكما الشجرة -
و أقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين، فقالا كما حكى الله عنهما ربنا ظلمنا
أنفسنا - و إن لم تغفر لنا و ترحمنا لنكونن من الخاسرين فقال الله لهما: اهبطوا
بعضكم لبعض عدو - و لكم في الأرض مستقر و متاع إلى حين، قال: أي يوم القيامة،
قال: فهبط آدم على الصفا، و إنما سميت الصفا لأن صفي الله أنزل عليها، و نزلت
حواء على المروة و إنما سميت المروة لأن المرأة أنزلت عليها، فبقي آدم أربعين
صباحا ساجدا يبكي على الجنة، فنزل عليه جبرئيل، فقال أ ليس خلقك الله بيده و
نفخ فيك من روحه و أسجد لك ملائكته؟ قال: بلى، و أمرك أن لا تأكل من الشجرة
فعصيته؟ قال آدم: إن إبليس حلف لي بالله كاذبا.
أقول: و في كون جنة آدم من جنان الدنيا روايات أخر من طريق أهل البيت و إن اتحد
بعضها مع هذه الرواية في إبراهيم بن هاشم.
و المراد بكونها من جنان الدنيا كونها برزخية في مقابل جنان الخلد، كما يشير
إليه بعض فقرات الرواية كقوله: فهبط آدم على الصفا، و كقوله: و نزلت حواء على
المروة، و كقوله: إن المراد بحين يوم القيامة فيكون المكث في البرزخ بعد الموت
مكثا في الأرض طبقا لما في آيات البعث من القرآن من عد المكث البرزخي مكثا في
الأرض كما يشير إليه قوله تعالى: "قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين، قالوا لبثنا
يوما أو بعض يوم فاسأل العادين، قال إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون":
المؤمنون - 114، و قوله تعالى: "و يوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير
ساعة كذلك كانوا يؤفكون، قال الذين أوتوا العلم و الإيمان لقد لبثتم في كتاب
الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث و لكنكم كنتم لا تعلمون": الروم - 56، على
أن عدة من الروايات المنقولة عن أهل البيت تدل على أن الجنة كانت في السماء، و
أنهما نزلا من السماء، على أن المستأنس بلسان الروايات لا يستوحش من كون الجنة
المذكورة في السماء و الهبوط منها إلى الأرض مع كونهما خلقا في الأرض و عاشا
فيها كما ورد في كون الجنة في السماء و وقوع سؤال القبر فيه و كونه روضة من
رياض الجنة أو حفرة من حفر النار و غير ذلك و أرجو أن يرتفع هذا الإشكال و ما
يشاكله من الإشكالات فيما سيأتي من البحث في السماء إن شاء الله العزيز.
و أما كيفية مجيء إبليس إليهما، و ما اتخذه فيه من الوسيلة فالصحاح و المعتبرة
من الروايات خالية عن بيانها.
