(الصفحة561)
ورواية زيد الشحّام ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : اُخذ نبّاش في زمن معاوية ، فقال لأصحابه : ما ترون؟ فقالوا : نعاقبه ونخلّي سبيله ، فقال رجل من القوم : ما هكذا فعل عليّ بن أبي طالب ، قال : وما فعل؟ قال : فقال : يقطع النبّاش ، وقال : هو سارق وهتّاك للموتى(1) .
والذيل بمنزلة التعليل ، ومرجعه إلى أنّ قطع النبّاش إنّما هو لأجل السرقة وتحقّقها منه .
وربّما يستدلّ للمقنع بصحيحة الفضيل ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : النبّاش إذا كان معروفاً بذلك قطع(2) .
وبرواية عليّ بن سعيد ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : سألته عن رجل أُخذ وهو ينبش ؟ قال : لا أرى عليه قطعاً ، إلاّ أن يؤخذ وقد نبش مراراً فاقطعه(3) .
وبروايته الأخرى قال : سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن النبّاش؟ قال : إذا لم يكن النبش له بعادة لم يقطع ويعزَّر(4) .
وبمرسلة ابن بكير ، عن بعض أصحابنا ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) في النبّاش إذا أخذ أوّل مرّة عزِّر ، فإن عاد قطع(5) .
بناءً على أن يكون المراد هو العود مكرّراً .
ويرد على الاستدلال بالصحيحة ـ مضافاً إلى أنّ مقتضى التحقيق عدم ثبوت
(1) وسائل الشيعة: 18/ 511، أبواب حدّ السرقة ب19 ح5.
(2) وسائل الشيعة: 18/ 513، أبواب حدّ السرقة ب19 ح15.
(3) وسائل الشيعة: 18/ 513، أبواب حدّ السرقة ب19 ح11.
(4) وسائل الشيعة: 18/ 513، أبواب حدّ السرقة ب19 ح13.
(5) وسائل الشيعة: 18/ 514، أبواب حدّ السرقة ب19 ح16.
(الصفحة562)
المفهوم للقضيّة الشرطية كما حقّق في الأصول ، وإلى احتمال أن يكون المراد بالمعروفيّة هو ثبوت كونه نبّاشاً لا الأشتهار بذلك ـ عدم انطباق الدليل على المدّعى ; لأنّ النسبة بين التكرّر الذي هو المدّعى وبين المعروفيّة الذي هو مقتضى الرواية عموم من وجه كما لا يخفى ، وعليه فالرواية تصير غير مفتى بها حتّى للمستدلّ .
وأمّا روايتا عليّ بن سعيد ـ فمضافاً إلى أنّ الظاهر كونهما رواية واحدة لا متعدّدة وإن جعلهما في الوسائل كذلك ـ يرد على الاستدلال بهما كون الراوي مجهولا ; لأنّه لم يرد في عليّ بن سعيد توثيق ، بل ولا مدح .
وأمّا الرواية الأخيرة فمرسلة لا يمكن الاعتماد عليها ، مضافاً إلى أنّ حمل العود فيها على العود مكرّراً خلاف الظاهر .
هذا كلّه مضافاً إلى أنّه لو فرض ثبوت التعارض بين هذه الطائفة وبين الروايات الدالّة على المشهور ; لكان مقتضى قاعدة باب التعارض الأخذ بتلك الروايات ، لموافقتها للشهرة الفتوائيّة التي هي أوّل المرجّحات على ما أشرنا إليه مراراً ، فلا محيص عن الذهاب إلى ما يوافق المشهور .
تنبيه : لا يخفى أنّ صاحب الوسائل نقل في الباب التاسع عشر من أبواب حدّ السرقة رواية بهذه الكيفيّة : محمّد بن الحسن بإسناده ، عن محمّد بن عليّ بن محبوب ، عن أحمد بن محمّد ، عن الحسن بن محبوب ، عن أبي أيّوب ، عن الفضيل ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) عن الطرّار والنبّاش والمختلس ؟ قال : لا يقطع(1) .
(1) التهذيب: 10 / 117 ح467، الإستبصار: 4 / 247 ح938، وسائل الشيعة: 18/ 513، أبواب حدّ السرقة ب19 ح14.
(الصفحة563)
وهذه الرواية باعتبار كونها صحيحة من حيث السند ، وظاهرة من حيث الدلالة ، صارت موجبة للإشكال ، وأنّه كيف يجمع بينها وبين الروايات المتقدّمة الظاهرة في ثبوت القطع؟ وقد وقع مثل صاحب الجواهر في هذا الإشكال(1) .
ولعيسى بن صبيح رواية اُخرى ، رواها الشيخ بإسناده عن الحسين بن سعيد ، عن ابن محبوب ، عن عيسى بن صبيح ، قال : سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن الطرّار والنبّاش والمختلس ؟ قال : يقطع الطرّار والنبّاش ولا يقطع المختلس(2) . ومع وضوح عدم كونهما روايتين ، وأنّ عيسى له رواية واحدة ، يحتمل قويّاً وقوع السقط في رواية «لا يقطع» كما احتمله الشيخ(قدس سره)(3) .
وعليه فلا يكون في مقابل روايات القطع رواية دالّة على عدم القطع حتّى نقع في إشكال الجمع ، كما لا يخفى .
ويؤيّد ما ذكرنا صحيحة منصور بن حازم قال : سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول : يقطع النبّاش والطرّار ولا يقطع المختلس(4) .
