قرآن، حديث، دعا |
زندگينامه |
کتابخانه |
احكام و فتاوا |
دروس |
معرفى و اخبار دفاتر |
ديدارها و ملاقات ها |
پيامها |
فعاليتهاى فرهنگى |
کتابخانه تخصصى فقهى |
نگارخانه |
اخبار |
مناسبتها |
صفحه ويژه |
|
و ثانيا: أن كون الاستطاعة و الإطاعة راجعين بحسب المادة إلى الطوع مقابل الكره لا يستلزم وجوب جريان الاستعمال على رعاية معنى المادة الأصلية في جميع التطورات الطارئة عليها فكثير من المواد هجرت خصوصية معناها الأصلي في ما عرضها من الهيئات الاشتقاقية نظير ضرب و أضرب و قبل و أقبل و قبل و قابل و استقبل بحسب التبادر الاستعمالي.
و اعتبار المادة الأصلية في البحث عن الاشتقاقات اللغوية لا يراد به إلا الاستعلام مبلغ ما يعيش المادة الأصلية بين مشتقاتها بحسب عروض تطورات الاشتقاق عليها، أو انقضاء أمد حياتها بحسب المعنى و تبدله إلى معنى آخر لا أن يلغى حكم التطورات و يحفظ المعنى الأصلي ما جرى اللسان، فافهم ذلك.
فالاعتبار في اللفظ بما يفيده بحسب الاستعمال الدائر الحي لا بما تفيده المادة اللغوية و قد استعمل لفظ الاستطاعة في كلامه تعالى في أزيد من أربعين موضعا، و هو في الجميع بمعنى القدرة، و استعمل لفظ الإطاعة فيما يقرب من سبعين موضعا و هو في الجميع بمعنى الانقياد، و استعمل لفظ الطوع فيما استعمل و هو مقابل الكره فكيف يسوغ أن يؤخذ لفظ يستطيع بمعنى يطيع ثم يطيع بمعنى الطوع ثم يحكم بأن يستطيع في الآية بمعنى يرضى؟.
و أما حديث أجاب و استجاب فقد استعملا معا في كلامه تعالى بمعنى واحد و ورد استعمال الاستجابة في موارد هي أضعاف ما استعملت فيه الإجابة فإنك تجد الاستجابة فيما يقرب من ثلاثين موضعا، و لا تجد الإجابة في أكثر من عشرة مواضع فكيف يقاس عليها أطاع و استطاع؟.
و كونهما بمعنى واحد ليس إلا لانطباق عنايتين مختلفتين على مورد واحد فمعنى أجاب أن الجواب تجاوز عن المسئول إلى السائل، و معنى استجاب أن المسئول طلب من نفسه الجواب فأداه إلى السائل.
و من هنا يظهر أن الذي فسر به الاستجابة و هو قوله: و معنى استجاب سئل شيئا و طلب منه أن يجيب إليه فأجاب ليس على ما ينبغي فإن باب الاستفعال هو طلب "فعل" لا طلب "افعل" و هو ظاهر.
و ثالثا: أن السياق لا يلائم هذا المعنى إذ لو كان معنى قولهم: "هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء" إنه هل يرضى ربك أن نسأله نحن أو تسأله أنت أن ينزل علينا مائدة من السماء، و كان غرضهم من هذا السؤال أو النزول أن يزدادوا إيمانا و يطمئنوا قلبا فما وجه توبيخ عيسى (عليه السلام) لهم بقوله: "اتقوا الله إن كنتم مؤمنين"؟ و ما وجه وعيده تعالى الكافرين بها بعذاب لا يعذبه أحدا من العالمين، و هم لم يقولوا إلا حقا و لم يسألوا إلا مسألة مشروعة، و قد قال تعالى: "و اسألوا الله من فضله": "النساء: 32".
قوله تعالى: "قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين" توبيخ منه (عليه السلام) لهم لما يشتمل عليه ظاهر كلامهم من الاستفهام عن استطاعة ربه على إنزال المائدة فإن كلامهم مريب على أي حال.
و أما على ما قدمناه من أن الأصل في مؤاخذتهم الذي يترتب عليه الوعيد الشديد في آخر الآيات هو أنهم سألوا آية حيث لا حاجة إليها و اقترحوا بما في معنى العبث بآيات الله سبحانه، ثم تعبيرهم بما يتبادر من ظاهره كونهم كأنهم لم يعقدوا قلوبهم على القدرة الربوبية فوجه توبيخه (عليه السلام) لهم بقوله: "اتقوا الله إن كنتم مؤمنين" أظهر.
قوله تعالى: "قالوا نريد أن نأكل منها و تطمئن قلوبنا و نعلم أن قد صدقتنا و نكون عليها من الشاهدين" السياق ظاهر في أن قولهم هذا عذر اعتذروا به للتخلص من توبيخه (عليه السلام) و ما ذكروه ظاهر التعلق باقتراحهم الآية بنزول المائدة دون ما يظهر من قولهم: هل يستطيع ربك أن ينزل"، من المعنى الموهم للشك في إطلاق القدرة، و هذا أيضا أحد الشواهد على أن ملاك المؤاخذة في المقام هو أنهم سألوا آية على آية من غير حاجة إليها.
و أما قولهم: "نريد أن نأكل منها، إلخ" فقد عدوا في بيان غرضهم من اقتراح الآية أمورا أربعة: أحدها: الأكل و كان مرادهم بذكره أنهم ما أرادوا به اللعب بآيات الله بل أرادوا أن يأكلوا منها، و هو غرض عقلائي، و قد تقدم أن هذا القول منهم كالتسليم لاستحقاقهم التوبيخ من عيسى (عليه السلام) و الوعيد الشديد من الله لمن يكفر منهم بآية المائدة.
و ذكر بعضهم: أن المراد بذكر الأكل إبانة أنهم في حاجة شديدة إلى الطعام و لا يجدون ما يسد حاجتهم.
و ذكر آخرون أن المراد نريد أن نتبرك بأكله.
