(الصفحة441)
وفراغه به من غيره ، بخلاف الشيخ(قدس سره) الذي كان كثير الابتلاء ; لاشتغاله بالعلوم المختلفة والفنون المتعدّدة ، وتأليف الكتب والرسائل فيها كالفقه والاُصول والكلام والتفسير والرجال والحديث وغيرها ، خصوصاً مع وجود الاغتشاش في كتاب التهذيب وعدم كونه كتاب حديث محض ، ومع عدم نقل الوافي والوسائل الزيادة عنه .
وبالجملة : لم يثبت اشتمال الرواية على كلمة «الخمر» حتّى يستدلّ بها على ثبوت الحدّ في العصير .
وثانياً : أنّه لا خفاء في أنّ محطّ السؤال في الموثّقة ليس هو العصير العنبي الذي هو من العناوين الواقعيّة ، بل العصير العنبي الذي لم يعلم أنّه طبخ على الثلث . ومنشأ الاشتباه تعارض قول صاحبه مع عمله ، حيث أخبر بأنّه طبخ على الثلث ، وكان عمله الشرب على النصف .
وبعد ذلك يتوجّه على الاستدلال بها ما أفاده سيّدنا العلاّمة الإمام الماتن ـ دام ظلّه العالي ـ في رسالة النجاسات ممّا حاصله : إنّ الحمل لا يمكن أن يكون حقيقيّاً ; لأنّ الموضوع هو المغلي المشتبه بين كونه على الثلث أو النصف ، ولا يجوز حمل الخمر حقيقة على مشتبه الخمريّة فضلا عن العصير المشتبه ، ولا يمكن أن يكون تنزيليّاً ; لأنّ المشتبه لا يكون منزّلا منزلته واقعاً ، بحيث يكون محرّماً ونجساً واقعاً ولو كان مطبوخاً على الثلث ، فإن الظاهر من الرواية هو السؤال عن الحكم الظاهري ، وعن حال شهادة ذي اليد بالتثليث ، فالمراد بقوله (عليه السلام) : «خمر» أنّه خمر ظاهراً ويجب البناء على خمريّته للاستصحاب ، وهو وإن يكشف عن كون المغلي قبل التثليث نازلا منزلة الخمر في الجملة ، لكن لا يكشف عن إطلاق دليل التنزيل ; لأنّها لا تكون بصدد بيانه ، بل بصدد بيان حال الشكّ .
(الصفحة442)
وليس لأحد أن يقول : إنّه يمكن أن تكون الرواية بصدد بيان أمرين : أحدهما : تنزيل العصير منزلة الخمر . والآخر : التعبّد ببقاء خمريّته ; لأنّ ذلك غير معقول بجعل واحد .
كما أنّ دعوى أنّ قوله (عليه السلام) : «خمر» يكون خبراً من العصير المغلي قبل ذهاب ثلثيه إفادة للحكم الواقعي بالتنزيل ، وقوله (عليه السلام) : «لا تشربه» يكون نهياً عن شرب المشتبه ، فالموضوع مختلف لا تستأهل للجواب . وعلى فرض كونها بصدد التنزيل فإطلاقه أيضاً لا يخلو عن مناقشة(1) .
وممّا أفاده يظهر الخلل فيما اُفيد في مقام الجواب عن الاستدلال ممّا حاصله : إنّ تنزيل شيء منزلة شيء آخر قد يكون على وجه الإطلاق ومن جميع الجهات والآثار ، ففي مثله يثبت الجميع للمنزّل ، كما إذا ورد : العصير خمر فلا تشربه ، أو قال : لا تشرب العصير لأنّه خمر ; لأنّ لفظة «فاء» في المثال الأوّل ظاهرة في التفريع ودالّة على أنّ حرمة الشرب من الأمور المتفرّعة على التنزيل ، وكذا الحال في المثال الثاني ; لأنّه كالتنصيص بأنّ النهي عن شربه مستند إلى أنّه منزَّل منزلة الخمر شرعاً ، وبذلك يحكم بنجاسته ; لأنّها من أحد الآثار المترتّبة على الخمر ، وقد يكون التنزيل بلحاظ بعض الجهات والآثار ، ولا يكون ثابتاً على وجه الإطلاق كما هو الحال في المقام ; لأنّ قوله (عليه السلام) : «خمر لا تشربه» إنّما يدلّ على أنّ العصير منزّل منزلة الخمر من حيث حرمته فقط ، ولا دلالة له على تنزيله منزلتها من جميع الجهات لعدم اشتماله على لفظة «فاء» الظاهرة في التفريع ، حيث إنّ جملة «لا تشربه» وقوله (عليه السلام) : «خمر» بمجموعهما صفة للعصير ، أو من قبيل
(1) كتاب الطهارة للإمام الخميني: 3 / 204 ـ 205.
(الصفحة443)
الخبر بعد الخبر أو أنّها نهي ، وعلى أيّ حال لا دلالة له على التفريع حتّى يترتّب جميع الآثار(1) .
فإنّه يرد عليه أوّلا : أنّه لم ينزّل في الرواية العصير العنبي ـ بما أنّه عنوان من العناوين الواقعيّة ـ منزلة الخمر حتّى يبحث في إطلاق التنزيل وعدمه ويفرّق بين التعبيرين ، بل الموضوع في القضيّة الحمليّة التي يكون محمولها «خمر» هو العصير المغلي المشتبه بين كونه على الثلث أو على النصف ، ولو كان وصفه من هذه الجهة معلوماً للسائل لم يكن وجه لسؤاله ; لعلمه بحكم العصير قبل ذهاب الثلثين وبعده ، وعليه فحمل الخمر لا يمكن أن يكون على نحو الحقيقة ولا على نحو التنزيل ، بل بنحو الحكم الظاهري كما عرفت .