فإنّ الظاهر أنّ ما سمعه منصور منه (عليه السلام) هو ما سأله عنه عيسى بن صبيح ; فيدلّ على كون الجواب هو التفصيل ، لا عدم القطع مطلقاً .
ثمّ إنّ هنا روايات مشتملة على حكاية أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) أمر الناس بأن يطأوا نبّاشاً حتّى يموت .
(1) جواهر الكلام: 41 / 518 ـ 519.
(2) التهذيب: 10 / 116 ح462، الإستبصار: 4 / 246 ح931، وسائل الشيعة: 18/ 512، أبواب حدّ السرقة ب19 ح10.
(3) الإستبصار: 4 / 247.
(4) وسائل الشيعة: 18/ 505، أبواب حدّ السرقة ب13 ح3.
(الصفحة564)
إحداها : مرسلة ابن أبي عمير ، عن غير واحد من أصحابنا قال : أُتي أمير المؤمنين (عليه السلام) برجل نبّاش ، فأخذ أمير المؤمنين بشعره فضرب به الأرض ، ثمّ أمر الناس أن يطؤوه بأرجلهم فوطؤوه حتّى مات(1) .
ثانيتها : ما رواه محمّد بن عليّ بن الحسين بإسناده إلى قضايا أمير المؤمنين (عليه السلام)أنّه قطع نبّاش القبر ، فقيل له : أتقطع في الموتى؟ فقال : إنّا لنقطع لأمواتنا كما نقطع لأحيائنا ، قال : واُتي بنبّاش فأخذ بشعره وجلد به الأرض ، وقال : طؤوا عباد الله ، فوطىء حتّى مات(2) .
والظاهر أنّ الذيل لا يرتبط بالصدر ، بل هي رواية مرسلة أوردها الصدوق في ذيل ما رواه بإسناده إلى قضايا أمير المؤمنين (عليه السلام)(3) . وقد أشرنا غير مرّة إلى اعتبار هذا النحو من الإرسال الذي يسند فيه الحكم إلى الإمام (عليه السلام) ، لا إلى الرواية .
ثالثتها : مرسلة أبي يحيى الواسطي ، عن بعض أصحابنا ، عن أبي عبدالله (عليه السلام)قال : اُتي أمير المؤمنين (عليه السلام) بنبّاش فأخّر عذابه إلى يوم الجمعة ، فلمّا كان يوم الجمعة ألقاه تحت أقدام الناس ، فما زالوا يتوطّؤنه بأرجلهم حتّى مات(4) .
وهذه الروايات مشتركة في أمره (عليه السلام) بأن يطؤوه حتّى يموت ، والسند في بعضها معتبرعلى ما مرّ، ولكن لا يمكن الأخذ بها في مقابل أدلّة المشهور ; لموافقتها للشهرة الفتوائيّة المرجّحة كما عرفت ، فانقدح أنّه لا محيص عن الأخذ بما هو المشهور .
بقي الكلام في هذا الفرع في أنّه هل يشترط في القطع فيه بلوغ قيمة المسروق
(1) وسائل الشيعة: 18/ 511، أبواب حدّ السرقة ب19 ح3.
(2) وسائل الشيعة: 18/ 512، أبواب حدّ السرقة ب19 ح8.
(3) من لا يحضره الفقيه: 4 / 67.
(4) وسائل الشيعة: 18/ 514، أبواب حدّ السرقة ب19 ح17.
(الصفحة565)
نصاباً؟ كما عن المفيد(1) وسلار(2) وابن زهرة(3) وابن حمزة(4) . بل نسب إلى الأكثر(5) أو لا يشترط ذلك مطلقاً ، كما عن الشيخ(6) والقاضي(7) والعلاّمة في الإرشاد(8) وابن إدريس في آخر كلامه(9) ، أو يفصّل بين المرّة الأولى فيشترط ، وبين المرّة الثانية والثالثة وهكذا ، فلا يشترط كما عن ابن إدريس في أوّل كلامه(10)؟ وجوه وأقوال .
والدليل على الأوّل ما مرّ من الروايات الدالّة على أنّ قطع النبّاش إنّما هو لأجل كونه سارقاً ، وأنّه إنّما يقطع في الأموات كما يقطع في الأحياء ، بضميمة أدلّة اعتبار النصاب في ترتّب القطع على السرقة ، فإنّ ظاهر روايات المقام أنّ الفرق بينه وبين سائر الموارد إنّما هو مجرّد الإضافة إلى الأموات في المقام وإلى الأحياء في غيره ، فلا فرق بينهما من غير هذه الجهة أصلا ، وعليه فلابدّ من البلوغ إلى النصاب في الحكم بثبوت القطع .
وأمّا الحكم بعدم الاعتبار مطلقاً ، فلعلّه لأجل الحكم في بعض الروايات بثبوت
(1) المقنعة: 804.
(2) المراسم: 260.
(3) غنية النزوع: 434.
(4) الوسيلة: 423.
(5) رياض المسائل: 10 / 179، إصباح الشيعة: 524، مختلف الشيعة:9 / 241 ذ مسألة 92، تحرير الأحكام: 2/230.
(6) النهاية: 722.
(7) المهذّب: 2 / 542.
(8) إرشاد الأذهان: 2 / 183.
(9) السرائر: 3 / 514 ـ 515.
(10) السرائر: 3 / 512.
(الصفحة566)
القطع على النبّاش من دون تقييد ببلوغ النصاب ، ولكن عرفت أنّ التقييد يستفاد من التعليل بكونه سارقاً ، ومن سائر التعبيرات .