و أنت تعلم أن المعنى الذي قرر في كل من هذين الوجهين أمر لا يدل عليه مجرد ذكر الأكل، و لو كان مرادهم ذلك و هو أمر يدفع به التوبيخ لكان مقتضى مقام الاعتذار التصريح بذكره، و حيث لم يذكر شيء من ذلك مع حاجة المقام إلى ذكره لو كان مرادا فليس المراد بالأكل إلا مطلق معناه من حيث إنه غرض عقلائي هو أحد أجزاء غرضهم في اقتراح نزول المائدة.
الثاني: اطمئنان القلب و هو سكونه باندفاع الخطورات المنافية للخلوص و الحضور.
و الثالث: العلم بأنه (عليه السلام) قد صدقهم فيما بلغهم عن ربه، و المراد بالعلم حينئذ هو العلم اليقيني الذي يحصل في القلب بعد ارتفاع الخطورات و الوساوس النفسانية عنه، أو العلم بأنه قد صدقهم فيما وعدهم من ثمرات الإيمان كاستجابة الدعاء كما ذكره بعضهم، لكن يبعده أن الحواريين ما كانوا يسألون إنزال المائدة من السماء إلا بدعاء عيسى (عليه السلام) و مسألته، و بالجملة بإعجاز منه (عليه السلام) و قد كانوا رأوا منه (عليه السلام) آيات كثيرة فإنه (عليه السلام) لم يزل في حياته قرينا لآيات إلهية كبرى، و لم يرسل إلى قومه و لم يدعهم دعوة إلا مع آيات ربه فلم يزالوا يرون ثمرات إيمانه من استجابة الدعاء إن كان المراد الثمرة التي هي استجابة دعائه (عليه السلام)، و إن كان المراد الثمرة التي هي استجابة دعائهم أنفسهم فإنهم لم يسألوا نزول الآية بدعاء أنفسهم، و لم تنزل إلا بدعاء عيسى (عليه السلام).
الرابع: أن يكونوا عليها من الشاهدين عند ما يحتاج إلى الشهادة كالشهادة عند المنكرين، و الشهادة عند الله يوم القيامة، فالمراد بها مطلق الشهادة، و يمكن أن يكون المراد مجرد الشهادة عند الله سبحانه كما وقع في بعض قولهم الذي حكاه الله تعالى إذ قال: "ربنا آمنا بما أنزلت و اتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين": "آل عمران: 53".
فقد تحصل أنهم - فيما اعتذروا به - ضموا أمورا جميلة مرضية إلى غرضهم الآخر الذي هو الأكل من المائدة السماوية ليحسموا به مادة الحزازة عن اقتراحهم الآية بعد مشاهدة الآيات الكافية فأجابهم عيسى (عليه السلام) إلى مسألتهم بعد الإصرار.
قوله تعالى: "قال عيسى بن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا و آخرنا و آية منك و ارزقنا و أنت خير الرازقين" خلط (عليه السلام) نفسه بهم في سؤال المائدة، و بدأ بنداء ربه بلفظ عام فقال: "اللهم ربنا" و قد كانوا قالوا له: "هل يستطيع ربك" ليوافق النداء الدعاء.
و قد توحد هذا الدعاء من بين جميع الأدعية و المسائل المحكية في القرآن عن الأنبياء (عليهم السلام) بأن صدر "باللهم ربنا" و غيره من أدعيتهم مصدر بلفظ "رب" أو "ربنا" و ليس إلا لدقة المورد و هول المطلع، نعم يوجد في أقسام الثناء المحكية نظير هذا التصدير كقوله: "قل الحمد لله": "النمل: 59" و قوله: "قل اللهم مالك الملك": "آل عمران: 26" و قوله: "قل اللهم فاطر السماوات و الأرض": "الزمر: 46".
ثم ذكر (عليه السلام) عنوانا لهذه المائدة النازلة هو الغرض له و لأصحابه من سؤال نزولها و هو أن تنزل فتكون عيدا له و لجميع أمته، و لم يكن الحواريون ذكروا فيما اقترحوه أنهم يريدون عيدا يخصون به لكنه (عليه السلام) عنون ما سأله بعنوان عام و قلبه في قالب حسن ليخرج عن كونه سؤالا للآية مع وجود آيات كبرى إلهية بين أيديهم و تحت مشاهدتهم، و يكون سؤالا مرضيا عند الله غير مصادم لمقام العزة و الكبرياء فإن العيد من شأنه أن يجمع الكلمة، و يجدد حياة الملة، و ينشط نفوس العائدين، و يعلن كلما عاد عظمة الدين.
و لذلك قال: "عيدا لأولنا و آخرنا" أي أول جماعتنا من الأمة و آخر من يلحق بهم - على ما يدل عليه السياق - فإن العيد من العود و لا يكون عيدا إلا إذا عاد حينا بعد حين، و في الخلف بعد السلف من غير تحديد.
و هذا العيد مما اختص به قوم عيسى (عليه السلام) كما اختصوا بنوع هذه الآية النازلة على ما تقدم بيانه.
و قوله: "و آية منك" لما قدم مسألة العيد و هي مسألة حسنة جميلة لا عتاب عليها عقبها بكونها آية منه تعالى كأنه من الفائدة الزائدة المترتبة على الغرض الأصلي غير مقصودة وحدها حتى يتعلق بها عتاب أو سخط، و إلا فلو كانت مقصودة وحدها من حيث كونها آية لم تخل مسألتها من نتيجة غير مطلوبة فإن جميع المزايا الحسنة التي كان يمكن أن يراد بها كانت ممكنة الحصول بالآيات المشهودة كل يوم منه (عليه السلام) للحواريين و غيرهم.
و قوله: "و ارزقنا و أنت خير الرازقين" و هذه فائدة أخرى عدها مترتبة على ما سأله من العيد من غير أن تكون مقصودة بالذات، و قد كان الحواريون ذكروه مطلوبا بالذات حيث قالوا: "نريد أن نأكل منها" فذكروه مطلوبا لذاته و قدموه على غيره، لكنه (عليه السلام) عده غير مطلوب بالذات و أخره عن الجميع و أبدل لفظ الأكل من لفظ الرزق فأردفه بقوله "و أنت خير الرازقين".
و الدليل على ما ذكرنا أنه (عليه السلام) جعل ما أخذوه أصلا فائدة مترتبة أنه سأل أولا لجميع أمته و نفسه، و هو سؤال العيد الذي إضافة إلى سؤالهم فصار بذلك كونها آية من الله و رزقا وصفين خاصين للبعض دون البعض كالفائدة المترتبة غير الشاملة.