وثانياً : أنّه على فرض كون الموضوع هو العصير بالعنوان الواقعي ، نقول : لا فرق بين التعبيرين في الدّلالة على إطلاق التنزيل ، فإنّ الظاهر مع عدم ذكر «فاء» أيضاً أنّ النّهي عن الشرب يكون متفرّعاً على وصف الخمريّة التنزيليّة أو معلولا له ، وليس في متفاهم العرف فرق بينهما أصلا .
ثمّ لا يخفى عليك أنّ مسألة النجاسة وترتّب الحدّ على شرب العصير إنّما تكونان من واد واحد في الاستفادة من الرواية ; لابتنائها في كليهما على ثبوت إطلاق التنزيل وعدمه .
ثمّ إنّ الحكم بأولويّة منع ثبوت الحدّ فيما إذا غلى بالنار أو بالشمس ، إنّما هو لأجل وجود القول بالتفصيل في هذا المقام ، كما عن ابن حمزة في الوسيلة(2) ، حيث
(1) التنقيح في شرح العروة الوثقى: 2 / 108 ـ 109.
(2) الوسيلة: 365.
(الصفحة444)
حكم بنجاسة العصير الذي غلى بنفسه وحرمته إلى أن يصير خلاًّ ، وبخصوص حرمة ما إذا غلى بالنار أو بالشمس دون النجاسة ، وقد فصّلنا الكلام في هذا التفصيل وما يتعلّق به في البحث عن النجاسات من كتاب الطهارة(1) ، فراجع ، هذا في العصير العنبي .
وأمّا العصير الزبيبي والتمري ـ والمراد منهما ماء نبذ فيه أحدهما وصار ذا حلاوة لأجل المجاورة والملاصقة ـ فإن قلنا بعدم حرمته فلا تصل النوبة إلى الحدّ أصلا ، وإن قلنا بالحرمة فاللاّزم إقامة الدليل على ثبوت الحدّ فيهما ; لأنّ الحرمة أعمّ من ثبوت الحدّ ، ونقول :
المشهور كما عن الحدائق(2) وطهارة الشيخ(قدس سره) الحليّة(3) ، وذهب بعض إلى الحرمة ، ونسب ذلك إلى جملة من متأخّري المتأخّرين(4) . وعمدة ما يمكن الاستدلال به عليها ما رواه زيد النرسي في أصله : قال : سئل أبو عبدالله (عليه السلام) عن الزبيب يدقّ ويلقى في القدر ، ثمّ يصبّ عليه الماء ويوقد تحته ، فقال : لا تأكله حتّى يذهب الثلثان ويبقى الثلث ، فإنّ النار قد أصابته ، قلت : فالزبيب كما هو في القدر ، ويصبّ عليه الماء ثمّ يطبخ ويصفّى عنه الماء ، فقال : كذلك هو سواء ، إذا أدّت الحلاوة إلى الماء فصار حلواً بمنزلة العصير ثمّ نشّ من غير أن تصيبه النار فقد
(1) تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة، كتاب الطهارة (النجاسات وأحكامها): 154 ـ 179، المقام الثالث في نجاسة المسكرات.
(2) الحدائق الناضرة: 5 / 125.
(3) كتاب الطهارة للشيخ الأنصاري: 316.
(4) الدرّة النجفية (منظومة في الفقه): 53. وحكى في جواهر الكلام: 6 / 20 ـ 21 عن المصابيح للسيّد بحر العلوم.
(الصفحة445)
حرم ، وكذلك إذا أصابته النار فأغلاه فقد فسد(1) .
ورواها العلاّمة المجلسي(قدس سره) عن نسخة عتيقة وجدها بخطّ الشيخ منصور بن الحسن الآبي(2) ، والكلام في الرواية تارة من حيث السند ، وأُخرى من جهة المتن ، وثالثة من حيث المفاد والدلالة ، فهنا جهات ثلاث :
الجهة الاولى : فيما يتعلّق بالسند من جهة وثاقة زيد النرسي ، وأنّه هل يكون له أصل أم لا ، وأنّ النسخة التي وصلت بيد الناقلين عنها كالمجلسي(قدس سره) هل تكون مطابقة لنسخة الأصل أم لا؟
أمّا وثاقة زيد النرسي ، فالظاهر أنّه لم يرد في شيء من الكتب الرجاليّة والتراجم بالإضافة إليه مدح ولا قدح ، ومن أجله ربّما يقال بعدم وثاقته ; لأنّ الموثّق عبارة عمّن كان له توثيق في شيء من تلك الكتب ، مضافاً إلى أنّ الصدوق وشيخه ابن الوليد لم ينقلا عنه أصلا ، بل ضعّفا كتابه وقالا : إنّه موضوع وضعه محمّد بن موسى الهمداني(3) .
ولكنّه قد حاول العلاّمة الطباطبائي(قدس سره) تصحيح سندها استناداً إلى أنّ الشيخ قال في حقّه : له أصل ، وقال النجاشي : له كتاب(4) . قال : إنّ تسمية كتابه أصلا ممّا يشهد بحسن حاله واعتبار كتابه ، فإنّ الأصل في إصطلاح المحدّثين من أصحابنا بمعنى الكتاب المعتمد الذي لم ينتزع من كتاب آخر ، وليس بمعنى مطلق الكتاب ; ولهذا نقل عن المفيد(قدس سره) أنّه قال : صنّفت الإماميّة من عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى عهد
(1) مستدرك الوسائل: 17 / 38، كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأشربة المحرّمة ب2 ح1.
(2) بحار الأنوار: 79 / 177.
(3) راجع الفهرست للشيخ الطوسي: 130 رقم 300.
(4) رجال النجاشي: 174 رقم 460.