وأمّا القول بالتفصيل فلم يعرف له مستند وإن وجّه بشمول الأدلّة المتقدّمة للمرّة الاُولى واندراج ما بعدها في عنوان الإفساد ، ولكنّه كما ترى ; ولذا عدل صاحبه عنه في آخر كلامه على ما عرفت .
الفرع الثاني : النبش المجرّد عن السرقة ، وقد حكم فيه في المتن بعدم القطع وثبوت التعزير ، ويمكن استفادته من الجمع الذي ذكره صاحب الرياض بين الأخبار المتقدّمة في الفرع الأوّل ، التي منها صحيحة الفضيل على نقل صاحب الوسائل(1) الدالّة على عدم قطع النبّاش ، حيث قال : وقد حملها الأصحاب على مجرّد النبش الخالي عن أخذ الكفن ، جمعاً بينها وبين النصوص المتقدّمة ، بحملها على سرقة الكفن كما هو ظاهرها ، ولا سيّما الأخبار المشبّهة منها بالسرقة ، بناءً على ما سبق ، وحمل هذه على ما عرفته(2) .
ولكنّه يدلّ على ثبوت القطع في هذا الفرع أيضاً صحيحة إبراهيم بن هاشم ، قال : لمّا مات الرضا (عليه السلام) حججنا فدخلنا على أبي جعفر (عليه السلام) ، وقد حضر خلق من الشيعة ـ إلى أن قال :ـ فقال أبو جعفر (عليه السلام) : سئل أبي عن رجل نبش قبر امرأة فنكحها ؟ فقال أبي : يقطع يمينه للنبش ، ويضرب حدّ الزنا ، فإنّ حرمة الميّتة كحرمة الحيّة ، فقالوا : يا سيّدنا تأذن لنا أن نسألك؟ قال : نعم ، فسألوه في مجلس عن ثلاثين ألف مسألة ، فأجابهم فيها وله تسع سنين(3) .
(1) وسائل الشيعة: 18 / 513، أبواب حدّ السرقة ب19 ح14.
(2) رياض المسائل: 10 / 180.
(3) وسائل الشيعة: 18 / 511، أبواب حدّ السرقة ب19 ح6.
(الصفحة567)
فإنّ ظاهرها كون النبش بمجرّده علّة للقطع ، خصوصاً مع كونه لغرض نكاح الميّتة لا لسرقة الكفن ، ولكنّها لا تصلح للنهوض في مقابل الأدلّة المتقدّمة ، الظاهرة في أن ثبوت القطع في النبّاش إنّما هو لأجل كونه سارقاً وهتّاكاً للموتى ، فلابدّ من حمل هذه الرواية على ثبوت السرقة أيضاً كما لا يخفى ، خصوصاً مع اشتمال ذيلها على أمر بعيد ، وهو الجواب عن ثلاثين ألف مسألة في مجلس واحد .
الفرع الثالث : ما لو نبش القبر وأخرج غير الكفن ممّا جعل مع الميّت في القبر لو فرض ، كما يتحقّق في أهل غير ملة الإسلام من سائر الملل ، فهل يقطع أم لا؟ الظاهر العدم ، لأنّ القبر عند العرف إنّما يكون حرزاً بالإضافة إلى خصوص الكفن . نعم ، لا يختصّ بالأجزاء الواجبة من الكفن ، بل يعمّ الأجزاء المندوبة كما وقع التصريح به في مثل المتن ، وأمّا بالإضافة إلى غير الكفن فلا يكون القبر حرزاً ، والمنساق من الروايات المتقدّمة الدالّة على قطع النبّاش هو النبّاش السارق للكفن ; ولذا أضيف القطع إلى الموتى .
هذا ، ويمكن أن يقال : إنّه في صورة تعارف وضع شيء مع الميّت في القبر غير الكفن يصير القبر حرزاً بالنسبة إليه أيضاً ; لأنّه معنى عرفيّ لابدّ من الرجوع إلى العرف في تحقّقه ، والظاهر مساعدته عليه في هذه الصورة كما لا يخفى .
الفرع الرابع : ما لو تكرّر النبش من غير أخذ الكفن وهرب من السلطان ، فالمحكيّ عن المقنعة(1) والمراسم(2) والنهاية(3) أنّ له قتله ، وقال الشيخ في الإستبصار بعد نقل المرسلتين المتقدّمتين ، الحاكيتين لقصّة نبّاش اُتي أمير
(1) المقنعة: 804.
(2) المراسم: 260 ـ 261.
(3) النهاية: 722.
(الصفحة568)
المؤمنين (عليه السلام) ، فأمر الناس أن يطؤوه حتّى مات : «فالوجه في هاتين الروايتين أن نحملهما على أنّه إذا تكرّر منهم الفعل ثلاث مرّات وأقيم عليهم الحدود ، فحينئذ يجب عليهم القتل كما يجب على السارق ، والإمام مخيرّ في كيفيّة القتل كيف شاء حسب ما يراه أردع في الحال»(1) .
والظاهر أنّ مستند الحكم بوجوب القتل في هذا الفرض كما هو ظاهر الشيخ ، أو بجوازه كما هو ظاهر مثل المفيد ، إن كان هي الروايات الحاكية لهذه القصّة ، نظراً إلى ظهور «النبّاش» فيمن تكرّر منه النبش ، فيرد عليه ـ مضافاً إلى منع الظهور ; لورود النبّاش في كثير من الروايات المتقدّمة مع أنّه لم يرد منه إلاّ من تحقّق النبش لا من تكرّر منه ، ويؤيّده عدم معهوديّة استعمال النابش الذي هو إسم الفاعل ـ أنّه ليس في شيء منها الإشعار بفوت السلطان أو الهرب منه .