فانظر إلى أدبه (عليه السلام) البارع الجميل مع ربه، و قس كلامه إلى كلامهم - و كلا الكلامين يؤمان نزول المائدة - تر عجبا فقد أخذ (عليه السلام) لفظ سؤالهم فأضاف و حذف، و قدم و أخر، و بدل و حفظ حتى عاد الكلام الذي ما كان ينبغي أن يوجه به إلى حضرة العزة و ساحة العظمة أجمل كلام يشتمل على أدب العبودية، فتدبر في قيود كلامه (عليه السلام) تر عجبا.
قوله تعالى: "قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين" قرأ أهل المدينة و الشام و عاصم "منزلها" بالتشديد و الباقون "منزلها" بالتخفيف - على ما في المجمع -، و التخفيف أوفق لأن الإنزال هو الدال على النزول الدفعي، و كذلك نزلت المائدة، و أما التنزيل فاستعماله الشائع إنما هو في النزول التدريجي كما تقدم كرارا.
و قوله تعالى: "إني منزلها عليكم" وعد صريح بالإنزال و خاصة بالنظر إلى الإتيان به في هيئة اسم الفاعل دون الفعل، و لازم ذلك أن المائدة قد نزلت عليهم.
و ذكر بعض المفسرين أنها لم تنزل كما روي ذلك في الدر المنثور، و مجمع البيان، و غيرهما عن الحسن و مجاهد: قالا: إنها لم تنزل و إن القوم لما سمعوا الشرط استعفوا عن نزولها و قالوا: لا نريدها و لا حاجة لنا فيها فلم تنزل.
و الحق أن الآية ظاهرة الدلالة على النزول فإنها تتضمن الوعد الصريح بالنزول و حاشاه تعالى أن يجود لهم بالوعد الصريح و هو يعلم أنهم سيستعفون عنها فلا تنزل، و الوعد الذي في الآية صريح و الشرط الذي في الآية يتضمن تفرع العذاب و ترتبه على الكفر بعد النزول، و بعبارة أخرى: الآية تتضمن الوعد المطلق بالإنزال ثم تفريع العذاب على الكفر لا أنها تشتمل على الوعد بالإنزال على تقدير قبولهم العذاب على الكفر، حتى يرتفع موضوع الوعد عند عدم قبولهم الشرط فلا تنزل المائدة باستعفائهم عن نزولها، فافهم.
و كيف كان فاشتمال وعده تعالى بإنزال المائدة على الوعيد الشديد بعذاب الكافرين بها منهم ليس ردا لدعاء عيسى (عليه السلام) و إنما هو استجابة له غير أنه لما كان ظاهر الاستجابة بعد الدعاء - على ما له من السياق - أن هذه الآية تكون رحمة مطلقة منه لهم يتنعم بها آخرهم و أولهم، قيد تعالى هذا الإطلاق بالشرط الذي شرط عليهم، و محصله أن هذا العيد الذي خصهم الله به لا ينتفع به جميعهم بل إنما ينتفع به المؤمنون المستمرون على الإيمان منهم، و أما الكافرون بها فيستضرون بها أشد الضرر.
فالآيتان في كلامه تعالى من حيث إطلاق الدعاء بحسب لازمه و تقييد الاستجابة كقوله تعالى: "و إذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال و من ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين": "البقرة - 142" و قوله تعالى حكاية عن موسى (عليه السلام): "أنت ولينا فاغفر لنا و ارحمنا و أنت خير الغافرين، و اكتب لنا في هذه الدنيا حسنة و في الآخرة إنا هدنا إليك قال عذابي أصيب به من أشاء و رحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون و يؤتون الزكاة و الذين هم بآياتنا يؤمنون": "الأعراف: 165".
و قد عرفت فيما تقدم أن السبب الأصلي في هذا العذاب الموعود الذي يختص بهم إنما هو اقتراحهم آية هي في نوعها مختصة بهم لا يشاركهم فيها غيرهم من الأمم فإذا أجيبوا إلى ذلك أوعدوا على الكفر عذابا لا يشاركهم فيها غيرهم كما شرفوا بمثل ذلك.
و من هنا يظهر أن المراد بالعالمين عالمو جميع الأمم عالمو زمانهم فإن ذلك مرتبطا بمن يمتازون عنهم من الناس و هم جميع الأمم لا أهل زمان عيسى (عليه السلام) خاصة من أمم الأرض.
و من هناك يظهر أيضا أن قوله "فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين" و إن كان وعيدا شديدا بعذاب بئيس لكن الكلام غير ناظر إلى كون العذاب فوق جميع العذابات و العقوبات في الشدة و الألم، و إنما هو مسوق لبيان انفراد العذاب في بابه، و اختصاصهم من بين الأمم به.
بحث روائي
في المجمع،: في قوله تعالى: "هل يستطيع ربك" عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: معنى الآية هل تستطيع أن تدعو ربك.
أقول: و روي هذا المعنى من طريق الجمهور عن بعض الصحابة و التابعين كعائشة و سعيد بن جبير، و هو راجع إلى ما استظهرناه من معنى الآية فيما تقدم فإن السؤال عن استطاعة عيسى (عليه السلام) إنما يصح بالنسبة إلى استطاعته بحسب الحكمة و المصلحة دون استطاعته بحسب أصل القدرة.
و في تفسير العياشي، عن عيسى العلوي عن أبيه عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: المائدة التي نزلت على بني إسرائيل مدلاة بسلاسل من ذهب عليها تسعة أحوتة و تسعة أرغفة.
أقول: و في لفظ آخر تسعة أنوان و تسعة أرغفة "و الأنوان" جمع نون و هو الحوت.
و في المجمع، عن عمار بن ياسر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: نزلت المائدة خبزا و لحما، و ذلك لأنهم سألوا عيسى طعاما لا ينفد يأكلون منها، قال: فقيل لهم: فإنها مقيمة لكم ما لم تخونوا و تخبئوا و ترفعوا فإن فعلتم ذلك عذبتم، قال: فما مضى يومهم حتى خبئوا و رفعوا و خانوا.