و في بعض الأخبار ذكر الحية و الطاووس عونين لإبليس في إغوائه إياهما لكنها غير
معتبرة، أضربنا عن ذكرها و كأنها من الأخبار الدخيلة، و القصة مأخوذة من
التوراة و هاك لفظ التوراة في القصة بعينه: قال في الفصل الثاني من السفر الأول
و هو سفر الخليقة: و إن الله خلق آدم ترابا من الأرض، و نفخ في أنفه الحياة،
فصار آدم نفسا ناطقا، و غرس الله جنانا في عدن شرقيا، و صير هناك آدم الذي
خلقه، و أنبت الله من الأرض كل شجرة، حسن منظرها و طيب مأكلها، و شجرة الحياة
في وسط الجنان، و شجرة معرفة الخير و الشر، و جعل نهرا يخرج من عدن ليسقي
الجنان، و من ثم يفترق فيصير أربعة أرؤس، اسم أحدها النيل، و هو المحيط بجميع
بلد ذويلة الذي فيه الذهب، و ذهب ذلك البلد جيد، ثم اللؤلؤ و حجارة البلور، و
اسم النهر الثاني جيحون، و هو المحيط بجميع بلد الحبشة، و اسم النهر الثالث
دجلة، و هو يسير في شرقي الموصل، و اسم النهر الرابع هو الفرات، فأخذ الله آدم
و أنزله في جنان عدن ليفلحه و ليحفظه و أمر الله آدم قائلا: من جميع شجر الجنان
جائز لك أن تأكل، و من شجرة معرفة الخير و الشر لا تأكل، فإنك في يوم أكلك منها
تستحق أن تموت، و قال الله لا خير في بقاء آدم وحده، اصنع له عونا حذاه، فحشر
الله من الأرض جميع وحش الصحراء و طير السماء و أتى بها إلى آدم ليريه ما
يسميها، فكل ما سمى آدم من نفس حية باسم هو اسمه إلى الآن. فأسمى آدم أسماء
لجميع البهائم و طير السماء و جميع وحش الصحراء و لم يجد آدم عونا حذاه، فأوقع
سباتا على آدم لئلا يحس فنام، فاستل إحدى أضلاعه و سد مكانها اللحم، و بنى الله
الضلع التي أخذ امرأة، فأتى بها إلى آدم، و قال آدم هذه المرة شاهدت عظما من
عظامي، و لحما من لحمي، و ينبغي أن تسمى امرأة لأنها من أمري أخذت، و لذلك يترك
الرجل أباه و أمه و يلزم زوجته، فيصيران كجسد واحد. و كانا جميعا عريانين آدم و
زوجته و لا يحتشمان من ذلك. الفصل الثالث: و الثعبان صار حكيما من جميع حيوان
الصحراء الذي خلقه الله فقال للمرأة أ يقينا قال الله لا تأكلا من جميع شجر
الجنان؟ قالت المرأة للثعبان من ثمر شجر الجنان نأكل، لكن من ثمر الشجرة التي
في وسطه قال الله لا تأكلا منه، و لا تدنوا به كيلا تموتا، قال لهما لستما
تموتان، إن الله عالم أنكما في يوم أكلكما منه تنفتح عيونكما و تصيران
كالملائكة عارفي الخير و الشر بزيادة، فلما رأت المرأة أن الشجرة طيبة المأكل
شهية المنظر، مني للعقل، أخذت من ثمرها فأكلت، و أعطت بعلها فأكل معها، فانفتحت
عيونهما فعلما أنهما عريانان فخيطا من ورق التين ما صنعا منه مآزر، فسمعا صوت
الله مارا في الجنان برفق في حركة النهار، فاستخبأ آدم و زوجته من قبل صوت الله
خباء فيما بين شجر الجنان، فنادى الله آدم، و قال له مقررا: أين أنت؟ قال: إني
سمعت صوتك في الجنان فاتقيت إذ أنا عريان فاستخبأت، قال: من أخبرك أنك عريان؟ أ
من الشجرة التي نهيتك عن الأكل منها أكلت؟ قال آدم المرأة التي جعلتها معي
أعطتني من الشجرة فأكلت، قال الله للمرأة: ما ذا صنعت؟ قالت: الثعبان أغراني
فأكلت قال الله للثعبان: إذ صنعت هذا بعلم فأنت ملعون من جميع البهائم و جميع
وحش الصحراء و على صدرك تسلك و ترابا تأكل طول أيام حياتك، و أجعل عداوة بينك و
بين المرأة، و بين نسلك و نسلها، و هو يشدخ منك الرأس و أنت تلذعه في العقب، و