وإن كان المستند هو عنوان الإفساد ، كما يظهر من تعليل المحقّق(2) الحكم بجواز القتل بالردع الظاهر في ردع الغير عن الفساد ، فيرد عليه أنّ تقييد فرض المسألة بصورة الهرب من السلطان ـ مع أنّ تحقّق عنوان الإفساد في صورة إقامة الحدّ عليه أوضح ـ لا يلائم ذلك .
ويمكن الاستدلال بما ورد من أنّ أصحاب الكبائر إذا اقيم عليهم الحدّ مرّتين قتلوا في الثالثة(3) ، بناءً على ثبوت القطع في النبش المجرّد ، أو القول بشمول الحدّ في الرواية للتعزير ، ولكنّه إنّما يتمّ فيما فرضه الشيخ ، لا فيما فرضه المفيد ، فتدبّر .
(1) الإستبصار: 4 / 248.
(2) شرائع الإسلام: 4 / 955.
(3) وسائل الشيعة: 18 / 313، أبواب مقدّمات الحدود ب5 ح1.
(الصفحة569)
القول فيما يثبت به
مسألة 1 : يثبت الحدّ بالإقرار بموجبه مرّتين وبشهادة عدلين ، ولو أقرّ مرّةً واحدةً لا يقطع ، ولكن يؤخذ المال منه ، ولا يقطع بشهادة النساء منضمّات ولا منفردات ، ولا بشاهد ويمين 1.
1 ـ لا إشكال ولا خلاف في ثبوت السرقة الموجبة للقطع بشهادة عدلين ; لعموم ما دلّ على حجيّة البيّنة ، مضافاً إلى دلالة بعض الروايات الآتية عليه . وأمّا الإقرار ، فالمعروف بين الأصحاب هو اعتبار التعدّد ، بل في كشف اللثام نسبته إلى قطعهم(1) ، بل عن الخلاف الإجماع عليه(2) .
نعم ، حكي عن المقنع الإجتزاء بالمرّة عند الإمام(3) .
(1) كشف اللثام: 2 / 427.
(2) الخلاف: 5 / 443 مسألة 40.
(3) حكاه عن المقنع العلاّمة في المختلف: 9 / 224. ولكن قال في المقنع: 488: «والحرّ إذا أقرّ على نفسه لم يقطع».
(الصفحة570)
ويدلّ على اعتبار التعدّد ـ مضافاً إلى ما ربما يقال من أنّ المتسالم عليه بين الأصحاب أنّه لا يكتفى في باب الحدود بالإقرار مرّة واحدة ، وإن كان الظاهر أنّ هذا التسالم على تقدير تحقّقه لا يكون إجماعاً كاشفاً عن رأي المعصوم (عليه السلام)وموافقته ، لابتنائه على الأدلّة الواردة في كلّ حدّ ـ الروايات المتعدّدة ، التي عمدتها صحيحة أبان بن عثمان ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) أنّه قال : كنت عند عيسى بن موسى فاُتي بسارق وعنده رجل من آل عمر ، فأقبل يسألني ، فقلت : ما تقول في السارق إذا أقرّ على نفسه أنّه سرق؟ قال : يقطع ، قلت : فما تقول في الزنا إذا أقرّ على نفسه مرّات؟ قال : نرجمه ، قلت : وما يمنعكم من السارق إذا أقرّ على نفسه مرّتين أن تقطعوه فيكون بمنزلة الزاني(1) .
والظاهر وضوح دلالتها على اعتبار التعدّد ، والمراد من قوله (عليه السلام) : «فيكون بمنزلة الزاني» أنّه حيث يكون الإقرار بمنزلة الشهادة ; ولذا عبّر عنه بها في بعض الروايات خصوصاً ما ورد منها في باب الزنا ، فكما أنّ اعتبار أربع شهادات في باب الزنا يقتضي اعتبار تعدّد الإقرار أربعاً ، فكذلك اعتبار شهادتين في باب السرقة يقتضي اعتبار الإقرار مرّتين ، وعلى أيٍّ فدلالة الرواية في المقام ظاهرة ، ودعوى كونها لا تبلغ حدّ الدلالة ، بل فيها مجرّد الإشعار ممنوعة جدّاً .
ويؤيّده مرسلة جميل بن درّاج ، عن بعض أصحابنا ، عن أحدهما (عليهما السلام) في حديث ، قال : لا يقطع السارق حتّى يقرّ بالسرقة مرّتين ، فإن رجع ضمن السرقة ، ولم يقطع إذا لم يكن شهود(2) .
(1) وسائل الشيعة: 18 / 488، أبواب حدّ السرقة ب3 ح4.
(2) وسائل الشيعة: 18 / 487، أبواب حدّ السرقة ب3 ح1.
(الصفحة571)
ورواية اُخرى لجميل ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : لا يقطع السارق حتّى يقرّ بالسرقة مرّتين ، ولا يرجم الزاني حتّى يقرّ أربع مرّات(1) .
ولكن إرسال الاُولى وضعف الثانية بعليّ بن السندي يمنع عن الاستدلال بهما .