أقول: و رواه في الدر المنثور، عن الترمذي و ابن جرير و ابن أبي حاتم و ابن الأنباري و أبي الشيخ و ابن مردويه عن عمار بن ياسر عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) و في آخره: فمسخوا قردة و خنازير.
قال في الدر المنثور،: و أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم من وجه آخر عن عمار بن ياسر موقوفا: مثله، قال الترمذي: و الوقف أصح، انتهى.
و الذي ذكر في الخبر من أنهم سألوا طعاما لا ينفد يأكلون منها لا ينطبق على الآية ذاك الانطباق بناء على ظاهر ما حكاه الله تعالى من قولهم: "و نكون عليها من الشاهدين" فإن الطعام الذي لا يقبل النفاد لا يحتاج إلى شاهد يشهد عليه إلا أن يراد من الشهادة الشهادة عند الله يوم القيامة.
و الذي ذكر فيه من مسخهم قردة و خنازير ظاهر السياق أن ذلك هو العذاب الموعود لهم، و هذا مما يفتح بابا آخر من المناقشة فيه فإن ظاهر قوله تعالى: "فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين" اختصاص هذا العذاب بهم، و قد نص القرآن الشريف على مسخ آخرين بالقردة، قال تعالى: "و لقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين": "البقرة: 65" و المروي في هذا الباب عن بعض طرق أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أنهم مسخوا خنازير.
و في تفسير العياشي، عن الفضيل بن يسار عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: إن الخنازير من قوم عيسى سألوا نزول المائدة فلم يؤمنوا بها فمسخهم الله خنازير.
و فيه،: عن عبد الصمد بن بندار قال: سمعت أبا الحسن (عليه السلام) يقول: كانت الخنازير قوما من القصارين كذبوا بالمائدة فمسخوا خنازير.
أقول: و فيما رواه في الكافي، عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن محمد بن الحسن الأشعري عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: الفيل مسخ كان ملكا زناء، و الذئب مسخ كان أعرابيا ديوثا، و الأرنب مسخ كانت امرأة تخون زوجها و لا تغتسل من حيضها، و الوطواط مسخ كان يسرق تمور الناس، و القردة و الخنازير قوم من بني إسرائيل اعتدوا في السبت، و الجريث و الضب فرقة من بني إسرائيل لم يؤمنوا حيث نزلت المائدة على عيسى بن مريم فتاهوا فوقعت فرقة في البحر و فرقة في البر، و الفأرة فهي الفويسقة، و العقرب كان نماما، و الدب و الوزغ و الزنبور كانت لحاما يسرق في الميزان.
و الرواية لا تعارض الروايتين السابقتين لإمكان أن يمسخ بعضهم خنزيرا و بعضهم جريثا و ضبا غير أن هذه الرواية لا تخلو عن شيء آخر و هو ما تضمنه من مسخ أصحاب السبت قردة و خنازير، و الآية الشريفة المذكورة و نظيرتها ما في سورة الأعراف إنما تذكر ان مسخهم قردة بسياق كالمنافي لغيرها، و الله أعلم.
5 سورة المائدة - 116 - 120
وَ إِذْ قَالَ اللّهُ يَعِيسى ابْنَ مَرْيَمَ ءَ أَنت قُلْت لِلنّاسِ اتخِذُونى وَ أُمِّىَ إِلَهَينِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سبْحَنَك مَا يَكُونُ لى أَنْ أَقُولَ مَا لَيْس لى بِحَقٍ إِن كُنت قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فى نَفْسى وَ لا أَعْلَمُ مَا فى نَفْسِك إِنّك أَنت عَلّمُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْت لهَُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنى بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللّهَ رَبى وَ رَبّكُمْ وَ كُنت عَلَيهِمْ شهِيداً مّا دُمْت فِيهِمْ فَلَمّا تَوَفّيْتَنى كُنت أَنت الرّقِيب عَلَيهِمْ وَ أَنت عَلى كلِّ شىْءٍ شهِيدٌ (117) إِن تُعَذِّبهُمْ فَإِنهُمْ عِبَادُك وَ إِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنّك أَنت الْعَزِيزُ الحَْكِيمُ (118) قَالَ اللّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصدِقِينَ صِدْقُهُمْ لهَُمْ جَنّتٌ تجْرِى مِن تحْتِهَا الأَنْهَرُ خَلِدِينَ فِيهَا أَبَداً رّضىَ اللّهُ عَنهُمْ وَ رَضوا عَنْهُ ذَلِك الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) للّهِ مُلْك السمَوَتِ وَ الأَرْضِ وَ مَا فِيهِنّ وَ هُوَ عَلى كلِّ شىْءٍ قَدِيرُ (120)
بيان
مشافهة الله رسوله عيسى بن مريم في أمر ما قالته النصارى في حقه، و كان الغرض من سرد الآيات ذكر ما اعترف به (عليه السلام) و حكاه عن نفسه في حياته الدنيا: أنه لم يكن من حقه أن يدعي لنفسه ما ليس فقد كان بعين الله التي لا تنام و لا تزيغ و أنه لم يتعد ما حده الله سبحانه له فلم يقل إلا ما أمر أن يقول ذلك، و اشتغل بالعمل بما كلفه الله أن يشتغل به و هو أمر الشهادة، و قد صدقه الله تعالى فيما ذكره من حق الربوبية و العبودية.
و بهذا تنطبق الآيات على الغرض النازل لأجله السورة، و هو بيان الحق المجعول لله على عباده أن يفوا بالعهد الذي عقدوه و أن لا ينقضوا الميثاق فليس لهم أن يسترسلوا كيفما أرادوا و أن يرتعوا رغدا حيث شاءوا فلم يملكوا هذا النوع من الحق من قبل ربهم، و لا أنهم قادرون على ذلك من حيال أنفسهم، و لله ملك السماوات و الأرض و ما فيهن و هو على كل شيء قدير، و بذلك تختتم السورة.
قوله تعالى: "و إذ قال الله يا عيسى بن مريم، أ أنت قلت للناس اتخذوني و أمي إلهين من دون الله" "إذ" ظرف متعلق بمحذوف يدل عليه المقام، و المراد به يوم القيامة لقوله تعالى فيها: "قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم" و قول عيسى (عليه السلام) فيها "و كنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم".