(الصفحة446)
أبي محمّد الحسن العسكري (عليه السلام) أربعمائة كتاب تسمّى «الأصول»(1) ومعلوم أنّ مصنّفات الإماميّة فيما ذكر من المدّة تزيد على ذلك بكثير ، كما يشهد به تتبّع كتب الرجال ، فالأصل أخصّ من الكتاب ، ولا يكفي فيه مجرّد عدم انتزاعه من كتاب آخر ، بل لابدّ أن يكون معتمداً .
وقال أيضاً : إنّ «الأصل» يؤخذ في كلمات الأصحاب مدحاً لصاحبه ووجهاً للاعتماد على ما تضمنّه ، وربّما يضعّفون بعض الروايات لعدم وجدان متنها في شيء من الأصول ـ إلى أن قال :ـ إنّ سكوت ابن الغضائري عن الطعن فيه مع طعنه في جملة من المشايخ يدلّ على وثاقته ، حتّى قيل : «السالم من رجال الحديث من سلم من طعنه» ، ومع ذلك لم يطعن فيه ، بل قال : إنّ زيد النرسي وزيد الزّراد قد رويا عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال أبو جعفر بن بابويه : إنّ كتابهما موضوع وضعه محمّد بن موسى السمان ، وغلط أبو جعفر في هذا القول ، فإنّي رأيت كتبهما عُتقاً مسموعة من محمّد بن أبي عمير(2) انتهى(3) .
ويؤيّده أنّ ابن أبي عمير قد روى عنه وعن كتابه(4) وهو لا يروي ولا يرسل إلاّ عن ثقة ، مع أنّه من أصحاب الإجماع الذين أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنهم(5) ، مضافاً إلى وقوعه في سند رواية كامل الزيارات(6) ، الذي ذكر في ديباجته
(1) معالم العلماء لابن شهراشوب: 3.
(2) حكى في مجمع الرجال: 3 / 84 عن ابن الغضائري.
(3) رجال السيّد بحر العلوم: 2 / 362 ـ 370.
(4) رجال النجاشي: 174 رقم 460.
(5) اختيار معرفة الرجال، المعروف برجال الكشي: 556 رقم 1050.
(6) كامل الزيارات: 510 ح795.
(الصفحة447)
أنّه لا يروي فيه إلاّ عن ثقات الأصحاب(1) ، وإلى أنّ الصدوق مع تضعيفه كتابه وإنكاره كونه له كما عرفت قد روى في الفقيه رواية عن ابن أبي عمير ، عن زيد النرسي(2) مع التزامه في ديباجته أن لا يورد فيه إلاّ ما كان حجّة بينه وبين الله تعالى(3) .
وهذا ممّا يوجب الترديد في نسبة التضعيف والإنكار إليه ، خصوصاً مع ملاحظة أنّ من جملة الأفراد التي وقعت في سند رواية كامل الزيارات ، المنتهية إلى زيد النرسي هو عليّ بن بابويه والد الصدوق وشيخ القمييّن ، الذي خاطبه الإمام العسكري (عليه السلام) في توقيعه بقوله : «يا شيخي ومعتمدي»(4) فإنّه كيف يمكن الجمع بين رواية الوالد عنه وبين اعتقاد الولد كونه موضوعاً .
ويمكن المناقشة في جميع ما ذكر ، فإنّ ثبوت الأصل له لا يستفاد منه الوثاقة بوجه ; لعدم ظهور هذا العنوان في المعنى المذكور ، ويحتمل قويّاً ـ تبعاً للماتن دام ظلّه(5) ـ أن يكون الأصل قسماً من الكتاب وقسيماً للمصنّف ; نظراً إلى أنّ الأصل عبارة عن الكتاب الموضوع لنقل الحديث ، سواء كان مسموعاً عن الإمام (عليه السلام) بلا واسطة أو معها ، وسواء كان مأخوذاً من كتاب واصل آخر أم لا ، وسواء كان معتمداً أم لا . وأمّا المصنّف فهو عبارة عن كتاب موضوع لغير نقل الحديث كالتاريخ والتفسير والرجال والكلام وغيرها ، والشاهد عليه مقابلة المصنّف
(1) كامل الزيارات: 37.
(2) من لا يحضره الفقيه: 4 / 207 ح5480.
(3) من لا يحضره الفقيه: 1 / 3.
(4) لؤلؤة البحرين: 384.
(5) كتاب الطهارة للإمام الخميني: 3 / 266.
(الصفحة448)
بالأصول في كثير من العبارات ، وجعل كليهما قسمين من الكتاب في بعضها ، وقول بعضهم في عدّة من الموارد : له أصل معتمد .
وبالجملة : لم يظهر كون المراد بالأصل ما ذكر .
وأمّا كون ابن أبي عمير من أصحاب الإجماع ، فلابدّ من بيان المراد من معقد هذا الإجماع المعروف ، فنقول :
الأصل في دعوى الإجماع هو الكشي في رجاله ، حيث قال في تسمية الفقهاء من أصحاب أبي جعفر وأبي عبدالله (عليهما السلام) : أجمعت العصابة على تصديق هؤلاء الأوّلين من أصحاب أبي جعفر وأبي عبدالله (عليهما السلام)وانقادوا لهم بالفقه ، فقالوا : أفقه الأوّلين ستّة : زرارة ، ومعروف بن خرّبوذ ، وبريد ، وأبو بصير الأسدي ، والفضيل ابن يسار ، ومحمّد بن مسلم الطائي . قالوا : وأفقه الستة زرارة ، وقال بعضهم مكان أبو بصير الأسدي : أبو بصير المرادي ; وهو ليث بن البختري(1) .