وفي مقابلهما روايتان :
إحداهما : صحيحة الفضيل ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : إن أقرّ الرجل الحرّ على نفسه مرّة واحدة عند الإمام قطع(2) .
وهل المراد بالإمام هو الإمام المعصوم (عليه السلام) ، فتكون الرواية ناظرة إلى اختصاصه (عليه السلام) بكفاية الإقرار مرّة واحدة عنده ، أو الأعمّ منه ومن الحاكم ، وعليه فيكون محطّ نظر الرواية : أنّ نفس الإقرار إذا كان عند الحاكم يكفي مرّة ، وأمّا إذا كان عند غيره وقامت البيّنة عليه عند الحاكم فلا يكفي المرّة ، ولعلّه مراد ما عن المختلف من احتمال مخالفة الإقرار عند الإمام الإقرار عند غيره ; لأنّ الإنسان يحترز عند الإمام ويتحفّظ من الإقرار بما يوجب العقوبة ، بل غالباً إنّما يقرّ عنده إذا أقرّ عند غيره ، فلهذا يقطع بالإقرار مرّة واحدة(3) .
ثمّ إنّ صاحب الجواهر(قدس سره) قد نقل الصحيحة هكذا : «إذا أقرّ على نفسه بالسرقة مرّة واحدة قطع» ولذا أورد على الإستدلال بها للمقنع تارة بأنّه لم يقع فيها التقييد بكون الإقرار عند الإمام كما هو المحكيّ عنه ، واُخرى بأنّه يحتمل أن يكون الظرف ـ أي مرّة واحدة ـ متعلّقاً بالسرقة ، وعليه فتكون الرواية مجملة من جهة عدد الإقرار ، قال : ويقربه إمكان توهّم المخاطب أو بعض الحاضرين في المجلس أنّه
(1) وسائل الشيعة: 18 / 488، أبواب حدّ السرقة ب3 ح6.
(2) وسائل الشيعة: 18 / 488، أبواب حدّ السرقة ب3 ح3.
(3) مختلف الشيعة: 9 / 224.
(الصفحة572)
لا قطع ما لم تتكرّر السرقة(1) .
وأنت خبير بثبوت كلمة «عند الإمام» في الصحيحة ، وعدم ثبوت كلمة «السرقة» حتّى يحتمل تعلّق الظرف بها ، مع أنّه على تقدير وجودها يكون هذا الحمل خلاف الظاهر ، كما أنّ احتمال أن يكون القطع في الصحيحة بمعنى القطع عن الإقرار ثانياً خلاف الظاهر جدّاً ، خصوصاً على ما نقلناه من عدم الاشتمال على كلمة «السرقة» واستفادة كونها المراد من كلمة «القطع» المذكورة فيها ، كما لا يخفى .
ثانيتهما : صحيحته الاُخرى قال : سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول : من أقرّ على نفسه عند الإمام بحقّ من حدود الله مرّة واحدة ، حرّاً كان أو عبداً ، أو حرّة كانت أو أمة ، فعلى الإمام أن يقيم الحدّ عليه للذي أقرّ به على نفسه كائناً من كان إلاّ الزاني المحصن ، فإنّه لا يرجمه حتّى يشهد عليه أربعة شهداء ، فإذا شهدوا ضربه الحدّ مائة جلدة ، ثمّ يرجمه .
قال : وقال أبو عبدالله (عليه السلام) : ومن أقرّ على نفسه عند الإمام بحقّ حدّ من حدود الله في حقوق المسلمين ، فليس على الإمام أن يقيم عليه الحدّ الذي (للذي ظ) أقرّ به عنده حتّى يحضر صاحب الحقّ أو وليّه فيطالبه بحقّه ، قال : فقال له بعض أصحابنا : يا أبا عبدالله فما هذه الحدود التي إذا أقرّ بها عند الإمام مرّة واحدة على نفسه اُقيم عليه الحدّ فيها؟ فقال : إذا أقرّ على نفسه عند الإمام بسرقة قطعه ، فهذا من حقوق الله ، وإذا أقرّ على نفسه أنّه شرب خمراً حدّه ، فهذا من حقوق الله ، وإذا أقرّ على نفسه بالزنا وهو غير محصن فهذا من حقوق الله . قال : وأمّا حقوق
(1) جواهر الكلام: 41 / 522 ـ 523.
(الصفحة573)
المسلمين فإذا أقرّ على نفسه عند الإمام بفرية لم يحدّه حتّى يحضر صاحب الفرية أو وليّه ، وإذا أقرّ بقتل رجل لم يقتله حتّى يحضر أولياء المقتول فيطالبوا بدم صاحبهم(1) .
وهذه الرواية ظاهرة بل صريحة في كفاية الإقرارمرّةواحدة عندالإمام في السرقة، إلاّ أنّ مع ثبوت الوهن فيها من جهات عديدة لا يبقى مجالا للاستدلال بها .
منها : صراحتها في ثبوت حدّ السرقة بالإضافة إلى العبد أيضاً فيما إذا أقرّ بها ، ومنشأ الصّراحة التصريح أوّلا بعدم الفرق بين الحرّ والعبد في حقّ من حدود الله ، ثمّ التصريح بكون السرقة من مصاديق هذا النحو من الحقّ ، وعليه فلا مجال لما في الجواهر من تخصيص الصحيحة بما يدلّ على عدم اعتبار إقرار العبد في السرقة(2) ، التي منها صحيحة ثالثة للفضيل ، قال : سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول : إذا أقرّ المملوك على نفسه بالسرقة لم يقطع ، وإن شهد عليه شاهدان قطع(3) . فإنّه لا موقع للتخصيص بعد صراحة الرواية بنحو عرفت .
