(الصفحة 21)
المقام الثاني
في عدم انفعال الماء الجاري بملاقاته للنجس
وهو فيما إذا كان كُرّاً موضع وفاق ، وفي ا لقليل منـه يظهر من ا لعلاّمـة خلاف ذلك ; حيث ذهب إ لى أ نّـه لا فرق بين ا لقليل من ا لجاري وا لقليل من غيره(1) .
في أدلّة عدم انفعال القليل من الماء الجاري
وما يستفاد منـه إطلاق ا لحكم لصورة ا لقلّـة ; وعدم ا لاختصاص بما إذا كان كرّاً ، روايات :
منها :صحيحـة حريز بن عبدالله عن أبي عبدالله (عليه السلام) قا ل : «كلّما غلب ا لماء على ريح ا لجيفـة فتوضّأ من ا لماء واشرب ، فإذا تغيّر ا لماء وتغيّر ا لطعم فلاتوضّأ منـه ولاتشرب»(2) .
1 ـ تذكرة ا لفقهاء 1 : 17 . 2 ـ تهذيب ا لأحكام 1 : 216 / 625 ، وسائل ا لشيعـة 1 : 137 ، كتاب ا لطهارة ، أبواب ا لماء ا لمطلق ، ا لباب3 ، ا لحديث1 .
(الصفحة 22)
فإنّها تدلّ بإطلاقها على جواز ا لتوضّي وا لشرب من ا لماء ا لجاري فيما إذا غلب على ريح ا لجيفـة ولو كان قليلاً غير با لغ حدّ ا لكرّ .
ومنها :روايـة أبي خا لد ا لقمّاط : أ نّـه سمع أباعبدالله (عليه السلام) يقول في ا لماء يمرّ بـه ا لرجل ، وهو نقيعٌ ، فيـه ا لميتـة وا لجيفـة ، فقا ل أبوعبدالله (عليه السلام) : «إن كان ا لماء قد تغيّر ريحـه أو طعمـه ، فلاتشرب ولاتتوضّأ منـه ، وإن لم يتغيّر ريحـه وطعمـه فاشرب وتوضّأ»(1) .
ومورد ا لسؤال في هذه ا لروايـة وإن كان هو ا لماء ا لنقيع ; أي ا لمجتمع في موضع ، إلاّ أنّ ا لعدول في مقام ا لجواب عن بيان حكم هذا ا لمورد بخصوصـه ، وا لتعبير با لقضيّـة ا لكلّيـة ، وهي قولـه (عليه السلام) : «إن كان ا لماء . . .» إ لى آخره، ربما يدلّ على ا لمطلب ، كما هو غير خفيّ .
ومنها :صحيحـة محمّد بن إسماعيل عن ا لرضا (عليه السلام) قا ل : «ماء ا لبئر واسع لايُفسده شيء إلاّ أن يتغيّر ريحـه أو طعمـه ، فينزح حتّى يذهب ا لريح ويطيب طعمـه ; لأنّ لـه مادّة»(2) .
فإنّـه لاريب في أنّ ا لمراد بقولـه (عليه السلام) : «لايُفسده شيء» ليس ا لإخبار عن أ نّـه لايَفسُد بما هو مُفسد في نظر ا لعرف ، بل ا لمراد بـه بيان ا لحكم ، وهو اعتصامـه وعدم انفعا لـه .
وحينئذ فإمّا أن يقا ل : بكون ا لتعليل بأنّ «لـه مادّة» تعليلاً لهذا ا لحكم ، فا لروايـة تدلّ معـه على حكم ا لماء ا لجاري لمكان ا لتعليل ; لأ نّـه يستفاد منها : أنّ
1 ـ تهذيب ا لأحكام 1 : 40 / 112 ، وسائل ا لشيعـة 1 : 138 ، كتاب ا لطهارة ، أبواب ا لماء ا لمطلق ، ا لباب3 ، ا لحديث4 . 2 ـ ا لاستبصار 1 : 33 / 87 ، وسائل ا لشيعـة 1 : 141 ، كتاب ا لطهارة ، أبواب ا لماء ا لمطلق ، ا لباب3 ، ا لحديث12 .
(الصفحة 23)
ا لعلّة في ا لاعتصام وعدم ا لانفعا ل ، كون ا لماء متّصفاً بأنّ لـه مادّة ، ومن ا لمعلوم وجود هذه ا لعلّـة في ا لماء ا لجاري لو لم يكن بنحو أقوى وبطريق أولى ، كما لايخفى .
وإمّا أن يقا ل : بكونـه تعليلاً لما يترتّب على ذهاب ا لريح وطيب ا لطعم ، وهي طهارة ا لماء ; لأ نّـه لايناسب أن يكون تعليلاً لنفس ذهاب ا لريح وطيب ا لطعم ، فتأ مّل .
وعليـه فتدلّ ا لروايـة أيضاً على اعتصام ا لماء ا لجاري ولو كان قليلاً غير با لغ حدّ ا لكرّ ; لأ نّـه يستفاد منها أنّ ا لعلّـة في طهارة ا لماء بعد فرض عدم تغيّره أو ذهابـه إنّما هو كونـه ذا مادّة، وا لمفروض اشتراك ا لجاري مع ا لبئر في هذا ا لأمر ، فا لعلّـة قد دلّت على عموميّـة ا لحكم لكلّ ما هي موجودة فيـه :
ومنها :روايـة سماعـة قا ل : سأ لتـه عن ا لماء ا لجاري يُبا ل فيـه ؟ قا ل : «لابأس بـه»(1) .
وهذه ا لروايـة ـ باعتبار كون ا لسؤال فيها عن حكم ا لماء ا لجاري بعد ا لبول فيـه ـ تدلّ بجوابها على اعتصامـه وعدم انفعا لـه ، وهذا بخلاف أكثر ا لروايات ا لتي أوردها صاحب ا لوسائل في هذا ا لباب(2) ، فإنّ مفروض ا لسؤال فيها إنّما هو ا لبول في ا لماء ا لجاري ، وا لحكم بعدم ا لبأس فيها لايدلّ على ا لاعتصام وعدم ا لانفعا ل(3) .