قال للمرأة: لأكثرن مشقتك و حملك، و بمشقة تلدين الأولاد، و إلى بعلك يكون
قيادك، و هو يتسلط عليك. و قال لآدم: إذ قبلت قول زوجتك فأكلت من الشجرة التي
نهيتك قائلا لا تأكل منها ملعونة الأرض بسببك بمشقة تأكل منها طول حياتك، و
شوكا و دردرا تنبت لك، و تأكل عشب الصحراء، بعرق وجهك تأكل الطعام إلى حين
رجوعك إلى الأرض التي أخذت منها لأنك تراب و إلى التراب ترجع، و سمى آدم زوجته
حواء لأنها كانت أم كل حي ناطق، و صنع الله لآدم و زوجته ثياب بدن و ألبسهما،
ثم قال الله، هو ذا آدم قد صار كواحد منا يعرف معرفة الخير و الشر، و الآن فيجب
أن يخرج من الجنان لئلا يمد يده فيأخذ من شجرة الحياة أيضا و يأكل فيحيا إلى
الدهر، فطرده الله من جنان عدن ليفلح الأرض التي أخذ منها، و لما طرد آدم أسكن
من شرقي جنان عدن الملائكة، و لمع سيف متقلب ليحفظوا طريق شجرة الحياة. انتهى
الفصل من التوراة العربية المطبوعة سنة 1811 ميلادية، و أنت بتطبيق القصة من
الطريقين أعني طريقي القرآن و التوراة ثم التأمل في الروايات الواردة من طريقي
العامة و الخاصة تعثر بحقائق من الحال غير أنا أضربنا عن الغور في بيانها و
البحث عنها لأن الكتاب غير موضوع لذلك.
و أما دخول إبليس الجنة و إغواؤه فيها و هي أولا مقام القرب و النزاهة و
الطهارة و قد قال تعالى: "لا لغو فيها و لا تأثيم": الطور - 23، و هي ثانيا في
السماء و قد قال تعالى خطابا لإبليس حين إبائه عن السجدة لآدم: "فاخرج منها
فإنك رجيم": الحجر - 34، و قال تعالى: "فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها":
الأعراف - 12.
فالجواب عن الأول كما ربما يقال إن القرآن إنما نفى ما نفى من وقوع اللغو و
التأثيم في الجنة عن جنة الخلد التي يدخلها المؤمنون في الآخرة و جنة البرزخ
التي يدخلونها بعد الموت و الارتحال عن دار التكليف، و أما الجنة التي أدخل
فيها آدم و زوجته و ذلك قبل استقرار الإنسان في دار التكليف و توجه الأمر و
النهي فالقرآن لم ينطق فيه بشيء من ذلك، بل الأمر بالعكس و ناهيك في ذلك ما ذكر
من وقوع عصيان آدم فيه على أن اللغو و التأثيم من الأمور النسبية التي لا تتحقق
إلا بعد حلول الإنسان الدنيا و توجه الأمر و النهي إليه و تلبسه بالتكليف.
و الجواب عن الثاني أولا: أن رجوع الضمير في قوله: فاخرج منها، و قوله: فاهبط
منها إلى السماء غير ظاهر من الآية لعدم ذكر السماء في الكلام سابقا و عدم
العهد بها، فمن الجائز أن يكون المراد الخروج من الملائكة و الهبوط منها ببعض
العنايات، أو الخروج و الهبوط من المنزلة و الكرامة.
و ثانيا: أنه يجوز أن يكون الأمر بالهبوط و الخروج كناية عن النهي عن المقام
هناك بين الملائكة، لا عن أصل الكون فيها بالعروج و المرور من غير مقام و
استقرار كالملائكة، و يلوح إليه بل يشهد به ما ربما يظهر من الآيات من استراق
السمع، و قد روي: أن الشياطين كانوا يعرجون قبل عيسى إلى السماء السابعة فلما
ولد عيسى منعوا من السماء الرابعة فما فوقها، ثم لما ولد النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) منعوا من جميع السماوات و خطفوا بالخطفة.
و ثالثا: أن كلامه تعالى خال عن دخول إبليس الجنة فلا مورد للاستشكال، و إنما
ورد ما ورد من حديث الدخول في الروايات و هي آحاد غير متواترة مع احتمال النقل
بالمعنى من الراوي.