و قد عبرت الآية عن مريم بالأمومة فقيل: "اتخذوني و أمي إلهين" دون أن يقال: "اتخذوني و مريم إلهين للدلالة على عمدة حجتهم في الألوهية و هو ولادته منها بغير أب، فالبنوة و الأمومة الكذائيتين هما الأصل في ذلك فالتعبير به و بأمه أدل و أبلغ من التعبير بعيسى و مريم.
و "دون" كلمة تستعمل بحسب المال في معنى الغير، قال الراغب: يقال للقاصر عن الشيء "دون" قال بعضهم: هو مقلوب من الدنو، و الأدون الدني، و قوله تعالى: "لا تتخذوا بطانة من دونكم" أي من لم يبلغ منزلتكم في الديانة، و قيل: في القرابة، و قوله: "و يغفر ما دون ذلك" أي ما كان أقل من ذلك، و قيل: ما سوى ذلك، و المعنيان متلازمان، و قوله: أ أنت قلت للناس اتخذوني و أمي إلهين من دون الله" أي غير الله، انتهى.
و قد استعمل لفظ "من دون الله" كثيرا في القرآن في معنى الإشراك دون الاستقلال بمعنى أن المراد من اتخاذ إله أو إلهين أو آلهة من دون الله هو أن يتخذ غير الله شريكا لله سبحانه في ألوهيته لا أن يتخذ غير الله إلها و تنفي ألوهية الله سبحانه فإن ذلك من لغو القول الذي لا يرجع إلى محصل فإن الذي أثبته حينئذ يكون هو الإله سبحانه و ينفي غيره، و يعود النزاع إلى بعض الأوصاف التي أثبتها فمثلا لو قال قائل: "إن الإله هو المسيح و نفى إله المسيح عاد مفاد كلامه إلى إثبات الإله تعالى و توصيفه بصفات المسيح البشرية، و لو قال قائل: إن الأصنام أو أرباب الأصنام آلهة و نفى الله تعالى و تقدس فإنه يقول بأن للعالم إلها فقد أثبت الله سبحانه لكنه نعته بنعت الكثرة و التعدد فقد جعل لله شركاء، أو يقول كما يقوله النصارى: إن الله ثالث ثلاثة أي واحد هو ثلاث و ثلاث هو واحد.
و من قال: إن مبدأ العالم هو الدهر أو الطبيعة و نفى أن يكون للعالم إله تعالى عن ذلك فقد أثبت للعالم صانعا و هو الله عز اسمه لكنه نعته بنعوت القصور و النقص و الإمكان.
و من نفى أن يكون لهذا النظام العجيب مبدأ أصلا و نفى العلية و التأثير على الرغم من صريح ما تقضي به فطرته فقد أثبت عالما موجودا ثابتا لا يقبل النفي و الانعدام من رأس أي هو واجب الثبوت و حافظ ثبوته و وجوده إما نفسه و ليس لطرو الزوال و التغير إلى أجزائه، و إما غيره فهو الله تبارك و تعالى، و له نعوت كماله.
فتبين أن الله سبحانه لا يقبل النفي أصلا إلا بظاهر من القول من غير أن يكون له معنى معقول.
و الملاك في ذلك كله أن الإنسان إنما يثبت الإله تعالى من جهة الحاجة العامة في العالم إلى من يقيم أود وجوده و يدبر أمر نظامه ثم يثبت خصوصيات وجوده فما أثبته من شيء لسد هذه الخلة و رفع تلك الحاجة فهو الله سبحانه ثم إذا أثبت إلها غيره أو أثبت كثرة فإما أن يكون قد أخطأ في تشخيص صفاته و ألحد في أسمائه، أو يثبت له شريكا أو شركاء تعالى عن ذلك، و أما نفيه و إثبات غيره فلا معنى له.
فظهر أن معنى قوله: "إلهين من دون الله" شريكين لله هما من غيره، و إن سلم أن الكلمة لا تؤدي معنى الشركة بوجه، قلنا: إن معناها لا يتعدى اتخاذ إلهين هما من سنخ غير الله سبحانه و أما كون ذلك مقارنا لنفي ألوهيته تعالى أو إثباتها فهو مسكوت عنه لا يدل عليه لفظ و إنما يعلم من خارج، و النصارى لا ينفون ألوهيته تعالى مع اتخاذهم المسيح و أمه إلهين من دون الله سبحانه.
و ربما استشكل بعضهم الآية بأن النصارى غير قائلين بألوهية مريم العذراء (عليها السلام)، و ذكروا في توجيهها وجوها.
لكن الذي يجب أن يتنبه عليه أن الآية إنما ذكرت اتخاذهم إياها إلهة و لم يذكر قولهم بأنها إلهة بمعنى التسمية، و اتخاذ الإله غير القول بالألوهية إلا من باب الالتزام، و اتخاذ الإله يصدق بالعبادة و الخضوع العبودي قال تعالى: "أ فرأيت من اتخذ إلهه هواه": "الجاثية: 23" و هذا المعنى مأثور عن أسلاف النصارى مشهود في أخلافهم.
قال الآلوسي في روح المعاني،: إن أبا جعفر الإمامي حكى عن بعض النصارى أنه كان فيما مضى قوم يقال لهم: "المريمية" يعتقدون في مريم أنها إله.
و قال في تفسير المنار،: أما اتخاذهم المسيح إلها فقد تقدم في مواضع من تفسير هذه السورة، و أما أمه فعبادتها كانت متفقا عليها في الكنائس الشرقية و الغربية بعد قسطنطين، ثم أنكرت عبادتها فرقة البروتستانت التي حدثت بعد الإسلام بعدة قرون.
إن هذه العبادة التي توجهها النصارى إلى مريم والدة المسيح (عليه السلام) منها ما هو صلاة ذات دعاء و ثناء و استغاثة و استشفاع، و منها صيام ينسب إليها و يسمى باسمها، و كل ذلك يقرن بالخضوع و الخشوع لذكرها و لصورها و تماثيلها، و اعتقاد السلطة الغيبية لها التي يمكنها بها في اعتقادهم أن تنفع و تضر في الدنيا و الآخرة بنفسها أو بواسطة ابنها، و قد صرحوا بوجوب العبادة لها، و لكن لا يعرف عن فرقة من فرقهم إطلاق كلمة "إله" عليها بل يسمونها "والدة الإله" و يصرح بعض فرقهم أن ذلك حقيقة لا مجاز.