وقال في تسمية الفقهاء من أصحاب أبي عبدالله (عليه السلام) : أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ من هؤلاء وتصديقهم لما يقولون وأقرّوا لهم بالفقه ، من دون أولئك الستّة الذين عددناهم وسمّيناهم ، ستّة نفر : جميل بن درّاج ، وعبدالله بن مسكان ، وعبدالله بن بكير ، وحمّاد بن عثمان ، وحمّاد بن عيسى ، وأبان بن عثمان . قالوا : وزعم أبو إسحاق الفقيه ـ يعني ثعلبة بن ميمون ـ أنّ أفقه هؤلاء جميل بن درّاج ، وهم أحداث أصحاب أبي عبدالله (عليه السلام)(2) .
وقال في تسمية الفقهاء من أصحاب أبي إبراهيم وأبي الحسن الرضا (عليهما السلام) : أجمع
(1) إختيار معرفة الرجال، المعروف برجال الكشّي: 238 رقم 431.
(2) إختيار معرفة الرجال، المعروف برجال الكشّي: 375 رقم 705.
(الصفحة449)
أصحابنا على تصحيح ما يصحّ عن هؤلاء وتصديقهم ، وأقرّوا لهم بالفقه والعلم ، وهم ستّة نفر آخر دون الستّة نفر الذين ذكرناهم في أصحاب أبي عبدالله (عليه السلام) ، منهم : يونس بن عبدالرحمن ، وصفوان بن يحيى بيّاع السابري ، ومحمّد بن أبي عمير ، وعبدالله بن المغيرة ، والحسن بن محبوب ، وأحمد بن محمّد بن أبي نصر . وقال بعضهم مكان الحسن بن محبوب : الحسن بن عليّ بن فضّال وفضالة بن أيّوب ، وقال بعضهم مكان فضالة بن أيّوب : عثمان بن عيسى . وأفقه هؤلاء يونس بن عبدالرحمن وصفوان بن يحيى(1) .
وقد استفاد جماعة من هذه العبارات صحّة كلّ حديث رواه أحد هؤلاء إذا صحّ السند إليه ، حتّى إذا كانت روايته عمّن هو معروف بالفسق ، فضلا عمّا إذا كانت روايته عن مجهول أو مهمل ، أو كانت الرواية مرسلة ، ومن هذه الجماعة صاحب الوسائل في الفائدة السابعة من خاتمة كتابه ، قال : وناهيك بهذا الإجماع الشريف الذي قد ثبت نقله وسنده قرينة قطعيّة على ثبوت كلّ حديث رواه واحد من المذكورين مرسلا أو مسنداً عن ثقة ، أو ضعيف أو مجهول ; لإطلاق النصّ والإجماع كما ترى(2) .
هذا ، والظاهر أنّه لا مجال لهذه الاستفادة ; لأنّ مفاد العبارة الاُولى مجرّد إجماع العصابة على تصديق الستّة المذكورين أوّلا ، والانقياد لهم بالفقه والتصديق لا يلازم الإغماض عمّن روى عنه من جهة الفسق والجهالة والإرسال ; لأنّ مرجعه إلى عدم كون الستّة متّهمين بالكذب في نقلهم وروايتهم ، وأين هذا من صحّة
(1) إختيار معرفة الرجال، المعروف برجال الكشّي: 556 رقم 1050.
(2) وسائل الشيعة: 20 / 80 ـ 81.
(الصفحة450)
الرواية التي رووها ، وإن كان الواسطة بينهم وبين المعصوم غير واجد لشرط الاعتماد والحجيّة .
وأمّا العبارتان الأخيرتان المشتملتان على تصحيح ما يصحّ عنهم ، فالظاهر عدم كون المراد بهما أمراً زائداً على ما هو مفاد العبارة الاُولى ، بحيث كان مرجعهما ظاهراً إلى ثبوت مزيّة زائدة لغير الستّة الأوّلين ، مع تصريحه بوقوعهم في الدرجة العليا والمرتبة الأولى ، بل المراد منهما ما هو مفاد الأولى خصوصاً مع إضافة التصديق بعدهما ، ولا مجال للتنزّل في مقام المدح والمزيّة بذكر عدم الاتّهام بالكذب بالإضافة إلى أنفسهم بعد الحكم بتصديق من رووا عنه أيضاً ، كما لا يخفى .
والإنصاف أنّه لا يستفاد من عبارة معقد الإجماع إلاّ مجرّد كونهم صادقين في النقل غير متّهمين بالكذب ، والغرض من نقل الإجماع ثبوت الامتياز لهم بكونهم مورداً للاتّفاق على الوثاقة والاعتماد .
هذا ، ولو فرض كون معقد الإجماع صحّة ما يصحّ عنهم مطلقاً ، ولو كانت الواسطة فاقدة لبعض الخصوصيّات المعتبرة ، فنقول : هذا من مصاديق الإجماع المنقول بخبر الواحد ، وقد قرّر في الأصول عدم حجيّته ، فلا يمكن لنا الاستفادة من هذا الإجماع بوجه . هذا كلّه فيما يتعلّق بمحمّد بن أبي عمير من جهة كونه من أصحاب الإجماع .
وأمّا من جهة أنّه لا يروي ولا يرسل إلاّ عن ثقة ، فنقول : الأصل في ذلك ما ذكره الشيخ الطوسي(قدس سره) في كتاب «العدّة» في البحث عن حجيّة خبر الواحد ، قال : وإذا كان أحد الراويين مُسنِداً والآخر مرسِلا نظر في حال المرسِل ، فإن كان ممّن يعلم أنّه لا يرسِل إلاّ عن ثقة موثوق به ، فلا ترجيح لخبر غيره على خبره ، ولأجل ذلك سوّت الطائفة بين ما يرويه محمّد بن أبي عمير وصفوان بن يحيى وأحمد بن
(الصفحة451)
محمّد بن أبي نصر وغيرهم من الثقات الذين عرفوا بأنَّهم لا يروون ولا يرسلون إلاّ عمّن يوثق به ، وبين ما أسنده غيرهم(1) . وحكي الحكم بهذه التسوية أيضاً عن النجاشي في ترجمة محمّد بن أبي عمير ، وذكر أنّ سببها ضياع كتبه وهلاكها(2) .