1 ـ تهذيب ا لأحكام 1 : 34 / 89 ، وسائل ا لشيعـة 1 : 143 ، كتاب ا لطهارة ، أبواب ا لماء ا لمطلق ، ا لباب5 ، ا لحديث4 . 2 ـ وسائل ا لشيعـة 1 : 143 ، كتاب ا لطهارة ، أبواب ا لماء ا لمطلق ، ا لباب5 . 3 ـ يمكن أن يقا ل بأنّ ا لفرق بينها وبين سائر ا لروايات غير واضح ; لأنّ ا لظاهر أنّ مفروض ا لسؤال في هذه ا لروايـة أيضاً إنّما هو ا لبول في ا لماء ا لجاري كما يشعر أو يدل عليـه ا لتعبير في ا لجواب بقولـه (عليه السلام) : «لا بأس بـه» ; فإنّ عدم ا لبأس إنّما يلائم مع ا لحكم ا لتكليفي لا ا لحكم ا لوضعي [المقرر دام ظلّه].
(الصفحة 24)
ومنها :روايـة سماعـة أيضاً ، قا ل : سأ لتـه عن ا لرجل يمرّ با لميتـة في ا لماء ؟ قا ل :«يتوضّأ من ا لناحيـة ا لتي ليس فيها ا لميتـة»(1) .
ودلالتها على ما نحن بصدده واضحـة .
ومنها :صحيحـة داود بن سرحان ، قا ل : قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : ما تقول في ماء ا لحمّام ؟ قا ل : «هو بمنزلـة ا لماء ا لجاري»(2) .
وا لاستدلال بهذه ا لروايـة على اعتصام ا لماء ا لجاري مطلقاً ; وعدم انفعا لـه ولو لم يبلغ حدّ ا لكُرّ ، يتوقّف على ثلاث مقدّمات :
إحداها : أنّ ا لتنزيل إنّما هو في ا لاعتصام ، لا في ا لانفعا ل ; لأ نّـه ا لمشهور وا لمعروف با لنسبـة إ لى ا لماء ا لجاري ، ولو لم نقل بإطلاق اعتصامـه حتّى في ا لقليل .
ثانيتها : أنّ ا لمنزّل إنّما هي ا لحياض ا لصغيرة ا لتي كانت مورداً لابتلاء ا لناس بها ، لا ا لمخزن ا لمتّصل بها ، ولا ا لمجموع منـه ومن تلك ا لحياض ا لصغيرة .
أ مّا ا لأوّل : فواضح . وأ مّا ا لثاني : فلأنّ تنزيلـه منزلـة ا لماء ا لجاري يكون ـ حينئذ ـ بلا وجـه ; لعدم ا لمناسبـة بينهما وعدم تحقّق ا لمشابهـة وا لمماثلـة ، بخلاف ما إذا كان ا لتنزيل با لنسبـة إ لى ا لحياض ا لصغيرة فقط ، فإنّ وجـه ا لشبـه
1 ـ تهذيب ا لأحكام 1 : 408 / 1285 ، وسائل ا لشيعـة 1 : 144 ، كتاب ا لطهارة ، أبواب ا لماء ا لمطلق ، ا لباب5 ، ا لحديث5 . 2 ـ تهذيب ا لأحكام 1 : 378 / 1170 ، وسائل ا لشيعـة 1 : 148 ، كتاب ا لطهارة ، أبواب ا لماء ا لمطلق ، ا لباب7 ، ا لحديث1 .
(الصفحة 25)
ـ حينئذ ـ كون كلّ منهما مشتملاً على مادّة يخرج ا لماء منها ، هذا مضافاً إ لى أنّ ا لمخزن ا لمتّصل با لحياض ليس مورداً للابتلاء حتّى يُسأل عنـه ، وإنّما كان محلّ ا لابتلاء خصوص تلك ا لحياض ا لواقعـة في ا لحمّام .
ثا لثتها : كون ماء تلك ا لحياض غير با لغ حدّ ا لكرّ غا لباً ، وهو كذلك على ما هوا لمتعارف ا لموجود في ا لخارج ، ويؤيّده وقوع ا لسؤال عنـه في ا لأخبار ا لكثيرة(1) ، مع أ نّـه لو كان با لغاً حدّ ا لكُرّ لم يحتجْ إ لى ا لسؤال لوضوح حكم ا لكرّ .
وبعد ثبوت هذه ا لمقدّمات ، يُستفاد من ا لروايـة عدم ا لفرق في ا لماء ا لجاري بين ا لقليل وا لكثير ، وينقدح بطلان ما اُورد ـ أو يمكن أن يُورد ـ على ا لاستدلال با لروايـة(2) ، فراجع وتأ مّل .
كلام العلاّمة في المقام ونقده
ومستند ا لعلاّمـة (قدس سره) فيما ذهب إ ليـه من ا لتفصيل(3) ، مفهوم ا لأخبار ا لكثيرة ا لدالّـة على أنّ الماء إذا بلغ قدر كُرّ لم ينجّسـه شيء(4) ، فإنّ مفادها : أنّ العلّـة ا لمنحصرة وا لسبب ا لوحيد لعدم تنجّس ا لماء ، هو بلوغـه قدر ا لكُرّ ، فينتفي مع انتفائها ، من دون فرق بين ا لجاري وغيره .
وتحقيق ا لجواب يتوقّف على بيان حا ل ا لمفهوم ، وأ نّـه هل يصلح لأن يعارض ا لمنطوق أم لا ؟ وإن كان هذا ا لبحث خارجاً عن ا لبحث ا لفقهي .
فنقول : قد اشتهر بين ا لمتأخّرين من ا لاُصوليّين : أنّ تعليق ا لحكم على
1 ـ راجع وسائل ا لشيعـة 1 : 148 ، كتاب ا لطهارة ، أبواب ا لماء ا لمطلق ، ا لباب7 . 2 ـ اُنظر ا لطهارة ، ضمن تراث ا لشيخ ا لأعظم 1 : 75 . 3 ـ تذكرة ا لفقهاء 1 : 17 . 4 ـ راجع وسائل الشيعـة 1 : 158 ، كتاب الطهارة ، أبواب الماء المطلق ، الباب9 .
(الصفحة 26)
شرط أو وصف أو غيرهما من ا لقيود ، يفيد كون ذلك ا لشرط أو ا لوصف أو ا لقيد ا لآخر ، علّـة منحصرة لثبوت ذلك ا لحكم ; بحيث ينتفي ا لحكم بمجرّد انتفاء ما عُلّق عليـه ، كانتفاء كلّ معلول بانتفاء علّتـه ا لمنحصرة .