و القرآن يقول هنا: إنهم اتخذوها و أمها إلهين، و الاتخاذ غير التسمية فهو يصدق بالعبادة و هي واقعة قطعا، و بين في آية أخرى أنهم قالوا: إن الله هو المسيح عيسى بن مريم، و ذلك معنى آخر، و قد فسر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله تعالى في أهل الكتاب: "اتخذوا أحبارهم و رهبانهم أربابا من دون الله" أنهم اتبعوهم فيما يحلون و يحرمون لا أنهم سموهم أربابا.
و أول نص صريح رأيته في عبادة النصارى لمريم عبادة حقيقية ما في كتاب "السواعي" من كتب الروم الأرثوذكس، و قد اطلعت على هذا الكتاب في دير يسمى "دير التلميد" و أنا في أول العهد بمعاهد التعليم، و طوائف الكاثوليك يصرحون بذلك و يفاخرون به.
و قد زين الجزويت في بيروت العدد التاسع من السنة السابعة لمجلتهم "المشرق" بصورتها و بالنقوش الملونة إذ جعلوه تذكارا لمرور خمسين سنة على إعلان البابا بيوس التاسع: أن مريم البتول حبل بها بلا دنس الخطية" و أثبتوا في هذا العدد عبادة الكنائس الشرقية لمريم كالكنائس الغربية.
و منه قول الأب "لويس شيخو" في مقالة له فيه عن الكنائس الشرقية: "أن تعبد الكنيسة الأرمنية للبتول الطاهرة أم الله لأمر مشهور" و قوله "قد امتازت الكنيسة القبطية بعبادتها للبتولة المغبوطة أم الله" انتهى كلامه.
و نقل أيضا بعض مقالة للأب "إنستاس الكرملي" نشرت في العدد الرابع عشر من السنة الخامسة من مجلة المشرق الكاثوليكية البيروتية قال تحت عنوان قدم "التعبد للعذراء" بعد ذكر عبارة سفر التكوين في عداوة الحية للمرأة و نسلها و تفسير المرأة بالعذراء: "أ لا ترى أنك لا ترى من هذا النص شيئا ينوه بالعذراء تنويها جليا إلى أن جاء ذلك النبي العظيم "إيليا" الحي فأبرز عبادة العذراء من حيز الرمز و الإبهام إلى عالم الصراحة و التبيان".
ثم فسر هذه الصراحة و التبيان بما في سفر الملوك الثالث بحسب تقسيم الكاثوليك من أن إيليا حين كان مع غلامه في رأس الكرمل أمره سبع مرات أن يتطلع نحو البحر فأخبره الغلام بعد تطلعه المرة السابعة: أنه رأى سحابة قدر راحة الرجل طالعة من البحر.
قال صاحب المقالة: فمن ذلك النشىء أول ما ينشأ من السحاب قلت: إن هو إلا صورة مريم على ما أحقه المفسرون بل و صورة الحبل بلا دنس أصلي، ثم قال: هذا أصل عبادة العذراء في الشرق العزيز، و هو يرتقي إلى المائة العاشرة قبل المسيح، و الفضل في ذلك عائد إلى هذا النبي إيليا العظيم، ثم قال: و لذلك كان أجداد الكرمليين أول من آمن أيضا بالإله يسوع بعد الرسل و التلامذة، و أول من أقام للعذراء معبدا بعد انتقالها إلى السماء بالنفس و الجسد، انتهى.
قوله تعالى: "قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق" إلى آخر الآية هذه الآية و التي تتلوها جواب المسيح عيسى بن مريم (عليهما السلام) عما سئل عنه و قد أتى (عليه السلام) فيه بأدب عجيب:.
فبدأ بتسبيحه تعالى لما فاجأه أن سمع ذكر ما لا يليق نسبته إلى ساحة الجلال و العظمة و هو اتخاذ الناس إلهين من دون الله شريكين له سبحانه فمن أدب العبودية أن يسبح العبد ربه إذا سمع ما لا ينبغي أن يسمع فيه تعالى أو ما يخطر بالبال تصور ذلك، و عليه جرى التأديب الإلهي في كلامه كقوله: "و قالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه": "الأنبياء: 26" و قوله: "و يجعلون لله البنات سبحانه": "النحل: 57".
ثم عاد إلى نفي ما استفهم عن انتسابه إليه، و هو أن يكون قد قال للناس اتخذوني و أمي إلهين من دون الله، و لم ينفه بنفسه بل بنفي سببه مبالغة في التنزيه فلو قال: "لم أقل ذلك أو لم أفعل" لكان فيه إيماء إلى إمكان وقوعه منه لكنه لم يفعل، لكن إذا نفاه بنفي سببه فقال: "ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق" كان ذلك نفيا لما يتوقف عليه ذلك القول، و هو أن يكون له أن يقول ذلك حقا فنفي هذا الحق نفي ما يتفرع عليه بنحو أبلغ نظير ما إذ قال المولى لعبده: لم فعلت ما لم آمرك أن تفعله؟ فإن أجاب العبد بقوله: "لم أفعل" كان نفيا لما هو في مظنة الوقوع، و إن قال: "أنا أعجز من ذلك" كان نفيا بنفي السبب و هو القدرة، و إنكارا لأصل إمكانه فضلا عن الوقوع.
و قوله: "ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق" إن كان لفظ "يكون" ناقصة فاسمها قوله: "أن أقول" و خبرها قوله: "لي" و اللام للملك، و المعنى: ما أملك ما لم أملكه و ليس من حقي القول بغير حق، و إن كانت تامة فلفظ "لي" متعلق بها و قوله: "أن أقول، إلخ" فاعلها، و المعنى: ما يقع لي القول بغير حق، و الأول من الوجهين أقرب، و على أي حال يفيد الكلام نفي الفعل بنفي سببه.