أقول : هل مراد الشيخ(قدس سره) من هذا الكلام إثبات مزيّة زائدة لهؤلاء غير كونهم من أصحاب الإجماع؟ أو أنّ مراده بيان منشأ الإجماع المذكور ؟ وعليه فالحكم لا يختصّ بالثلاثة المذكورين ، بل يعمّ غيرهم من سائر أصحاب الإجماع .
فإن كان مراده الثاني ، نظراً إلى زعمه أنّ منشأ الإجماع هو عدم رواية أصحابه إلاّ عن ثقة موثوق به ، فقد عرفت أنّ المزيّة الحاصلة بسبب الإجماع لا تتجاوز عن أشخاصهم ولا تسري إلى غيرهم ، وليس الإجماع ناظراً إلى حال من يروون عنه أصلا .
وإن كان مراده الأوّل ، فيدفعه ـ مضافاً إلى استلزامه ثبوت الترجيح لمثل محمّد ابن أبي عمير على مثل زرارة ، وهو ممّا لا يمكن الإلتزام به أصلا ـ أنّه من أين علم أنّهم لا يروون ولا يرسلون إلاّ عن ثقة؟ فإن كان المنشأ هو تصريحهم بذلك فلا مانع منه ، ولكنّه لا إشعار في كلامه بذلك ولا في كلام غيره أصلا ، ولم ينقل عن أحدهم ذلك ، وإن كان المنشأ هو التتبّع فيمن يروون عنه فهو لا يدلّ إلاّ على وثاقة من يروون عنه مسنداً ، وأمّا من رووا عنه بنحو الإرسال فكيف يمكن إستفادة وثاقتهم مع الجهل بهم؟ هذا مع غمض النظر عن ثبوت رواية هؤلاء عن الضعفاء في موارد حكي عن الشيخ نفسه ذكر جملة منها(3) ، وإلاّ فلا مجال لما ذكر في
(1) عدّة الاُصول: 1 / 154.
(2) رجال النجاشي: 316 رقم 887.
(3) يراجع معجم رجال الحديث لسيّدنا الاُستاذ (قدس سره): 1 / 64 ـ 68 و72.
(الصفحة452)
رواياتهم المسندة أيضاً ، كما لا يخفى .
وقد انقدح من جميع ما ذكرنا عدم اعتبار مراسيل مثل ابن أبي عمير لا من جهة كونه من أصحاب الإجماع ، ولا من جهة الدعوى المذكورة من الشيخ(قدس سره) .
وأمّا سكوت ابن الغضائري فلا دلالة له على التوثيق; لأنّه يمكن أن يكون مستنداً إلى الجهل بحاله وعدم الاطّلاع على خصوصيّاته، وإثبات عدم كون كتابه موضوعاً لا يفيد التوثيق بوجه ; لأنّ ثبوت الكتاب له وصحّة استناده إليه أعمّ من الوثاقة .
فلا يبقى إلاّ الوقوع في سند كتاب كامل الزيارات ، وهو لو لم يكن له معارض لم يكن مانع عن الالتزام بوثاقته ، إلاّ أنّ اقتصار المشايخ الثلاثة من روايات أصل زيد النرسي على حديثين أو ثلاث أحاديث يدلّ على عدم اعتمادهم عليه ، مع كونهم مجدّين في نقل الأخبار وجمع الأحاديث والروايات ، وعليه فلا يثبت وثاقة زيد النرسي بوجه ، هذا من جهة الشخص .
وأمّا من جهة النسخة ، فإثبات كون النسخة التي بيد المجلسي هي النسخة الصحيحة المطابقة لكتاب زيد النرسي مشكل جدّاً مع كثرة الفصل الزماني بينهما ، وممّا يؤيّد عدم اعتبار تلك النسخة أنّ صاحب الوسائل(قدس سره) لم ينقل عنها في كتابه مع كونها موجودة عنده ، على ما نقله الخبير المتتبّع شيخ الشريعة الاصفهاني(قدس سره) (1) .
اللّهم إلاّ أن يقال : إنّ وجود الأخبار المرويّة في كتب الأصحاب عن زيد النرسي كتفسير عليّ بن إبراهيم ، وكامل الزيارات لجعفر بن قولويه ، وثواب
(1) إفاضة القدير في أحكام العصير: 27، المقالة الثالثة.
(الصفحة453)
الأعمال للصدوق ، وعدّة الداعي لابن فهد ، والكافي للكليني ، والفقيه(1) بأجمعها في تلك النسخة يوجب الإطمئنان بصحّتها ، ودعوى احتمال كون النسخة موضوعة ، وإنّما ادرج فيها هذه الأخبار المنقولة في تلك الكتب تثبيتاً للمدّعى وإيهاماً على أنّها كتاب زيد وأصله ، بعيدة جدّاً بعد عدم وجود الداعي إلى ذلك بوجه .
الجهة الثانية : في متنها ، وقد وقع فيه الاختلاف ، قال في المستدرك بعد نقل الرواية بالنحو الذي ذكرنا : قلت : هكذا متن الخبر في نسختين من الأصل(2) ، وكذا نقله المجلسي(قدس سره) فيما عندنا من نسخ البحار ونقله في المستند عنه(3) ، ولكن في كتاب الطهارة للشيخ الأعظم(قدس سره) تبعاً للجواهر ساقا كذلك عن الصادق (عليه السلام) ، في الزبيب يدقّ ويلقى في القدر ويصبّ عليه الماء ، فقال : حرام حتّى يذهب الثلثان . وفي الثاني ـ أي الجواهر ـ قال : حرام إلاّ أن يذهب ثلثاه ، قلت : الزبيب كما هو يلقى في القدر ، قال : هو كذلك سواء ، إذا أدّت الحلاوة إلى الماء فقد فسد ، كلّما غلى بنفسه أو بالماء أو بالنار فقد حرم حتّى يذهب ثلثاه(4) . بل فيه(5) : نسبة الخبر إلى زيد الزرّاد وزيد النرسي ، ولا يخفى ما في المتن الذي ساقاه من التحريف والتصحيف والزيادة ، وكذا نسبته إلى الزرّاد .