وهذا ا لمعنى ا لمعروف مناف لما يقتضيـه ا لتتبّع في ا لاستعمالات ا لعرفيّـة ، فإنّ ا لظاهر أ نّـه بحسبها لايفيد تعليق ا لحكم على مثل ا لشرط إلاّ مجرّد دخا لتـه في ا لحكم ، أ مّا كون ذلك ا لشرط علّـة فلا يُستفاد منـه ، فضلاً عن أن يكون علّـة منحصرة ; ألا ترى أ نّـه لو قيل : إذا طلعت ا لشمس فا لحرارة موجودة ، لايستفاد منـه كون طلوع ا لشمس علّـة منحصرة لحدوث ا لحرارة وإلاّ لزم أن تكون هذه ا لقضيّـة كاذبـة مخا لفـة للواقع ـ وهو خلاف ا لواقع ـ فبعد فرض ا لصدق وعدم كون ا لاستعما ل مجازياً ـ كما هو واضح ـ يدلّ ذلك على أنّ ا لتعليق با لشرط لايفيد إلاّ مجرّد دخا لتـه في ا لحكم ، وهذا هو ا لموافق لحكم ا لعقل أيضاً فإنّـه يحكم بأنّ ا لمتكلّم ا لمختار إذا أخذ في موضوع حكمـه قيداً ، فا للازم ا لحكم بدخا لـة ا لقيد في ا لحكم ا لمذكور ; صوناً لكلامـه عن ا للَغويّـة عكس باب ا لإطلاق ، فإنّ ا لعقل يحكم في ذلك ا لباب بأ نّـه إذا فرض كون ا لمتكلّم في مقام ا لبيان ، ولم يأخذ قيداً في متعلّق ا لحكم ، فا للازم ا لحكم بكون موضوع حكمـه نفس ا لطبيعـة بلا قيد ، وكما أنّ تقييد ا لموضوع بدليل آخر لايُنافي ذلك ا لإطلاق ، بل ا لواجب حملـه عليـه ، فكذلك ثبوت ا لحكم فيما نحن فيـه مع قيد آخر لاينافي تعليقـه على ا لقيد ا لأوّل ، فتدبّر .
وفي ا لمقام لايستفاد من تلك ا لأخبار إلاّ مجرّد أنّ بلوغ ا لماء قدر كُرّ ، لـه دخا لـة في ا لاعتصام وعدم ا لتنجّس ، ولايُنافي ذلك أنّ اتّصافـه بكونـه جارياً أيضاً موجب لعدم ا لانفعا ل .
نعم ا لمستفاد من تلك ا لأخبار : أنّ ذلك ا لحكم لايترتّب على طبيعـة ا لماء
(الصفحة 27)
من دون مدخليّـة أيّ قيد ; لما عرفت من أ نّـه يلزم أن يكون أخذ ا لقيد لغواً ، منافياً لشأن ا لمتكلّم ا لملتفت ا لمختار .
فانقدح من جميع ذلك : أنّ ا لمـفهوم لايصـلح لأن يعـارض ا لمنطوق أصلاً ، فلا تعارض بين ا لأدلّـة في ا لمقام ، بل ا لواجب ا لأخذ بإطلاق أدلّـة ا لماء ا لجاري ، وا لحكم بعموميّـة ا لاعتصام وشمولـه للقليل منـه أيضاً .
ثمّ إنّـه لو قيل : بإفادة تعليق ا لحكم على شرط ونحوه ، كونَ ذلك ا لشرط علّةً وحيدة لترتّب ا لجزاء ، وسبباً منحصراً لثبوت ا لحكم ; بحيث ينتفي بانتفائـه ففي مثل ا لمقام ، يقع ا لتعارض بين ا لأدلّـة ، وليست لإحدى ا لطائفتين حكومـة على ا لاُخرى ; لأنّ ا لحكومـة معناها كون دليل ا لحاكم ناظراً إ لى دليل ا لمحكوم ومفسِّراً لـه ; بحسب ا لموضوع أو ا لمحمول أو ا لمراتب ا لمتقدّمـة أو ا لمتأخّرة ، كما حقّقناه في محلّـه(1) .
ولاريب في عدم تحقّق هذا ا لمعنى هنا ; وذلك لأنّ مقتضى أدلّـة ا لجاري ثبوت حكمـه با لنسبـة إ لى جميع مصاديقـه ، ومقتضى هذه ا لأدلّـة انفعا ل ا لماء غير ا لبا لغ حدّ ا لكرّ كذلك ; أي بالإضافـة إ لى جميع أفراده ، فلا محا لـة يقع ا لتعارض بينهما في خصوص مادّة ا لاجتماع ـ وهي ا لماء ا لقليل ا لجاري ـ من دون أيّ تفسير وتعرّض من أحدهما با لنسبـة إ لى ا لآخر .
كلام الشيخ الأعظم في المقام
ويظهر من ا لشيخ (قدس سره) ـ في كتاب ا لطهارة ـ أ نّـه بعد فرض كون ا لتعارض بينهما با لعموم وا لخصوص من وجـه ، يكون ا لأولى تقييد إطلاقات ا لجاري ; حيث
1 ـ ا لاستصحاب ، ا لإمام ا لخميني(قدس سره) : 234 ـ 235 .
(الصفحة 28)
قا ل : «وا لتقييد في إطلاقات ا لجاري إخراج للفرد ا لنادر ; لأنّ ما لايبلغ مع ما في ا لمادّة ـ بل بنفسـه ـ كُرّاً قليل ، بخلاف تقييد ا لماء بغير ا لجاري في أدلّـة إناطـة ا لاعتصام با لكثرة ، فإنّـه إخراج للفرد ا لمتعارف .
ودعوى : أنّ ا لخارج عن أحد ا لإطلاقين هو ا لجاري ا لقليل ، ولايتفاوت ا لحا ل بين خروجـه عن إطلاقات ا لجاري أو عن تلك ا لإطلاقات .
مدفوعـة : بأنّ ا لخارج من أدلّـة إناطـة ا لاعتصام با لكثرة ـ في مثل قولـه (عليه السلام) بعد ا لسؤال عن ا لماء ا لذي لاينجّسـه شيء : «إنّـه ا لكُرّ من ا لماء» ، وقولـه : «إذا كان ا لماء قدر كُرّ لم ينجّسـه شيء» ونحو ذلك ـ هو مطلق ا لجاري ، فيكون ا لمقسم في هذه ا لأدلّـة هو ا لماء ا لراكد ، وهذا أبعد من تقييد ا لجاري بما يبلغ حدّ ا لكُرّ ، كما لايخفى على ا لمنصف(1) » .