ومنها : ظهورها في تعيّن إجراء الحدّ على الإمام (عليه السلام) في صورة الثبوت بالإقرار أيضاً ، مع أنّ الحكم فيه هو التخيير كما مرّ(4) .
ومنها : ظهورها في عدم ثبوت الزنا المقرون بالإحصان بالإقرار ، وانحصار طريق ثبوته في الشهود .
ومنها : دلالتها على الجمع بين الجلد والرجم في الزنا المزبور مطلقاً ، مع أنّ
(1) وسائل الشيعة: 18 / 343، أبواب مقدّمات الحدود ب32 ح1.
(2) جواهر الكلام: 41 / 524.
(3) وسائل الشيعة: 18 / 532، أبواب حدّ السرقة ب35 ح1.
(4) في ص109 ـ 113.
(الصفحة574)
المشهور على ما عرفت في باب الزنا خلافه(1) .
ومنها : ظهورها بل صراحتها في أنّ القطع في باب السرقة لا يتوقّف على مطالبة المسروق منه ; لأنّها حقّ من حدود الله ، وسيأتي خلافه .
ومنها : الفرق بين قسمي الزنا من جهة الثبوت بالإقرار وعدمه .
ومنها : غير ذلك ممّا يوجب الوهن في الرواية ، ومع هذه الموهنات كيف يصحّ الاستدلال بها .
ثمّ إنّه يحتمل قويّاً أن تكون الصحيحة الاُولى للفضيل قطعة من الصحيحة الثانية ، ولا تكون رواية مستقلّة ، ويؤيّده وحدة السند فيهما ، وإن كان يبعّده التقييد بالحرّ فيها والتصريح بالتعميم في الثانية كما عرفت ، إلاّ أنّ ذلك إنّما هو على النقل الذي ذكرنا ، وأمّا على نقل صاحب الجواهر فلا يكون فيه هذا التقييد(2) .
وكيف كان ، فإن لم تكن الصحيحة رواية مستقلّة فلا يكون في مقابل أدلّة المشهور إلاّ رواية واحدة مشتملة على موهنات كثيرة ، كما عرفت .
وأمّا إن كانت رواية مستقلّة ، فإن كان المراد بالإمام فيها هو خصوص الإمام المعصوم (عليه السلام) ، فالرواية تصير أجنبية عن البحث في المقام ; لأنّه مع حضوره (عليه السلام) لا مجال للنظر في كفاية الإقرار الواحد عنده وعدمها ، كما لا يخفى .
وإن كان المراد بالإمام فيها هو الحاكم مطلقاً ، فالرواية تكون معارضة حينئذ لأدلّة المشهور ، والترجيح معها ; لموافقتها للشهرة الفتوائيّة التي هي أوّل المرجّحات كما مرّ مراراً ، خصوصاً مع كون المخالف في المسألة هو الصدوق في
(1) في ص161 ـ 167.
(2) جواهر الكلام: 41 / 522.
(الصفحة575)
المقنع ، الذي قال كاشف اللثام : لم أره فيما حضرني من نسخته(1) .
ثمّ إنّ صاحب الجواهر(قدس سره) حكى فيها عن كتاب التحصين للسيّد رضي الدين بن طاووس ، عن كتاب نور الهدى للحسن بن أبي طاهر ، عن الأصبغ رواية ظاهرة في اعتبار ثلاثة إقرارات(2) ، ولكن حيث إنّ موردها العبد ، وقد أشرنا إلى أنّ إقرار العبد في باب السرقة غير مسموع ولو كان متعدّداً ; لأنّه إقرار في حقّ الغير ، مضافاً إلى دلالة الرواية الصحيحة عليه ، مع أنّ اعتبار الثلاث ممّا لم يقل به أحد ، فلا مجال للاعتماد عليها بوجه .
فانقدح أنّ الحقّ ما عليه المشهور من اعتبار التعدّد بالإضافة إلى القطع ، وإن كان بالإضافة إلى المال لا يعتبر التعدّد أصلا ، بل يؤخذ عنه المال بمجرّد الإقرار ، كما في سائر موارد الإقرار بالاُمور الماليّة على ما هو مقتضى إطلاق دليل نفوذ إقرار العقلاء على أنفسهم .
ثمّ إنّ عدم اعتبار شهادة النساء مطلقاً إنّما هو على مبنى المتن من أنّه لا عبرة بها في باب الحدود مطلقاً ، إلاّ في خصوص ما استثني ، كباب الزنا على ما تقدّم(3) ، ولكن قد تقدّم منّا اعتبارها في صورة الإنضمام في الجملة(4) ، ولازمه الاكتفاء برجل وامرأتين في المقام .
كما أنّه ثبت في محلّه وهو كتاب القضاء : أنّه لا اعتبار باليمين في باب الحدود(5) ، فراجع .
(1) كشف اللثام: 2 / 427.
(2) كتاب التحصين: باب 11 من القسم الثاني، المطبوع في آخر اليقين: 610 ب11.
(3، 4) في ص115 ـ 121.
(5) تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة، كتاب القضاء: 241 ـ 242.
(الصفحة576)
مسألة 2 : يعتبر في المقرّ البلوغ والعقل والإختيار والقصد ، فلا يقطع بإقرار الصبيّ حتى مع القول بقطعه بالسرقة ، ولا بإقرار المجنون ولو أدواراً دور جنونه ، ولا بالمكره ، ولا بالهازل والغافل والنائم والساهي والمغمى عليه ، فلو أقرّ مكرهاً أو بلا قصد لم يقطع ولم يثبت المال 1 .