و أقصى ما يدل من كلامه تعالى على دخوله الجنة قوله تعالى حكاية عن إبليس "و
قال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين":
"الأعراف - 19" حيث أتي بلفظة هذه و هي للإشارة من قريب، لكنها لو دلت هاهنا
على القرب المكاني لدل في قوله تعالى: "و لا تقربا هذه الشجرة فتكونا من
الظالمين": الأعراف - 18، على مثله فيه تعالى.
و في العيون، عن عبد السلام الهروي قال: قلت للرضا (عليه السلام): يا بن رسول
الله أخبرني عن الشجرة التي أكل منها آدم و حواء ما كانت؟ فقد اختلف الناس فيها
فمنهم من يروي أنها الحنطة، و منهم من يروي أنها شجرة الحسد، فقال كل ذلك حق،
قلت: فما معنى هذه الوجوه على اختلافها؟ فقال: يا بن الصلت إن شجرة الجنة تحمل
أنواعا، و كانت شجرة الحنطة و فيها عنب و ليست كشجرة الدنيا، و إن آدم لما
أكرمه الله تعالى بإسجاد ملائكته له، و بإدخاله الجنة، قال: هل خلق الله بشرا
أفضل مني؟ فعلم الله عز و جل ما وقع في نفسه فناداه ارفع رأسك يا آدم و انظر
إلى ساق العرش، فنظر إلى ساق العرش فوجد عليه مكتوبا لا إله إلا الله محمد رسول
الله علي بن أبي طالب أمير المؤمنين و زوجته فاطمة سيدة نساء العالمين و الحسن
و الحسين سيدا شباب أهل الجنة، فقال آدم: يا رب من هؤلاء؟ فقال عز و جل يا آدم
هؤلاء ذريتك. و هم خير منك و من جميع خلقي، و لو لا هم ما خلقتك و لا الجنة و
لا النار و لا السماء و لا الأرض، فإياك أن تنظر إليهم بعين الحسد فأخرجك عن
جواري، فنظر إليهم بعين الحسد و تمنى منزلتهم فتسلط عليه الشيطان حتى أكل من
الشجرة التي نهي عنها، و تسلط على حواء فنظرت إلى فاطمة بعين الحسد حتى أكلت من
الشجرة كما أكل آدم فأخرجهما الله تعالى من جنته و أهبطهما من جواره إلى الأرض.
أقول: و قد ورد هذا المعنى في عدة روايات بعضها أبسط من هذه الرواية و أطنب و
بعضها أجمل و أوجز.
و هذه الرواية كما ترى سلم ع فيها أن الشجرة كانت شجرة الحنطة و شجرة الحسد و
أنهما أكلا من شجرة الحنطة ثمرتها و حسدا و تمنيا منزلة محمد و آله، (صلى الله
عليه وآله وسلم)، و مقتضى المعنى الأول أن الشجرة كانت أخفض شأنا من أن يميل
إليها و يشتهيها أهل الجنة، و مقتضى الثاني أنها كانت أرفع شأنا من أن ينالها
آدم و زوجته كما في رواية أخرى أنها كانت شجرة علم محمد و آله.
و بالجملة لهما معنيان مختلفان، لكنك بالرجوع إلى ما مر من أمر الميثاق تعرف أن
المعنى واحد و أن آدم (عليه السلام) أراد أن يجمع بين التمتع بالجنة و هو مقام
القرب من الله و فيها الميثاق أن لا يتوجه إلى غيره تعالى و بين الشجرة المنهية
التي فيها تعب التعلق بالدنيا فلم يتيسر له الجمع بينهما فهبط إلى الأرض و نسي
الميثاق فلم يجتمع له الأمران و هو منزلة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ثم
هداه الله بالاجتباء و نزعه بالتوبة من الدنيا، و ألحقه بما كان نسيه من
الميثاق فافهم.