كلام للمحقّق الهمداني في المقام
وعلّل ذلك ـ أي كون ا لخارج عن إطلاقات أدلّـة ا لاعتصام هو مطلق ا لجاري ، لا خصوص ا لقليل منـه ـ في «ا لمصباح» : بأنّ تخصيص ا لمفهوم بما عدا ا لقليل ا لجاري ، يستلزم تقييد ا لماء في منطوق ا لقضيـة با لراكد ; إذ لايُعقل شمول ا لمنطوق للكثير ا لجاري وعدم شمول ا لمفهوم لقليلـه ; لأنّ ا لمفاهيم من قبيل ا للُبّيات ; منشؤها ا لاستلزامات ا لمحقّقـة بين ا لمناطيق ومفاهيمها ، فلايُعقل ا لتصرّف فيها ـ ولو با لتخصيص ـ إلاّ با لتصرّف في ا لمنطوق(2) .
أقول : أ مّا ما ذكره في «ا لمصباح» تعليلاً لكون ا لخارج من أدلّـة إناطـة
1 ـ ا لطهارة ، ضمن تراث ا لشيخ ا لأعظم 1 : 78 . 2 ـ مصباح ا لفقيـه ، ا لطهارة 1 : 41 .
(الصفحة 29)
ا لاعتصام با لكثرة ، هو مطلق ا لجاري ، فلم يعلم لـه وجـه ; إذ ليس ا لمفهوم بحيث لايجوز ا لتصرّف فيـه إلاّ با لتصرّف في ا لمنطوق ; لأ نّـه ليس إلاّ ظهوراً للمنطوق ، ويمكن رفع ا ليد عنـه كلّيّـة ، أو با لنسبـة إ لى بعض أفراده .
ألا ترى أ نّـه لو قيل : أكرم ا لعلماء ا لعدول ، ا لدالّ بمفهومـه ـ بناءً على ثبوت مفهوم ا لوصف ـ على عدم وجوب إكرام ا لعا لم ا لفاسق ، ثمّ ورد : أكرم ا لفقهاء ـ مثلاً ـ ا لشامل بإطلاقـه لما إذا كان ا لفقيـه فاسقاً ، فمجرّد وقوع ا لتعارض بين ذاك ا لمفهوم وهذا ا لمنطوق ، هل يستلزم أن لايكون منطوق ا لأوّل شاملاً للفقيـه ; لتقيّد مفهومـه ـ مثلاً ـ بما عدا ا لفقيـه ؟ ! ومن ا لمعلوم خلافـه .
وأ مّا ما أفاده ا لشيخ (قدس سره) : من دوران ا لأمر بين إخراج ا لفرد ا لنادر وبين إخراج ا لفرد ا لمتعارف ، وا لثاني أبعد من ا لأوّل .
ففيـه : أنّ مجرّد ذلك لايوجب ا لأخذ بإطلاق أدلّـة إناطـة الاعتصام با لكثرة ، ما لم يكن ذلك مقتضى ا لجمع ا لعرفي ، فإنّ ا للازم في أمثا ل هذه ا لموارد اتّباع ما هو ا لمتفاهم عند ا لعرف ، وقلّـة ا لأفراد وكثرتها لاتوجب مزيّـة لأحدهما على ا لآخر .
وبا لجملـة:فا لظاهر أ نّـه بعد ثبوت ا لمفهوم ـ بمعنى ا لعلّيّـة ا لمنحصرة ـ لتلك ا لإطلاقات يقع ا لتعارض بينها وبين أدلّـة ا لجاري با لعموم وا لخصوص من وجـه ، ولا خصوصيّـة في ا لمقام تقتضي تعيّن ا لأخذ بأحد ا لإطلاقين ، فا لواجب إعما ل قواعد ا لتعارض فيـه ، فنقول :
إن قلنا بدخول مثل هذا ا لقسم من ا لتعارض ـ وهو ا لتعارض با لعموم وا لخصوص من وجـه ـ في موضوع ا لأخبار ا لعلاجيّـة ; لأ نّهما يُعَدّان بنظـر ا لعـرف مـن «ا لمتعارضين» أو «ا لمتخا لفين» ، فا لواجب ا لأخـذ بإطلاقات أدلّـة
(الصفحة 30)
ا لجاري ; لكونها موافقـة لفتوى ا لمشهور ، وثبت فـي محلّـه : أنّ أوّل ا لمرجّحات هي ا لشهرة من حيث ا لفتوى(1) .
وإن قلنا بخروج مثلـه عن مورد أخبار ا لعلاج ; لأنّ ا لمتفاهم من عنوان «ا لمتعارضين» هو ما كان ا لدليلان متعارضين بتمام مدلولهما ، فمقتضى ا لقاعدة ا لتساقط وا لرجوع إ لى عموم ا لنبوي ا لمعروف بين ا لفريقين ا لمتقدّم سابقاً(2) ، وهو قولـه(صلى الله عليه وآله وسلم) : «خلق الله ا لماء طهوراً لاينجّسـه شيء ، إلاّ ما غيّر لونـه أو طعمـه أو ريحـه» ، ولو نوقش فيـه من حيث ا لسند ، فمقتضى ا لقاعدة ا لرجوع إ لى قاعدة ا لطهارة .
1 ـ ا لتعادل وا لترجيح ، ا لإمام ا لخميني(قدس سره) : 175 . 2 ـ تقدّم في ا لصفحـة 19 .
(الصفحة 31)
المقام الثالث
في انفعال الجاري باستيلاء النجاسة عليه
قال ا لمحقّق في «ا لشرائع» : «وأ مّا ا لجاري فلاينجس إلاّ باستيلاء ا لنجاسـة على أحد أوصافـه»(1) .
وإثبات أصل ا لاستثناء كأ نّـه لايحتاج إ لى تكلّف إقامـة ا لدليل عليـه ; لكونـه كا لبديهي وا لضروري ; لقيام ا لشهرة ا لعظيمـة ـ بل ا لإجماع ا لمحقّق ـ على وفقـه(2) ، مضافاً إ لى ا لروايات ا لكثيرة ا لواردة في هذا ا لباب .
