صفحه 234 إلى النور من جميع الجهات . ومن المعلوم أنّ العمدة في تحصيل هذا الغرض المهمّ هي ما يرجع إلى الاُصول الاعتقاديّة ، ومسائل التوحيد والنبوّة والإمامة وأشباهها ، وحينئذ فكيف يسوغ القول بأنّ الغرض من الأمر بالتمسّك به هو التمسّك بخصوص آيات الأحكام العمليّة منها ؟ إذ ليس هو كتاباً فقهيّاً فقط . وعليه: فالتمسّك المأمور به هو التمسّك به من جميع الجهات التي لها مدخليّة في السير إلى الكمال ، وحصول الخروج من الظلمات إلى النور ، وتحقّق الهداية ، ومحو الضلالة والجهالة ، فالاستدلال بالحديث على عدم وقوع التحريف في شيء من آياته تامّ لا شبهة فيه ولا ارتياب ، كما لا يخفى على اُولي الألباب . الوجه الثاني : أنّ الظاهر من الحديث أ نّ كلاًّ من الثقلين حجّة مستقلّة ، ودليل تامّ في عرض الآخر وفي رتبته ; بمعنى عدم توقّف حجّية كلّ منهما على الآخر ، وعدم الافتقار إلى تصويبه وإمضائه ، لا بمعنى كون كلّ واحد منهما كافياً في الوصول إلى الكمال الممكن ، والخروج من الضلالة ، وارتفاع خوف الجهالة ; فإنّ هذا الأثر قد رتّب في الحديث على الأخذ بمجموع الثقلين ، والتمسّك بكلا الميراثين ، بل بمعنى كون الأثر وإن كان كذلك إلاّ أ نّه لا ينافي الاستقلال ، وتماميّة كلّ منهما في الحجّية والدليليّة . والغرض أ نّ الحجّة ليست هي المجموع ، بل كلّ واحد منهما من دون توقّف على الآخر ، ومن دون منافاة ومضادّة لترتّب الأثر ، والغرض على الأخذ بالمجموع والتمسّك به ، وهذا كما أنّ كلّ واحد من الأدلّة الأربعة المعروفة ـ الكتاب والسنّة والعقل والإجماع ـ دليل وحجّة مستقلّة في الفقه ، مع أنّ الاستنباط ، واستكشاف الحكم يتوقّف على لحاظ المجموع ورعاية الكلّ . وبالجملة : الحديث ظاهر في كون كلّ واحد من الثقلين دليلاً وحجّة مستقلّة ، وحينئذ نقول : بناءً على عدم التحريف ، وعدم كون القرآن الموجود فاقداً صفحه 235 لبعض مانزل على النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، وخالياً عن بعض الآيات والجملات ، يكون هذا الوصف ـ وهي الحجّية المستقلّة ـ ثابتاً للقرآن ، ولا يتوقّف على إمضاء الأ ئـمّة (عليهم السلام) وتصويبهم للاستدلال به . وأ مّا بناءً على التحريف وثبوت النقيصة ، فإن كان الرجوع إليه متوقّفاً على إمضائهم (عليهم السلام) ، فهذا ينافي الحجّية المستقلّة التي يدلّ عليها الحديث ، كما هو المفروض . وإن لم يكن كذلك ; بأن يدّعي القائل جواز التمسّك به من دون المراجعة إليهم ، والتوقّف على إمضائهم ، فواضح أنّ الرجوع غير جائز . توضيحه : أ نّه ربما يقال : إنّ الوجه في عدم جواز الرجوع إلى ظواهر الكتاب ـ مع العلم الإجمالي بوقوع التحريف فيه ـ هو العلم الإجمالي بوقوع الخلل في الظواهر ، ومع هذا العلم يسقط كلّ ظاهر عن الحجّية ، كما هو شأن العلم الإجمالي في سائر الموارد . ولكنّه أجاب عن هذا القول المحقّق الخراساني(قدس سره) في «الكفاية» بما هذه عبارته : إنّه ـ يعني العلم الإجمالي بوقوع التحريف ـ لا يمنع عن حجّية ظواهره ; لعدم العلم بوقوع الخلل فيها بذلك أصلاً ، ولو سلّم فلا علم بوقوعه في آيات الأحكام ، والعلم بوقوعه فيها أو في غيرها من الآيات غير ضائر بحجّية آياتها ; لعدم حجّية سائر الآيات ، والعلم الإجمالي بوقوع الخلل في الظواهر إنّما يمنع عن حجّيتها إذا كانت كلّها حجّة ، وإلاّ لا يكاد ينفكّ ظاهر عن ذلك ، كما لا يخفى ، فافهم . نعم ، لو كان الخلل المحتمل فيه