و قوله (عليه السلام): "إن كنت قلته فقد علمته" نفي آخر للقول المستفهم عنه لا نفيا لنفسه بنفسه بل بنفي لازمه فإن لازم وقوع هذا القول أن يعلم به الله لأنه الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض و لا في السماء و هو القائم على كل نفس بما كسبت، المحيط بكل شيء.
و هذا الكلام منه (عليه السلام) يتضمن أولا فائدة إلقاء القول مع الدليل من غير أن يكتفي بالدعوى المجردة و ثانيا الإشعار بأن الذي كان يعتبره في أفعاله و أقواله هو علم الله سبحانه من غير أن يعبأ بغيره من خلقه علموا أو جهلوا، فلا شأن له معهم.
و بلفظ آخر السؤال إنما يصح طبعا في ما كان مظنة الجهل فيراد به نفي الجهل و إفادة العلم، إما لنفس السائل إذا كان هو الجاهل بواقع الأمر، أو لغيره إذا كان السائل عالما و أراد أن يعلم غيره بما يعلم هو من واقع الأمر كما يحمل عليه نوع السؤال الواقع في كلامه تعالى، و قوله (عليه السلام) في الجواب في مثل المقام إن كنت قلته فقد علمته" إرجاع للأمر إلى علمه تعالى و إشعار أنه لا يعتبر شيئا في أفعاله و أقواله غير علمه تعالى.
ثم أشار بقوله: "تعلم ما في نفسي و لا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب" ليكون تنزيها لعلمه تعالى عن مخالطة الجهل إياه و هو و إن كان ثناء أيضا في نفسه لكنه غير مقصود لأن المقام ليس بمقام الثناء بل مقام التبري عن انتساب ما نسب إليه.
فقوله (عليه السلام): "تعلم ما في نفسي" توضيح لنفوذ العلم الذي ذكره في قوله: "إن كنت قلته فقد علمته" و بيان أن علمه تعالى بأعمالنا و هو الملك الحق يومئذ ليس من قبيل علم الملوك منا بأحوال رعيته بارتفاع أخبار المملكة إليه ليعلم بشيء و يجهل بشيء، و يستحضر حال بعض و يغفل عن حال بعض، بل هو سبحانه لطيف خبير بكل شيء و منها نفس عيسى بن مريم بخصوصه.
و مع ذلك لم يستوف حق البيان في وصف علمه تعالى فإنه سبحانه يعلم كل شيء، لا كعلم أحدنا بحال الآخر و علم الآخر بحاله، بل يعلم ما يعلم بالإحاطة به من غير أن يحيط به شيء و لا يحيطون به علما فهو تعالى إله غير محدود و كل من سواه محدود مقدر لا يتعدى طور نفسه المحدود، و لذلك ضم (عليه السلام) إلى الجملة جملة أخرى فقال: "تعلم ما في نفسي و لا أعلم ما في نفسك".
أما قوله: "إنك أنت علام الغيوب" ففيه بيان العلة لقوله: "تعلم ما في نفسي" "إلخ"، و فيه استيفاء حق البيان من جهة أخرى و هو رفع توهم أن حكم العلم في قوله: "تعلم ما في نفسي و لا أعلم ما في نفسك" مقصور بما بينه و بين ربه لا يطرد في كل شيء فبين بقوله: "إنك أنت علام الغيوب" أن العلم التام بجميع الغيوب منحصر فيه فما كان عند شيء من الأشياء و هو غيب عن غيره فهو معلوم لله سبحانه و هو محيط به.
و لازم ذلك أن لا يعلم شيء من الأشياء بغيبه تعالى و لا بغيب غيره الذي هو تعالى عالم به لأنه مخلوق محدود لا يتعدى طور نفسه فهو علام جميع الغيوب، و لا يعلم شيء غيره تعالى بشيء من الغيوب لا الكل و لا البعض.
على أنه لو أحيط من غيبه تعالى بشيء فإن أحاط تعالى به لم يكن هذا المحيط محيطا حقيقة بل محاطا له تعالى ملكه الله بمشيئته أن يحيط بشيء من ملكه من غير أن يخرج بذلك من ملكه كما قال تعالى: "و لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء": "البقرة: 255".
و إن لم يحط سبحانه تعالى بما أحاط به كان مضروبا بحد فكان مخلوقا تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
قوله تعالى: "ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي و ربكم" لما نفى (عليه السلام) القول المسئول عنه عن نفسه بنفي سببه أولا نفاه ببيان وظيفته التي لم يتعدها ثانيا فقال: "ما قلت لهم إلا ما أمرتني به" "إلخ"، و أتى فيه بالحصر بطريق النفي و الإثبات ليدل على الجواب بنفي ما سئل عنه و هو القول: "اتخذوني و أمي إلهين من دون الله".
و فسر ما أمره به ربه من القول بقوله: "أن اعبدوا الله" ثم وصف الله سبحانه بقوله: "ربي و ربكم" لئلا يبقى أدنى شائبة من الوهم في أنه عبد رسول يدعو إلى الله ربه و رب جميع الناس وحده لا شريك له.
و على هذه الصراحة كان يسلك عيسى بن مريم (عليهما السلام) في دعوته ما دعاهم إلى التوحيد على ما يحكي عنه القرآن الشريف، قال تعالى حكاية عنه: "إن الله هو ربي و ربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم": "الزخرف: 64" و قال: "و إن الله ربي و ربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم": "مريم: 36".
قوله تعالى: "و كنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم و أنت على كل شيء شهيد" ثم ذكر (عليه السلام) وظيفته الثانية من جانب الله سبحانه و هو الشهادة على أعمال أمته كما قال تعالى: "و يوم القيامة يكون عليهم شهيدا": "النساء: 195".
يقول (عليه السلام) ما كان لي من الوظيفة فيهم إلا الرسالة إليهم و الشهادة على أعمالهم: أما الرسالة فقد أديتها على أصرح ما يمكن، و أما الشهادة فقد كنت عليها ما دمت فيهم، و لم أتعد ما رسمت لي من الوظيفة فأنا براء من أن أكون ألقي إليهم أن اتخذوني و أمي إلهين من دون الله.