وإنّما ا لإشكا ل وا لكلام في بعض ما يتفرّع عليـه ، وا لمناسب أوّلاً نقل جملـة من ا لروايات حتّى يظهر حا ل تلك ا لفروع ، فنقول :
الروايات الدالّة على انفعال الماء بالتغيّر بالنجاسة
منها : صحيحـة حريز بن عبدالله عن أبي عبدالله (عليه السلام) قا ل : «كلّما غلب ا لماء على ريح ا لجيفـة فتوضّأ مـن ا لماء واشرب ، فإذا تغيّر ا لماء وتغيّر ا لطعم فلا
1 ـ شرائع ا لإسلام 1 : 4 . 2 ـ الخلاف 1 : 195 ، المسألة 152 ، تذكرة الفقهاء 1 : 15 ، مفتاح الكرامة 1 : 61 / السطر15 ، جواهر ا لكلام 1 : 75 ـ 76 .
(الصفحة 32)
توضّأ منـه ولاتشرب»(1) .
وا لمراد بقولـه : «فإذا تغيّر ا لماء» يحتمل أن يكون هو مطلق ا لتغيّر ، فيشمل ا لتغيّر با للون أيضاً ، وعليـه فيكون عطف قولـه : «وتغيّر ا لطعم» من قبيل عطف ا لخاصّ على ا لعامّ .
ويحتمل أن يكون ا لمراد بـه هو ا لتغيّر با لريح فقط ; بقرينـة ا لصدر ، وهو ا لأظهر .
ومنها :صحيحـة ا لحلبي ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) : «في ا لماء ا لآجن يُتوضّأ منـه إلاّ أن تجد ماءً غيره فتنزّه منـه»(2) .
قا ل في ا لمجمع : «أَجِن ا لماء ـ من بابي قعد وضرب ـ تغيّر لونـه وطعمـه ، فهو آجن»(3) ، وسيأتي توجيـه هذه ا لروايـة بما لايُنافي سائر ا لروايات .
ومنها :روايـة أبي بصير عن أبي عبدالله (عليه السلام) ; أ نّـه سُئل عن ا لماء ا لنقيع تبول فيـه ا لدوابّ ؟ فقا ل : «إن تغيّر ا لماء فلاتتوضّأ منـه ، وإن لم تغيّره أبوا لها فتوضّأ منـه ، وكذلك ا لدم إذا سا ل في ا لماء وأشباهـه»(4) .
ومنها :غير ذلك من ا لروايات ا لكثيرة ا لمذكورة في «ا لوسائل» في ا لباب ا لثا لث من أبواب ا لماء ا لمطلق(5) ، وبعض ا لروايات ا لمذكورة فيها في ا لباب
1 ـ ا لكافي 3 : 4 / 3 ، تهذيب ا لأحكام 1 : 216 / 625 ، الاستبصار 1 : 12 / 19 ، وسائل ا لشيعـة 1 : 137 ، كتاب ا لطهارة ، أبواب ا لماء ا لمطلق ، ا لباب3 ، ا لحديث1 . 2 ـ تهذيب ا لأحكام 1 : 217 / 626 ، الاستبصار 1 : 12 / 20 ، وسائل ا لشيعـة 1 : 138 ، كتاب ا لطهارة ، أبواب ا لماء ا لمطلق ، ا لباب3 ، ا لحديث2 . 3 ـ مجمع ا لبحرين 6 : 197 . 4 ـ تهذيب ا لأحكام 1 : 40 / 111 ، الاستبصار 1 : 9 / 9 ، وسائل ا لشيعـة 1 : 138 ، كتاب ا لطهارة ، أبواب ا لماء ا لمطلق ، ا لباب3 ، ا لحديث3 . 5 ـ راجع وسائل ا لشيعـة 1 : 137 ـ 142 ، كتاب ا لطهارة ، أبواب ا لماء ا لمطلق ، ا لباب3 .
(الصفحة 33)
ا لأوّل ، كا لنبوي ا لمتقدم(1) ، أو في ا لباب ا لتاسع ، كصحيحـة شهاب بن عبدربّـه ا لمنقولـة من كتاب «بصائر ا لدرجات» ، فراجع(2) .
حول التغيّر الموجب للنجاسة
ثمّ إنّ ا لمعتبر في ا لتغيّر ا لموجب لنجاسـة ا لماء ، أن يحصل بسبب ملاقاة ا لماء مع ا لنجس ، كما هو ا لمتبادر عند ا لعرف ، نظير ما دلّ على انفعا ل ا لماء ا لقليل ، فإنّ ا لمتفاهم منها عند ا لعرف تحقّق ا لانفعا ل بعد ا لملاقاة مع ا لنجس ، وحينئذ فمجرّد تغيّر ا لماء بمجاورة ا لميتـة ـ مثلاً ـ لايوجب انفعالاً ، وهل يعتبر أن يكون ا لتأثير مستنداً إ لى خصوص ما وقع من ا لنجس في ا لماء ، أو أنّ ا لملاقاة معتبرة في ا لجملـة ; حتّى لو كان بعض ا لتأثير مستنداً إ لى ا لجزء ا لخارج من ا لماء يتحقّق ا لانفعا ل ؟
ا لظاهر هو ا لثاني ; لأ نّـه بعد فرض أنّ احتما ل كون ا لتأثير مسبّباً عن ا لمجموع ، احتمالٌ عقلائي متحقّق في ا لخارج غا لباً ، لو كان ا لحكم مختصّاً بغير هذه ا لصورة لزم ا لاستفصا ل من ا لإمام (عليه السلام) ، فتركـه دليل على ا لعموم .
نعم لو علم كون ا لتغيّر مستنداً إ لى خصوص ا لجزء ا لخارج ; بحيث لم يترتّب على ا لملاقاة شيء مـن ا لتأثير أصلاً ، فا للازم ا لحكم بعـدم ا لانفعا ل . لكن هـذا ا لفرض بعيـد للغايـة ، ولـذا لايكون تـرك ا لاستفصـا ل دليلاً على شمول ا لحكم لهذه ا لصورة أيضاً .
1 ـ تقدّم في ا لصفحـة 19 . 2 ـ بصائر ا لدرجات : 238 / 13 ، وسائل ا لشيعـة 1 : 161 ، كتاب ا لطهارة ، أبواب ا لماء ا لمطلق ، ا لباب9 ، ا لحديث11 .
(الصفحة 34)
وبا لجملـة : فا لظاهر اعتبار ا لملاقاة في ا لجملـة ; ولو لم يكن ا لجزء ا لداخل علّـة تامّـة للتغيّر ، بل كان مستنداً إ لى ا لمجموع .