وقد رواه مثلهما الشيخ الفاضل المتبحّر الذي ذكر في مدحه فضائل كثيرة الشيخ
(1) تفسير القمّي: 2 / 256، كامل الزيارات: 510 ح795، ثواب الأعمال: 36 ح1، عدّة الداعي: 184، الكافي: 4/185 ح3 وج4 / 147 ح6، الفقيه: 4 / 207 ح5482.
(2) مستدرك الوسائل: 17 / 38، كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأشربة المحرّمة ب2 ذ ح1.
(3) بحار الأنوار: 76 / 177 ح8، مستند الشيعة: 15 / 220.
(4) كتاب الطهارة، للشيخ الأنصاري: 317، جواهر الكلام: 6 / 34 ـ 35.
(5) أي في جواهر الكلام.
(الصفحة454)
مسألة 4 : لا إشكال في أنّ المسكر قليله وكثيره سواء في ثبوت الحدّ بتناوله ولو كان قطرة منه ولم يكن مسكراً فعلا ، فما كان كثيره مسكراً يكون في قليله حدّ ، كما لا إشكال في الممتزج بغيره إذا صدق اسمه عليه وكان غيره مستهلكاً فيه ، كما لا إشكال في الممتزج بغيره إذا كان مسكراً ولم يخرج بامتزاجه عن الإسكار ، ففي كلّ ذلك حدّ ، وأمّا إذا امتزج بغيره كالأغذية والأدوية بنحو استهلك فيه ولم يصدق اسمه ولم يكن الممتزج مسكراً ، ففي ثبوت الحدّ به إشكال وإن كان حراماً لأجل نجاسة الممتزج ، فلو استهلك قطرة منه في مائع فلا شبهة في نجاسة الممتزج ، ولكن ثبوت حدّ المسكر عليه محلّ تأمّل وإشكال ، لكنّ الحكم بالحدّ معروف بين أصحابنا 1.
سليمان الماحوزي البحراني زميل العلاّمة المجلسي(قدس سره) وعديله ، وعليه لا مجال لنسبة الغلط والتصحيف إليه ، وإن طعن على هذا الشيخ الجليل المتقدّم شيخ الشريعة الإصفهاني بما لا ينبغي من مثله أصلا(1) .
الجهة الثالثة : في دلالتها ، ولا إشكال في أنّ مفادها الحرمة ، والتعبير بالفساد في المتن الأوّل ظاهر فيها أيضاً ، ولكنّ الحرمة على تقدير ثبوتها لا يستلزم الحدّ كما عرفت .
1 ـ في هذه المسألة فروع :
الأوّل : أنّه لا فرق في المسكر بين كثيره وقليله في ثبوت الحدّ بتناوله ، ولو كان قطرة منه ولم يكن مسكراً بالفعل لأجل القلّة ، ويدلّ عليه ـ مضافاً إلى أنّه لا
(1) إفاضة القدير في أحكام العصير: 24.
(الصفحة455)
خلاف معتدّ به فيه ، بل الإجماع بقسميه عليه كما في الجواهر(1) ـ النصوص المستفيضة بل المتواترة :
كصحيحة عبدالله بن سنان قال : قال أبو عبدالله (عليه السلام) : الحدّ في الخمر أن يشرب منها قليلا أو كثيراً ، الحديث(2) .
وموثّقة إسحاق بن عمّار قال : سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن رجل شرب حسوة خمر ، قال : يجلد ثمانين جلدة ، قليلها وكثيرها حرام(3) . وغير ذلك من الروايات الكثيرة الدالّة عليه .
وعن المقنع : إذا شرب حسوة من خمر جلد ثمانين ، وإن أخذ شارب النبيذ ولم يسكر لم يجلد حتّى يرى سكراناً(4) وظاهره الفرق بين الخمر والنبيذ .
ويمكن الاستدلال للتفصيل في النبيذ بصحيحة أبي الصبّاح الكناني ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) في حديث ، قلت : أرأيت إن أُخذ شارب النبيذ ولم يسكر أيجلد؟ قال : لا(5) .
وصحيحة الحلبي قال : سألت أبا عبدالله (عليه السلام) قلت : أرأيت إن اُخذ شارب النبيذ ولم يسكر أيجلد ثمانين؟ قال : لا ، وكلّ مسكر حرام(6) .
بناءً على رجوع الضمير في لم يسكر إلى الشارب ، وعليه فيكون الفعل من الثلاثي المجرّد ، ولكنّ المحتمل بل الظاهر عود الضمير إلى النبيذ ، والمراد عدم كون
(1) جواهر الكلام: 41 / 450.
(2) وسائل الشيعة: 18 / 469، أبواب حدّ المسكر ب4 ح3.
(3) وسائل الشيعة: 18 / 468، أبواب حدّ المسكر ب3 ح7.
(4) المقنع: 455.
(5، 6) وسائل الشيعة: 18 / 469، أبواب حدّ المسكر ب4 ح4 و5.