و قوله: "فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم" الرقوب و الرقابة هو الحفظ، و المراد به في المقام بدلالة السياق هو الحفظ على الأعمال، و كأنه أبدل الشهيد من الرقيب احترازا عن تكرر اللفظ بالنظر إلى قوله بعد: "و أنت على كل شيء شهيد"، و لا نكتة تستدعي الإتيان بلفظ "الشهيد" ثانيا بالخصوص.
و اللفظ أعني قوله: "كنت أنت الرقيب عليهم" يدل على الحصر، و لازمه أنه تعالى كان شهيدا ما دام عيسى (عليه السلام) شهيدا و شهيدا بعده فشهادته (عليه السلام) كانت وساطة في الشهادة لا شهادة مستقلة على حد سائر التدبيرات الإلهية التي وكل عليها بعض عباده ثم هو على كل شيء وكيل كالرزق و الإحياء و الإماتة و الحفظ و الدعوة و الهداية و غيرها، و الآيات الشريفة في ذلك كثيرة لا حاجة إلى إيرادها.
و لذلك عقب (عليه السلام) قوله: "فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم" بقوله: "و أنت على كل شيء شهيد" ليدل بذلك على أن الشهادة على أعمال أمته التي كان يتصداها ما دام فيهم كانت حصة يسيرة من الشهادة العامة المطلقة التي هي شهادة الله سبحانه على شيء فإنه تعالى شهيد على أعيان الأشياء و على أفعالها التي منها أعمال عباده، التي منها أعمال أمة عيسى ما دام فيهم و بعد توفيه، و هو تعالى شهيد مع الشهداء و شهيد بدونهم.
و من هنا يظهر أن الحصر صادق في حقه تعالى مع قيام الشهداء على شهادتهم فإنه (عليه السلام) حصر الشهادة بعد توفيه في الله سبحانه مع أن لله بعده شهداء من عباده و رسله و هو (عليه السلام) يعلم ذلك.
و من الدليل على ذلك بشارته (عليه السلام) بمجيء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) - على ما يحكيه القرآن - بقوله: "يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة و مبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد": "الصف: 6" و قد نص القرآن على كون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من الشهداء قال تعالى: "و جئنا بك على هؤلاء شهيدا": "النساء: 41".
على أن الله سبحانه حكى عنه هذا الحصر: "فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم" و لم يرده بالإبطال فالله سبحانه هو الشهيد لا غير مع وجود كل شهيد أي إن حقيقة الشهادة هي لله سبحانه كما أن حقيقة كل كمال و خير هو لله سبحانه، و أن ما يملكه غيره من كمال أو خير أو حسن فإنما هو بتمليكه تعالى من غير أن يستلزم هذا التمليك انعزاله تعالى عن الملك و لا زوال ملكه و بطلانه، و عليك بالتدبر في أطراف ما ذكرناه.
فبان بما أورده من بيان حاله المحكي عنه في الآيتين أنه بريء مما قاله الناس في حقه و أن لا عهدة عليه فيما فعلوه، و لذلك ختم (عليه السلام) كلامه بقوله: "إن تعذبهم فإنهم عبادك" إلى آخر الآية.
قوله تعالى: "إن تعذبهم فإنهم عبادك و إن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم" لما اتضح بما أقام (عليه السلام) من الحجة أن لم يكن له من الوظيفة بالنسبة إلى الناس إلا أداء الرسالة و القيام بأمر الشهادة، و أنه لم يشتغل فيهم إلا بذلك و لم يتعده إلى ما ليس له بحق فهو غير مسئول عما تفوهوا به من كلمة الكفر، بان أنه (عليه السلام) بمعزل عن الحكم الإلهي المتعلق بهم فيما بينهم و بين ربهم، و لذلك استأنف الكلام ثانيا فقال من غير وصل و تفريع: "إن تعذبهم، إلخ".
فالآية كالصالحة لأن يوضع موضع البيان السابق، و مفادها أنه لا عهدة علي فيما وقعوا فيه من الشرك الشنيع، و لم أداخل أمرهم في شيء حتى أشاركهم فيما بينك و بينهم من الحكم عليهم بما شئت فهم و حكمك في حقهم بما أردت، و هم و صنعك فيهم بما صنعت، إن تعذبهم بما حكمت فيمن أشرك بك بدخول النار فإنهم عبادك، و إليك تدبير أمرهم، و لك أن تسخط عليهم به لأنك المولى الحق و إلى المولى أمر عباده، و أن تغفر لهم بإمحاء أثر هذا الظلم العظيم فإنك أنت العزيز الحكيم لك حق العزة و الحكمة، و للعزيز و هو الذي له من الجدة و القدرة ما ليس لغيره و لا سيما إذا كان حكيما لا يقدم على أمر إلا إذا كان مما ينبغي أن يقدم عليه أن يغفر الظلم العظيم فإن العزة و الحكمة إذا اعتنقتا في فاعل لم تدعا قدرة تقوم عليه و لا مغمضة في ما قضى به من أمر.
و بما تقدم من البيان ظهر أولا: أن قوله: "فإنهم عبادك" بمنزلة أن يقال: "فإنك مولاهم الحق" على ما هو دأب القرآن من ذكر أسماء الله بعد ذكر أفعاله كما في آخر الآية.
و ثانيا: أن قوله: "فإنك أنت العزيز الحكيم" ليس مسوقا للحصر بل الإتيان بضمير الفصل و إدخال اللام في الخبر للتأكيد، و يئول معناه إلى أن عزتك و حكمتك مما لا يداخله ريب فلا مجال للاعتراض عليك إن غفرت لهم.
و ثالثا: أن المقام مقام المشافهة بين عيسى بن مريم (عليهما السلام) و ربه لما كان مقام ظهور العظمة الإلهية التي لا يقوم لها شيء كان مقتضاه أن يراعي فيه جانب ذلة العبودية للغاية بالتحرز عن الدلال و الاسترسال و التجنب عن مداخلة في الأمر بدعاء أو سؤال، و لذلك قال (عليه السلام): "و إن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم" و لم يقل "فإنك غفور رحيم" لأن سطوع آية العظمة و السطوة الإلهية القاهرة الغالبة على كل شيء لا يدع للعبد إلا أن يلتجىء إليه بما له من ذلة العبودية و مسكنة الرقية و المملوكية المطلقة، و الاسترسال عند ذلك ذنب عظيم.
|