ثمّ إنّ ا لتغيّر قد يحصل بوقوع عين ا لنجاسـة في ا لماء ، وقد يتحقّق بوقوع أثر ا لنجاسـة في ضمن ا لمتنجّس . وهذا على قسمين :
قسم يكون مع ا لمتنجّس شيء من أجزاء ا لنجس ، كما إذا تغيّر لون ماء قليل بدم ، ثمّ اُلقي هذا ا لماء على ا لماء ا لجاري ، وتغيّر بسببـه .
وقسم لايكون كذلك كما إذا اختلط ا لماء ا لمتغيّر ريحـه بسبب ا لملاقاة للميتـة ـ مثلاً ـ مع ا لماء ا لجاري ، وتغيّر بسببـه .
وقد يحصل بوقوع أثر ا لنجاسـة ولو في ضمن غير ا لمتنجّس ، كما لو أخذ شيءٌ ريحَ ا لجيفـة ـ مثلاً ـ بسبب ا لمجاورة أو ا لملاصقـة ، ثمّ وقع ذلك ا لشيء في ا لماء ، وتغيّر بسبب وقوعـه فيـه . فهنا أربع صور :
ولا إشكا ل في ثبوت ا لحكم في ا لصورة ا لاُولى .
كما أ نّـه لاينبغي ا لإشكا ل في ثبوتـه في ا لصورة ا لثانيـة ; لأنّ ا لمفروض أنّ ا لتغيّر مستندٌ إ لى بعض أجزاء ا لنجاسـة . وبعبارة اُخرى : قد تغيّر ا لماء بسبب ا لملاقاة مع ا لنجس .
وأ مّا ا لصورتان ا لباقيتان ، فثبوت ا لحكم فيهما محلّ إشكا ل ; لأنّ مفاد ا لأخبار أنّ ا لحكم ثابت فيما لو استند ا لتأثير إ لى شيء من ا لأعيان ا لنجسـة ; لأ نّها هي ا لصا لحـة لتنجيس شيء آخر ، وفي هاتين ا لصورتين لايكون كذلك :
أ مّا في ا لصورة ا لأخيرة فواضح . وأ مّا في ا لصورة ا لاُخرى فلأنّ ا لمفروض عدم كون شيء من أجزاء ا لنجس مع ا لمتنجّس ، بل ا لتغيّر مستند إ ليـه فقط .
ثمّ إنّـه يعتبر ـ مع ذلك ـ أن يكون ا لأثر لنفس ا لنجاسـة ا لواقعـة في ا لماء ، فلو كان ا لنجس ا لملاقي واسطـة في انتقا ل أثر ا لنجس ا لآخر إ لى ا لماء ، لم يكفِ
(الصفحة 35)
في ا لحكم ا لمذكور ، كما إذا اختلط ا لمُسْكر ا لآخذ لريح ا لجيفـة ـ بسبب ا لملاقاة أو ا لمجاورة ـ مع ا لماء ا لجاري ; بحيث تغيّر ريحـه بسببـه ، وغلب ريح ا لجيفـة على ريحـه ، فإنّ ا لظاهر عدم تحقّق ا لانفعا ل بمجرّد ذلك ; لأنّ ا لمتبادر من ا لأخبار انتقا ل أثر ا لشيء ا لنجس ا لملاقي إ لى ا لماء ; بحيث كان ا لأثر أثراً لـه لنفسـه لا عارضاً لـه من شيء آخر ، كما يظهر بعد ا لرجوع إ لى ا لعرف .
ثمّ إنّ مقتضى إطلاق ا لأخبار ، ا لحكم بنجاسـة ا لماء ا لمتغيّر بسبب ا لملاقاة للنجس ; ولو كان ا لتغيّر بأحد ا لأوصاف ا لتي لاتكون وصفاً للنجس ، كما إذا وقع ا لـدم فـي ا لماء ا لجاري فتغيّر لونـه ، وصار أصفر مع كون ا لدم ا لواقع أحمر ، فإنّ ا لظاهـر ا لانفعا ل وا لتأثّر ; لأنّ ا لملاك تغيّر ا لماء بملاقاتـه للنجس ، وتأثيـره فيـه بما يكـون أثراً لـه ، لا لنجس آخـر ; مـن دون فرق بين أن يكون ا لعارض أحـد أوصاف ا لنجس ا لملاقي ، أو وصف شيء آخر لايكون نجساً أصلاً ، فضـلاً عمّا إذا كان كذلك .
المعتبر في الوصف المتغيّر بالنجاسة
ثمّإنّـه هل يكفي في ا لحكم ا لمذكور ، مجرّد تغيّر ا لماء عن وصفـه ا لثابت لـه فعلاً ولو كان وصفاً عرضيّاً لـه ; بحيث لو تغيّر بسبب ا لملاقاة للنجس عن وصفـه ا لعرضي ، وصار متّصفاً با لوصف ا لثابت لطبيعـة ا لماء ، كما إذا تغيّر ا لماء ا لأحمر بسبب وقوع ا لمسكر ا لصافي أو ا لبول ا لصافي فيـه ، وصار صافياً كسائر ا لمياه ا لباقيـة على ا لوصف ا لطبيعي ، يكون مشمولاً لتلك ا لأدلّـة ومحكوماً با لتأثّر وا لانفعا ل ، أو أ نّـه يعتبر في ا لحكم ا لمذكور ، تغيّر ا لماء عن ا لوصف ا لذاتي ا لثابت لطبيعـة ا لماء ، فلو تبدّل وصفـه ا لعرضي إ لى ا لوصف ا لذاتي بسبب ا لملاقاة للنجس ، كما في ا لمثا ل ا لمذكور ، أو إ لى وصف عرضيّ آخر ، كما إذا تغيّر في
(الصفحة 36)
ا لمثا ل إ لى ا للون ا لأخضر فرضاً ، لم يترتّب عليـه ا لحكم با لنجاسـة ؟ وجهان ، بل قولان .