(الصفحة456)
النبيذ مسكراً أصلا ، وعليه فمفاد الروايتين أنّ النبيذ غير المسكر لا يوجب ترتّب الحدّ ، فلا دلالة لهما على التفصيل في النبيذ بين القليل والكثير كما هو المدّعى ، والدليل على عود الضمير إلى النبيذ قوله (عليه السلام) في الرواية الثانية : وكلّ مسكر حرام ، ولو كان الضمير راجعاً إلى الشارب لكان المناسب التعبير بقوله : وكلّ من سكر يجب أن يجلد ، وعلى ما ذكرنا لا تصل النوبة إلى الحمل على التقيّة لأجل الموافقة للعامّة ، كما عن الشيخ(قدس سره) بعد نقل الروايتين(1) .
نعم ، هنا مرسلة للصدوق قال : قال أبو جعفر (عليه السلام) : إذا سكر من النبيذ المسكر والخمر جلد ثمانين(2) .
وربّما يحكم بطرحها من جهة إرسالها ، ولكن قد عرفت مراراً أنّ هذا النحو من الإرسال لا ينافي الاعتبار بوجه ، فاللاّزم إمّا الحكم بعدم ثبوت المفهوم للقضيّة الشرطية ، كما قد حقّقناه في الأصول ، وإمّا طرح الرواية من جهة عدم الفتوى على طبقها ولو من الصدوق نفسه ; لأنّه صرّح بعدم الفرق في الخمر بين صورة الإسكار وعدمه كما في عبارة المقنع المتقدّمة ، فانقدح أنّه لا فرق بين القليل والكثير من المسكر أصلا .
الثاني : ما إذا تحقّق الامتزاج بالغير ، بحيث صار الغير مستهلكاً فيه ، فإنّه لا إشكال فيه في ثبوت الحدّ ; لأنّ المفروض بقاء الاسم وصيرورة الغير مستهلكاً وفانياً فيه ، فيتحقّق شرب الخمر مثلا حقيقةً وهو يوجب الحدّ .
الثالث : ما إذا تحقّق الامتزاج بالغير بحيث لم يبق الإسم والعنوان بحاله ، بل كان
(1) التهذيب: 10 / 96، الإستبصار: 4 / 236.
(2) وسائل الشيعة: 18 / 470، أبواب حدّ المسكر ب4 ح8.
(الصفحة457)
وصف الإسكار محفوظاً وباقياً ، فلا إشكال فيه أيضاً في ثبوت الحدّ بعد فرض إيجاب كلّ مسكر له ، كما تقّدم .
الرابع : ما إذا تحقّق الامتزاج بالغير ، بحيث صار مستهلكاً في الغير ولم يبق الاسم بحاله ، وزال وصف الإسكار بسبب الامتزاج ، فهل يجب فيه الحدّ أم لا؟ وجهان ، المعروف بين الأصحاب هو الثبوت(1) .
واستشكل فيه المحقّق الأردبيلي بعدم صدق اسم شرب الخمر فيما إذا امتزج قطرة من خمر بحبٍّ من ماء ، ولذا لم يحنث من حلف أن لا يشرب الخلّ ، أو يأكل الدهن ، أو التمر بشرب السكباج(2) ، وأكل الطبيخ الذي فيه دهن غير متميّز ، وأكل الحلوى التي فيها التمر(3) ، وتبعه على ذلك في كشف اللثام ، حيث قال في مثل الفرض : وإن لم يتناوله ما في النصوص من لفظ الشرب ، فكأنّه إجماعيّ(4) .
وأورد عليهما في الجواهر بأنّ المحرّم ذاتاً لا من حيث الاسم لا يتفاوت الحال بين قليله وكثيره ، بخلاف متعلّق اليمين الذي مدار الحكم فيه على صدق الفعل ، بل قوله (عليه السلام) : «قليلها وكثيرها حرام» قاض بذلك ، ضرورة عدم التقييد بالشرب ، وعدم تحديد القليل بشيء ، فيشمل الجزء ولو يسيراً ، وكذا ما اشتمل من النصوص على ضرب الثمانين بالنبيذ والخمر القليل والكثير من غير تقييد
(1) الجامع للشرائع: 557، قواعد الأحكام: 2 / 263، المهذّب البارع: 5 / 80، الروضة البهيّة: 9 / 197، رياض المسائل: 10 / 137.
(2) السِكباج ـ بكسر السين ـ : طعام معروف يصنع من خلّ وزعفران ولحم، مجمع البحرين: 2 / 857.
(3) مجمع الفائدة والبرهان: 13 / 185 ـ 186.
(4) كشف اللثام: 2 / 417.
(الصفحة458)
بالشرب ، قال : وبالجملة فالمسألة خالية عن الإشكال(1) .
ويرد عليه : أنّ المراد من المحرّم ذاتاً إن كان هو عدم مدخلية العنوان في الحرمة بوجه ، فمن الظاهر أنّ الحكم إنّما تعلّق بالعنوان ، ولا مجال لبقائه بعد ارتفاعه ، فالخمر ما دام كونها خمراً محرّمة ، وإذا انقلبت خلاًّ وتغيّر عنوانها ترتفع الحرمة لا محالة ولا وجه لبقائها ، وإن كان معنى لا ينافي المدخليّة ، فالمفروض في المقام ارتفاع العنوان وزوال الاسم ، وقوله (عليه السلام) : «قليلها وكثيرها حرام» يقضي بثبوت الحرمة ما دام كون العنوان الذي أضيف إليه القليل محفوظاً ، بحيث كان الموجود هو قليل الخمر ، وقد فرضنا الاستهلاك وعدم بقاء العنوان بوجه ، فالمسألة مشكلة إلاّ أن يكون هناك إجماع .