و قوله (عليه السلام): فنظر إليهم بعين الحسد و تمنى منزلتهم فيه بيان أن
المراد بالحسد تمني منزلتهم دون الحسد الذي هو أحد الأخلاق الرذيلة.
و بالبيان السابق يرتفع التنافي الذي يتراءى بين ما رواه في كمال الدين، عن
الثمالي عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: إن الله عز و جل عهد إلى آدم أن لا
يقرب الشجرة فلما بلغ الوقت الذي في علم الله أن يأكل منها نسي فأكل منها و ذلك
قول الله عز و جل: و لقد عهدنا إلى آدم فنسي و لم نجد له عزما، الحديث.
و بين ما رواه العياشي، في تفسيره عن أحدهما: و قد سئل كيف أخذ الله آدم
بالنسيان؟ فقال: إنه لم ينس و كيف ينسى و هو يذكر و يقول له إبليس: ما نهيكما
ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين الحديث.
و الوجه فيه واضح.
و في أمالي الصدوق، عن أبي الصلت الهروي، قال: لما جمع المأمون لعلي بن موسى
الرضا (عليهما السلام): أهل المقالات من أهل الإسلام و الديانات من اليهود و
النصارى و المجوس و الصابئين و سائر أهل المقالات فلم يقم أحد حتى ألزم حجته
كأنه ألقم حجرا فقام إليه علي بن محمد بن الجهم فقال له: يا بن رسول الله أ
تقول بعصمة الأنبياء؟ قال: بلى، قال: فما تعمل بقول الله عز و جل: "و عصى آدم
ربه فغوى؟" إلى أن قال: فقال مولانا الرضا (عليه السلام): ويحك يا علي اتق الله
و لا تنسب إلى أنبياء الله الفواحش و لا تتأول كتاب الله عز و جل برأيك فإن
الله عز و جل يقول: "و ما يعلم تأويله إلا الله و الراسخون في العلم". أما قوله
عز و جل في آدم: "و عصى آدم ربه فغوى" فإن الله عز و جل خلق آدم حجة في أرضه و
خليفة في بلاده لم يخلقه للجنة، و كانت المعصية من آدم في الجنة لا في الأرض
لتتم مقادير أمر الله عز و جل فلما أهبط إلى الأرض و جعل حجة و خليفة عصم بقوله
عز و جل: "إن الله اصطفى آدم و نوحا - و آل إبراهيم و آل عمران على العالمين"
الحديث.
أقول: قوله: و كانت المعصية في الجنة إلخ إشارة إلى ما قدمناه أن التكليف
الديني المولوي لم يكن مجعولا في الجنة بعد، و إنما موطنه الحياة الأرضية
المقدرة لآدم (عليه السلام) بعد الهبوط إلى الأرض، فالمعصية إنما كانت معصية
لأمر إرشادي غير مولوي فلا وجه لتعسف التأويل في الحديث على ما ارتكبه بعض.
و في العيون، عن علي بن محمد بن الجهم، قال: حضرت مجلس المأمون و عنده علي بن
موسى فقال له المأمون: يا ابن رسول الله أ ليس من قولك إن الأنبياء معصومون؟
فقال بلى، قال فما معنى قول الله تعالى: فعصى آدم ربه فغوى؟ قال: إن الله تعالى
قال لآدم: اسكن أنت و زوجك الجنة و كلا منها رغدا حيث شئتما - و لا تقربا هذه
الشجرة و أشار لهما إلى شجرة الحنطة فتكونا من الظالمين، و لم يقل لهما: لا
تأكلا من هذه الشجرة و لا مما كان من جنسها فلم يقربا تلك الشجرة و لم يأكلا
منها و إنما أكلا من غيرها لما أن وسوس الشيطان إليهما و قال: ما نهيكما ربكما
عن هذه الشجرة و إنما نهاكما أن تقربا غيرها و لم ينهكما أن تأكلا منها إلا أن
تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين و قاسمهما إني لكما لمن الناصحين و لم يكن
آدم و حواء شاهدا قبل ذلك
|