وا لمستند للقول ا لثاني : ا لنبويّ ا لمتقدّم : «خلق الله ا لماء طهوراً لاينجّسـه شيء إلاّ ما غيّر لونـه أو طعمـه أو ريحـه»(1) . فإنّـه يدلّ على أنّ طبيعـة ا لماء مجرّدة عن كافّـة ا لقيود ، طاهرة لاينجّسها شيء من ا لنجاسات ، لا أن يكون ا لتجرّد مأخوذاً في ا لموضوع ، بل حيث إنّـه جعل موضوع ا لحكم نفس ا لطبيعـة بلا أخذ قيد فيـه ـ مع كون ا لمتكلّم فاعلاً مختاراً ـ يُستفاد منـه أنّ ا لموضوع نفس ا لطبيعـة ، وحينئذ فتدلّ ا لروايـة على طهارتها إ لى أن يتغيّر ا للون أو ا لطعم أو ا لريح ، ا لثابت لتلك ا لطبيعـة ; بسبب ا لملاقاة مع ا لنجاسـة .
وبا لجملـة : فا لضمير في قولـه : «إلاّ ما غيّر لونـه أو طعمـه أو ريحـه» يرجع إ لى ما جعل موضوعاً للطهارة ، وهي نفس طبيعـة ا لماء ، فتدلّ ا لروايـة على أنّ ا لماء لو تغيّر بعض صفاتـه ا لثابتـة لطبيعتـه بسبب ا لملاقاة يترتّب عليـه ا لحكم با لنجاسـة .
فا لمناط :خروج ا لماء عن أحد أوصافـه ا لأصليّـة ا لثابتـة لطبيعتـه وصيرورتـه معروضاً لبعض ا لعوارض ا لخارجيّـة .
ومستند ا لقول ا لأوّل : إطلاق ما يستفاد من بعض ا لروايات ، فإنّ ظاهره أنّ ا لمناط تغيّر ا لماء عن ا لحا لـة ا لتي كان عليها قبل ا لملاقاة بسببها ; ولو رجع إ لى ا لحا لـة ا لثابتـة لنفس طبيعـة ا لماء ، فإنّ روايـة أبي بصير ا لمتقدّمـة(2) ، ا لتي سئل فيها عن ا لماء ا لنقيع تبول فيـه ا لدوابّ ، ربما يستفاد منـه ذلك ، فإنّ ا لظاهر أنّ ا لمياه ا لواقعـة في أطراف ا لمدينـة ، كانت خارجـة عن أوصافها ا لأصليّـة غا لباً ،
1 ـ تقدّم في ا لصفحـة 19 . 2 ـ تقدّم في ا لصفحـة 32 .
(الصفحة 37)
لاسيّما مع ملاحظـة ا لحرارة ا لشديدة وكثرة ا لاحتياج إ ليها ، وحينئذ فلو كان ا لتغيّر إ لى تلك ا لأوصاف غير قادح ، لزم أن يفصّل ا لإمام (عليه السلام) بينـه وبين ا لتغيّر إ لى وصف آخر ، فتركُ ا لاستفصا ل وا لتفصيل دليل على ا لعموم .
ويرد على ا لقول ا لثاني : أ نّـه لو تغيّر ا لماء عن ا لوصف ا لعرضي ا لثابت لـه فعلاً إ لى وصف عرضيّ آخر ، كما إذا تغيّر ا لماء ا لأحمر بسبب ا لملاقاة للنجاسـة وصار أصفر ـ مثلاً ـ يلزم على هذا ا لقول عدم كون هذا ا لتغيّر مؤثّراً في ا لنجاسـة ، كما وقع ا لتصريح بـه ، مع أنّ ا لالتزام بهذا مشكل جدّاً ، بل ربما يكون مخا لفاً للإجماع ، ومع ذلك فالأظهر هو هذا ا لقول .
حول كلام الشيخ بأنّ المناط تغيّر الماء بأثر النجاسة
ثمّإنّ من ا لعجيب ما وقع من ا لشيخ ا لأعظم ـ في هذا ا لمقام من «كتاب ا لطهارة» ـ حيث إنّـه استدلّ لعدم اختصاص ا لحكم بما إذا تغيّر ا لماء بسبب ملاقاة عين ا لنجاسـة ، وشمولـه لما إذا تغيّر بسبب ا لملاقاة للمتنجّس ا لمتغيّر بعين ا لنجاسـة ، كما إذا اختلط ا لماء ا لمتلوّن با لدم ـ مثلاً ـ مع ا لماء ا لجاري : بأنّ ا لمناط تغيّر ا لماء بأثر ا لنجاسـة ، لاتغيير عين ا لنجاسـة للماء ،واستشهد لذلك بصحيحـة ابن بزيع ، ونقلها هكذا «لايفسده شيء إلاّ أن يتغيّر ريحـه أو طعمـه»(1) .
ثمّ احترز بعين ا لنجاسـة عن أثر ا لمتنجّس ، واستدلّ لـه بظهور ا لأدلّـة في ا لاختصاص با لنجس ، ثمّ استشهد لذلك بصحيحـة ابن بزيع ، ونقلها هكذا :
1 ـ ا لاستبصار 1 : 33 / 87 ، وسائل ا لشيعـة 1 : 141 ، كتاب ا لطهارة ، أبواب ا لماء ا لمطلق ، ا لباب3 ، ا لحديث11 .
(الصفحة 38)
«لايُفسده شيء إلاّ ما غيّر لونـه أو طعمـه» ، ولم يقتصر على مجرّد ا لنقل كذلك ، بل صرّح : بأنّ فيها قرينـة على إرادة نجس ا لعين من ا لموصول(1) .
ولايخفى أنّ ا لمنقول في ا لجوامع وا لمذكور في كتب ا لحديث ، إنّما هو على ا لنحو ا لأوّل ، وليس من ا لموصول فيها عين ولا أثر ، فا للازم ا لحمل على ا لخطاء في ا لحفظ ، كما يدلّ عليـه نقلـه أوّلاً بدون ا لموصول ، ومثْل ذلك يُنبئ عن أ نّـه لاينبغي ا لاتّكا ل على ا لقوّة ا لحافظـة في مقام نقل ا لروايات ، خصوصاً فيما يتعلّق منها بالأحكام ا لشرعيّـة ا لإلهيّـة وا لقوانين ا لعامّـة ا لعمليّـة .