ثمّ إنّه لا إشكال في هذا الفرض في ثبوت الحرمة ، وعلّله في المتن بحدوث النجاسة لأجل الملاقاة في الممتزج وتحقّق الحرمة بذلك ، ولكنّ المستفاد من بعض الروايات عدم كون الحرمة مستندة إلى النجاسة ، وهي :
صحيحة عبدالرحمن بن الحجّاج قال: استأذنت لبعض أصحابناعلى أبي عبدالله (عليه السلام) ، فسأل عن النبيذ ، فقال : حلال ، فقال : أصلحك الله إنّما سألتك عن النبيذ الذي يجعل فيه العكر فيغلي حتّى يسكر ، فقال أبو عبدالله (عليه السلام) : قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) : كلّ ما أسكر حرام ، فقال الرجل : إنّ من عندنا بالعراق يقولون : إنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) عنى بذلك القدح الذي يسكر ، فقال أبو عبدالله(صلى الله عليه وآله) : إنّ ما أسكر كثيره فقليله حرام ، فقال له الرجل : فأكسره بالماء؟ فقال له أبو عبدالله (عليه السلام) : لا ، وما للماء يحلّ الحرام ، اتّق الله ولا تشربه(2) .
(1) جواهر الكلام: 41 / 452.
(2) وسائل الشيعة: 17 / 269، كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأشربة المحرّمة ب17 ح7.
(الصفحة459)
مسألة 5 : لو اضطرّ إلى شرب المسكر لحفظ نفسه عن الهلاك أو من المرض الشديد فشرب ليس عليه الحدّ 1 .
مسألة 6 : لو شرب المسكر مع علمه بالحرمة وجب الحدّ ولو جهل أنّه موجب للحدّ . ولو شرب مائعاً بتخيّل أنّه محرّم غير مسكر فاتّضح أنّه مسكر لم
فإنّ قوله (عليه السلام) : «وما للماء يحلّ الحرام» ظاهرٌ في أنّ الحرمة ليست لأجل النجاسة ، بل لأجل عدم صلاحيّة الماء لتحليل الحرام ، إلاّ أن يقال : إنّ المفروض في السؤال هو الكسر بالماء ، وهو لا يشمل صورة الاستهلاك الموجب لإرتفاع العنوان بالكليّة ، ولكنّ الظاهر شموله لهذه الصورة أيضاً .
ثمّ على هذا التقدير يمكن جعل الصحيحة دليلا على ما هو المعروف من ثبوت الحدّ أيضاً في هذا المورد المفروض ; لأنّ الصحيحة وإن كانت ناظرة إلى بيان الحرمة ، إلاّ أنّه ليس المراد مجرّد الحرمة ولو لم يكن معها حدّ ، فإنّ المستفاد من مجموع قولي رسول الله(صلى الله عليه وآله) المحكيّين في الصحيحة ثبوت الحدّ أيضاً ، ويؤيّده جعل التسوية بين القليل والكثير في الحرمة في رواية إسحاق بن عمّار المتقدّمة في الفرع الأوّل دليلا على ثبوت الحدّ في شرب حسوة من خمر ، فتدبّر .
1 ـ عدم ثبوت الحدّ مع الاضطرار إلى شرب المسكر لحفظ النفس عن الهلاك أو المرض الشديد ; لأجل أنّه لا حرمة مع الاضطرار ، وظهور كون الموضوع في دليل الحدّ هو شرب المسكر في صورة الحرمة ; لأنّ الحدّ عقوبة للمخالفة وجزاء على المعصية ، ولا يترتّب على الشرب غير المحرّم ، سيّما إذا كان واجباً ، كما إذا توقّف عليه حفظ النفس عن الهلاك ، مع أنّه يمكن أن يقال باقتضاء حديث الرفع رفع جميع الآثار التي منها الحدّ ; لعدم الفرق بينه وبين الحرمة في ذلك .
(الصفحة460)
يثبت الحدّ عليه ، ولو علم أنّه مسكر وتخيّل أنّ الموجب للحدّ ما أسكر بالفعل فشرب قليله ، فالظاهر وجوب الحدّ1.
1 ـ في هذه المسألة فروع :
الأوّل : لو شرب المسكر مع العلم بالحرمة والجهل بترتّب الحدّ عليه ، وقد حكم فيه في المتن بثبوت الحدّ ، وذلك لتحقّق الموضوع لدليل الحدّ وهو شرب المسكر مع العلم بالحرمة ، ولا دلالة على اختصاص ترتّب الحدّ بصورة العلم به ، وليس هو حكماً تكليفيّاً يتوقّف فعليّته على العلم به ، بل وظيفة للحاكم لابدّ من إجرائها مع ثبوت الموضوع .
الثاني : لو شرب مائعاً بتخيّل أنّه محرّم غير مسكر ، مثل ما إذا كانت الحرمة لأجل النجاسة بسبب الملاقاة مع النجس فاتّضح أنّه مسكر ، وقد حكم فيه في المتن بعدم ثبوت الحدّ عليه ، والوجه فيه عدم إحراز الموضوع ، ومجرّد العلم بالحرمة لا يوجب تحقّقه ، لأنّ الموضوع هو شرب المسكر مع العلم بالحرمة من هذه الحيثيّة ، فكما أنّه في المصاديق المشتبهة لا يكون حدّ لعدم إحراز الموضوع فكذلك هنا ، بل المقام أولى ; للعلم بعدم كونه مسكراً كما هو المفروض .
الثالث : لو علم أنّه مسكر وتخيّل أنّ الموجب للحدّ ما أسكر بالفعل فشرب قليله ، وقد استظهر فيه وجوب الحدّ ، والظاهر أنّ المفروض صورة العلم بأنّه لا فرق بين الكثير والقليل من جهة الحرمة . غاية الأمر تخيّله أنّ القليل ـ لأجل عدم كونه مسكراً ـ لا يترتّب عليه حدّ ، وأمّا لو فرض تخيّل الحلّية في القليل أيضاً فلا وجه لثبوت الحدّ ; للجهل بالحرمة وهو رافع له ، وممّا ذكرنا يظهر رجوع هذا الفرع إلى الفرع الأوّل . غاية الأمر ثبوت الجهل بالترتّب في خصوص القليل ،
|