مسألة 3 : لو أكرهه على الإقرار بضرب ونحوه فأقرّ ثمّ أتى بالمال بعينه لم
1 ـ مرّ اعتبار هذه الامور الأربعة في نفوذ الإقرار مطلقاً(1) ، كما أنّه ظهر بملاحظة ما تقدّم في المسألة الاُولى اعتبار الحريّة أيضاً في السرقة ، والذي ينبغي التنبيه عليه هنا أمران :
أحدهما : أنّ عدم اعتبار إقرار الصبيّ إمّا لكونه مسلوب العبارة ، وإمّا لإنصراف دليل نفوذ الإقرار عن إقرار الصبيّ لا يرتبط بما تقدّم في مسألة سرقة الصبيّ ، وأنّه هل يترتّب على سرقته مجرّد التعزير مطلقاً ، أو يكون لها في كلّ دفعة حكم خاصّ وفي الدفعة الخامسة القطع؟ فإنّ تلك المسألة موردها ما إذا ثبت سرقة الصبيّ ، والكلام هنا في طريق الثبوت ، وأنّ إقراره لا يكون موجباً لثبوته ، فلا ارتباط بين الأمرين .
ثانيهما : أنّ فقدان أمر من هذه الاُمور الأربعة المعتبرة في المقرّ يوجب أن لا يترتّب على الإقرار شيء من أحكام السرقة ، لا القطع ولا الضمان ، وهذا بخلاف اعتبار تعدّد الإقرار الذي قد عرفت أنّه مع عدم التعدّد لا يترتّب القطع فقط ، بل يؤخذ عنه المال كما لا يخفى .
(1) مرّ في ص81 ـ 83.
(الصفحة577)
يثبت القطع إلاّ مع قيام قرائن قطعيّة على سرقته بما يوجب القطع1.
1 ـ المفروض في هذه المسألة ما إذا كان الإقرار بالسرقة واقعاً عن اكراه ، مثل الضرب وردّ المال الذي أقرّ بسرقته كذلك واقعاً عن إرادة واختيار ، ولم يكن هناك قرينة قطعيّة على تحقّق السرقة الموجبة للقطع ، وقد وقع الاختلاف في ثبوت القطع فيه وعدمه ، فالمحكيّ عن النهاية(1) والمهذّب(2) والجامع(3) والمختلف(4) الثبوت ، وعن الحلّي(5) وجميع من تأخّر عنه عدم الثبوت(6) ، واستدلّ للأوّل بأمرين :
الأوّل : أنّ ردّ ما أقرّ بسرقته كذلك دليل قطعيّ على تحقّق السرقة ، كما أنّ قيء المسكر دليل على شربه ، وقد تقدّم أنّه إذا شهد أحد الشاهدين بالشرب والآخر بالقيء يترتّب عليه حدّ الشرب(7) .
الثاني : صحيحة سليمان بن خالد قال : سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن رجل سرق سرقة فكابر عنها فضرب ، فجاء بها بعينها ، هل يجب عليه القطع؟ قال : نعم ، ولكن لو اعترف ولم يجيء بالسرقة لم تقطع يده ; لأنّه اعترف على العذاب(8) .
والجواب عن الأوّل : وضوح كون ردّ المال إلى صاحبه أعمّ من وقوع السرقة ; لاحتمال أن يكون أمانة عنده أو عارية لديه ، أو مثلهما من العناوين المجوّزة لأن
(1) النهاية: 718.
(2) المهذّب: 2 / 544.
(3) الجامع للشرائع: 561.
(4) مختلف الشيعة: 9 / 224 ـ 225 مسألة 81.
(5) السرائر: 3 / 490.
(6) قواعد الأحكام: 2 / 270، مسالك الأفهام: 14 / 516، شرائع الإسلام: 4 / 955.
(7) تقدّم في ص473 ـ 475.
(8) وسائل الشيعة: 18 / 497، أبواب حدّ السرقة ب7 ح1.
(الصفحة578)
يكون المال تحت يده ، بل واحتمال أن يكون مغصوباً قد غصبه ثمّ بدا له أن يردّه إلى صاحبه ، ومجرّد وقوع الردّ عقيب الإقرار عن إكراه لا يوجب انطباق الردّ على خصوص عنوان السرقة الموجبة للقطع .
والحكم في المقيس عليه وهو القيء أيضاً على خلاف القاعدة ; لأنّ القيء وإن كان كاشفاً عن تحقّق الشرب ، إلاّ أنّه ليس كلّ شرب موضوعاً للحكم بالحدّ ; لاحتمال أن يكون واقعاً عن إكراه أو اضطرار أو نحوهما ، ولذا وقع الإشكال في التعدّي عن مورد الرواية فيما إذا قامت البيّنة على القيء وشهد كلا الشاهدين بذلك ، وإن نفينا البعد عن ذلك بملاحظة التعليل الواقع في روايته ، إلاّ أنّه لا يقتضي كون الحكم على وفق القاعدة ، كما لا يخفى .