حول عدم كفاية التغيّر التقديري
ثمّإنّ ا لمعتبر في انفعا ل ا لماء ا لجاري با لتغيّر ، أن يكون ا لتغيّر حسّيّاً فعليّاً ; بمعنى حصول ا لتغيّر با لفعل على نحو يكون محسوساً ، فلا يكفي ا لتغيّر ا لتقديري ـ كما عن ا لمشهور(2) ـ لأنّ ا لحكم مترتّب ـ في ظواهر ا لأدلّـة ـ على ا لماء ا لمتغيّر ، فترتّبـه موقوف على تحقّقـه ; من دون فرق بين أن يكون ا لمانع عن حصول ا لتغيّر ، اتّحادهما في ا لأوصاف ذاتاً بمقتضى طبيعتهما ا لنوعيّـة ، كا لماء مع ا لبول ، أو يكون ا لمانع حصول وصف عرضي للماء ، كا لماء ا لأحمر ا لملاقي للدم ، أو زوال وصف ا لنجاسـة ، كما لو زال ريح ا لبول بهبوب ا لرياح مثلاً ، أو نقص وصفها ، وغير ذلك من ا لفروض .
وبا لجملـة : فا لمدار هو حصول ا لتغيّر بنظر ا لعرف ، لا ا لأعمّ منـه ومن ا لتغيّر ا لتقديري .
1 ـ ا لطهارة ، ضمن تراث ا لشيخ ا لأعظم 1 : 80 ـ 82 . 2 ـ ا لحدائق ا لناضرة 1 : 181 ، جواهر ا لكلام 1 : 77 .
(الصفحة 39)
توجيه القول بكفاية التغيّر التقديري
وربما يوجّـه ا لقول با لتعميم : بأنّ ا لمؤثّر في ا لانفعا ل ، إنّما هو اختلاط ا لماء مع مقدار معيّن من ا لنجاسـة ، وا لتغيّر كاشف عنـه وأمارة عليـه ، لا أ نّـه موضوع ومؤثّر ، فإذا اُحرز وجود ذلك ا لمقدار بأمارة اُخرى يترتّب عليـه ا لحكم با لنجاسـة(1) .
وفيـه : ـ مضافاً إ لى منافاة هذا ا لوجـه لما يستفاد من ظواهر ا لأدلّـة ، فإنّ ظاهرها أنّ ا لموضوع وا لمؤثّر في ا لانفعا ل إنّما هو ا لتغيّر لا غير ، وجعلـه كاشفاً وأمارة على ا لموضوع يحتاج إ لى مؤونـة زائدة ، ولم يدلّ عليـه ا لدليل أصلاً ـ أنّ من ا لمعلوم أنّ ما يوجب استقذار ا لعرف إنّما هو حصول ا لتغيّر في ا لماء ، كما نشاهده با لوجدان ، وإلاّ فا للازم ا لالتزام بتساوي ا لماء ا لمتغيّر مع ا لماء غير ا لمتغيّر ا لصا لح لـه ـ لولا ا لمانع ـ من حيث ا لاستقذار وا لتنفّر ، وهو معلوم ا لخلاف ، فإذا ثبت ا لفرق بينهما في نظر ا لعرف ، تحتمل مدخليّـة هذه ا لمرتبـة من ا لاستقذار في ثبوت ا لانفعا ل ، ومعـه لايمكن رفع ا ليد عن ا لظواهر بدون وجود دليل قطعيّ أو أقوى على خلافـه .
وربما يستبعد ما ذكرنا : من أنّ ا لمدار هو ا لتغيّر ا لحسّي ، ويقا ل في وجهـه : إنّـه لو فرض حوضان من ا لماء متساويان : أحدهما ماؤه صاف لطيف ، وا لآخر كدر كثيف ، فلو فرض وقوع ثُلث ميتـة في ا لأوّل ; بحيث صار موجباً لتغيّره لكما ل صفاتـه ، ووقوع ميتـة كاملـة في ا لثاني ، ولم يتغيّر بسببـه لكثافتـه ، فهل يمكن ا لالتزام بانفعا ل ا لماء ا لأوّل وعدم انفعا ل ا لثاني ؟ ! وهل هو إلاّ ا لقول بمدخليّـة
1 ـ ا لحدائق ا لناضرة 1 : 182 ، اُنظر مصباح ا لفقيـه ، ا لطهارة 1 : 52 .
(الصفحة 40)
ا لكثافـة في ا لاعتصام ؟ ! ومن ا لواضح منافاتـه لما هو ا لمعهود من مذاق ا لشرع(1) .
وفيـه : ـ مضافاً إ لى أ نّـه مجرّد استبعاد ، ولايجوز رفع ا ليد عن ظواهر ا لأدلّـة بسببـه ـ أنّ ا لتفصيل بين ا لماءين ، وا لحكم بوجود ا لفرق في ا لبين ، موافق للاعتبار أيضاً ، فإنّ ا لاستقذار ا لحاصل با لنسبـة إ لى ا لماء ا لأوّل ، أشدّ من الاستقذار ا لمتحقّق بالإضافـة إ لى ا لثاني ، وحينئذ يحتمل مدخليـة تلك ا لمرتبـة ا لشديدة في ا لحكم با لنجاسـة ، فلايجوز رفع ا ليد عن ا لظواهر مع هذا ا لاحتما ل إلاّ بدليل أقوى ، وا لمفروض انتفاؤه .
وربما يقال : إنّ ا لمعتبر في ا لانفعا ل هو ا لتغيّر ا لواقعي ا لنفس ا لأمري ولو كان مستوراً عن ا لحِسّ(2) .
وفيـه :أ نّـه إن كان ا لمراد ا لتغيّر بحيث يكون يعرفـه ا لعرف ، فهو راجع إ لى ما ذكرنا ، وإن كان ا لمراد ا لتغيّر ا لواقعي ولو لم يعدّ تغيّراً في نظر ا لعرف ، فا للازم ا لحكم بنجاسـة ا لبحر لو وقع فيـه قطرة دم ; إذ لايُعقل انفكاك ا لتأثير عن هذه ا لقطرة بحسب ا لواقع ، غايـة ا لأمر أنّ ا لعرف لايراه متغيّراً .
وبا لجملـة:ا لظاهر أ نّـه لا إشكا ل في أنّ ا لمدار هو ا لتغيّر ا لفعلي ; أي ا لذي يعدّ بنظر ا لعرف تغيّراً ، وا لأدلّـة ا لتي استُدلّ بها على عدم الاختصاص ، راجع أكثرها إ لى مجرّد ا لاستبعاد ، كما عرفت بعضها(3) ، ومن ا لمعلوم أ نّـه لايجوز رفع ا ليد عن ا لظواهر بمجرّد ذلك .
1 ـ ا لبيان : 44 ، مدارك ا لأحكام 1 : 30 . 2 ـ ا لحدائق ا لناضرة 1 : 181 . 3 ـ تقدّم تخريجـه في ا لصفحـة 39 .
|