وعن الاستدلال بالصحيحة ظهور السؤال فيها في ثبوت السرقة من الرجل ، وأنّ المكابرة إنّما هي بالإضافة إلى المال المسروق ، بمعنى امتناعه عن ردّه ، وأنّ مجيئه به إنّما يكون مسبّباً عن ضربه وإكراهه ، ففي الحقيقة يكون مورد السؤال ثبوت السرقة وتحقّق الإكراه على ردّ المال ومجيئه به ، وهذا خلاف ما هو المفروض في المقام من تعلّق الإكراه بالإقرار ، ووقوع ردّ المال عن إرادة واختيار ، ومن الواضح أنّ المراد بكلمة السرقة في الصحيحة هو المال المسروق لا عمل السرقة ، فالمكابرة راجعة إليه لا إليها ، وعليه فالسرقة مفعول به لقوله : «سرق» لا مفعول مطلق له ، ويدلّ عليه ـ مضافاً إلى الضمائر المذكورة فيها ـ قوله (عليه السلام) في الذيل : ولم يجيء بالسرقة .
وبالجملة : لا خفاء في ظهور قوله (عليه السلام) : «سرق سرقة» في تحقّق السرقة وثبوتها ، وفي أنّ المكابرة والضرب عقيبها إنّما هما راجعان إلى ردّ المال الذي ثبتت
(الصفحة579)
سرقته لا إلى أصل السرقة . نعم ، يقع الكلام حينئذ في أنّه على هذا التقدير الذي يكون المفروض فيه ثبوت السرقة لا يبقى مجال للسؤال عن ثبوت القطع وعدمه ، وهذا بخلاف ما لو فسّرنا الرواية بالنحو الذي ذكره المستدلّ ، فإنّ السؤال حيئنذ يكون له مجال لرجوعه إلى أنّ مجيء المقرّ عن إكراه بالمال اختياراً هل يوجب ثبوت السرقة الموجبة للقطع أم لا؟
والجواب : أنّه على التقدير الذي ذكرنا يكون الوجه في السؤال ثبوت شبهة في ذهن السائل ، وهي : أنّ الضرب لردّ المال في مورد ثبوت السرقة هل يقوم مقام القطع ، بحيث يوجب عدم ترتّبه مع ثبوتها أم لا؟ فأجاب (عليه السلام) بما يرجع إلى عدم القيام وثبوت القطع ، فللسؤال مجال .
نعم ، الإشكال إنّما هو في ذيل الرواية ، الذي وقع بصورة الاستدراك ; لأنّ المراد بالاعتراف فيه يحتمل أن يكون هو الإقرار الموجب لثبوت السرقة ، ومرجعه إلى أنّ السرقة لو ثبتت بالإقرار الاختياري لم تقطع يده ، واللازم حينئذ أن يكون المراد عدم تحتّم القطع وتعيّنه ، لا عدم جوازه ، ويحتمل أن يكون في مقابل المكابرة الواقعة في الصدر ، ومرجعه إلى ثبوت السرقة من غير طريق الإقرار ، فالمراد من الاعتراف حينئذ تصديق وقوع السرقة الثابتة .
فعلى الاحتمال الأوّل لا يظهر وجه التقييد بعدم المجيء بالسرقة ، بل عدم تعيّن القطع في صورة المجيء بها أولى لتأيّد الاعتراف بالعذاب به ، وعلى الاحتمال الثاني لا وجه للحكم بعدم القطع ولو بنحو التعيّن ، مع أنّه لا يلائم التعليل بالاعتراف بالعذاب كما لا يخفى ، ولكنّ الإشكال في الذيل لا يقدح في ظهور الصدر فيما ذكرنا ، والحكم ببطلان الاستدلال بها على ما ذكروه .
(الصفحة580)
مسألة 4 : لو أقرّ مرّتين ثمّ أنكر فهل يقطع أو لا؟ الأحوط الثاني والأرجح الأوّل ، ولو أنكر بعد الإقرار مرّة يؤخذ منه المال ولا يقطع ، ولو تاب أو أنكر بعد قيام البيّنة يقطع ، ولو تاب قبل قيام البيّنة وقبل الإقرار سقط عنه الحدّ ، ولو تاب بعد الإقرار يتحتّم القطع ، وقيل : يتخيّر الإمام بين العفو والقطع 1.
1 ـ في هذه المسألة فروع :
الأوّل : ما لو أقرّ مرّتين ثمّ أنكر ، فهل يقطع ، كما عن الشيخ(1) والحلّي(2)والفاضل(3) والشهيدين(4) وغيرهم(5) . بل ربّما نسب إلى الأكثر(6) ، أو لا يقطع ، كما عن النهاية(7) وكتابي الحديث(8) والقاضي(9) والتّقي(10) وابن زهرة(11) والفاضل في المختلف(12) . بل قيل : لعلّه الأشهر بين القدماء(13) . بل عن الغنية الإجماع عليه ، أو
(1) المبسوط: 8 / 40.
(2) السرائر: 3 / 490.
(3) قواعد الأحكام: 2 / 270، إرشاد الأذهان: 2 / 184.
(4) اللمعة الدمشقيّة: 171، الروضة البهيّة: 9 / 278 ـ 279، مسالك الأفهام: 14 / 517 ـ 519.
(5) شرائع الإسلام: 4 / 955، الجامع للشرائع: 561.
(6) رياض المسائل: 10 / 188.
(7) النهاية: 718.
(8) التهذيب: 10 / 126، الإستبصار: 4 / 250.
(9) المهذّب: 2 / 544.
(10) الكافي في الفقه: 412.
(11) غنية النزوع: 434.
(12) مختلف الشيعة: 9 / 225.
(13) رياض المسائل: 10 / 188.
|