أو في غيره بما اتّصل به لأخلّ بحجّيته ; لعدم انعقاد ظهور له حينئذ ، وإن انعقد له الظهور لولا اتّصاله (1) . وهذا الجواب: وإن لم يكن خالياً عن المناقشة ; لعدم انحصار الحجّية بخصوص (1) كفاية الاُصول: 284 ـ 285 حجّية ظواهر الكتاب . صفحه 236 آيات الأحكام ; لأنّ معنى حجّية الكتاب المشتمل على جهات عديدة ومزايا متكثّرة لا ترجع إلى خصوص المنجّزيّة والمعذّريّة في باب التكاليف ، حتّى تختصّ الحجّية بالآيات المشتملة على بيان الأحكام الفرعيّة والقوانين العمليّة ، إلاّ أ نّه يجدي في دفع القول المذكور ، وإثبات أ نّ الوجه في عدم جواز الرجوع إلى ظواهر الكتاب ـ مع العلم الإجمالي بوقوع التحريف ـ ليس هو العلم الإجمالي المذكور . والتحقيق : أ نّ الوجه في ذلك ـ بناءً على التحريف ـ أ نّه مع وصف التحريف يحتمل في كلّ ظاهر وجود قرينة دالّة على الخلاف ، ولا مجال لإجراء أصالة عدم القرينة ; لأنّها من الاُصول العقلائيّة التي استقرّ بناء العقلاء على العمل بها ، والشارع قد اتّبعها في محاوراته ولم يتخطَّ عنها ، والقدر المتيقّن من الرجوع إليها عند العقلاء هو ما إذا كان احتمال القرينة في الكلام ناشئاً عن احتمال غفلة المتكلِّم عن الإتيان بها ، والسامع عن التوجّه والالتفات إليها . وأمّا إذا كان الاحتمال ناشئاً عن سبب آخر ـ كالتحريف ونحوه ـ فلم يعلم استقرار بنائهم على العمل بأصالة عدم القرينة ، لو لم نقل بالعلم بعدم الاستقرار ، نظراً إلى ملاحظة موارده . مثال ذلك ـ على ما ذكره بعض الأعلام ـ أ نّه إذا ورد على إنسان مكتوب من أبيه أو صديقه أو شبههما ، ممّن تجب أو تنبغي إطاعته ، وقد تلف بعض ذلك المكتوب ، وكان البعض الموجود مشتملاً على الأمر بشراء دار للكاتب ، وهو يحتمل أن يكون في البعض التالف بيان لخصوصيات الدار التي أمر بشرائها ، من الجهات الراجعة إلى السعة والضيق ، والمحلّ والقيمة والجار وسائر الخصوصيات ، فهل يتمسّك بإطلاق البعض الموجود ، ويرى نفسه مختاراً في شراء أيّة دار اعتماداً على أصالة عدم القرينة على التقييد ، أو أ نّ العقلاء لا يسوغون له هذا الاعتماد ، ولايعدّونه ممتثلاً إذا اشترى داراً على خلاف تلك الخصوصيات ، على فرض صفحه 237 ثبوتها وذكرها في المكتوب ، واشتمال البعض التالف عليها؟! من الواضح عدم جواز التمسّك بالإطلاق ، وليس ذلك إلاّ لعدم الإطلاق في مورد الأخذ بأصالة عدم القرينة (1) . وبالجملة : الوجه في عدم جواز الرجوع إلى الظواهر ـ مع احتمال اقترانها بما يكون قرينة على إرادة خلافها ـ عدم جواز الاعتماد على أصالة عدم القرينة الجارية في غير ما يشابه المقام ، فلا محيص عن القول بتوقّف جواز الرجوع على إمضاء الأ ئـمّة (عليهم السلام) وتصويبهم . وهذا ما ذكرناه من منافاته لما يدلّ عليه الحديث الشريف من ثبوت الحجّية المستقلّة للقرآن ، وعدم تفرّعها على الثقل الآخر ، بل هو الثقل الأكبر ، فكيف يكون متفرّعاً على الثقل الأصغر ؟! فتدبّر . الدليل الخامس : من الاُمور الدالّة على عدم التحريف ، الروايات المستفيضة بل المتواترة الواردة عن النبيّ والعترة الطاهرة صلوات الله عليه وعليهم أجمعين ، الدالّة على عرض الروايات والأخبار المرويّة عنهم (عليه السلام) على الكتاب ، والأخذ بما وافق منها له وطرح ما خالفه ، وضربه على الجدار(2) ، وأ نّه زخرف ، وأ نّه ممّا لم يصدر منهم ، ونحو ذلك من التعبيرات (3)، وكذا الروايات الدالّة على (1) البيان في تفسير القرآن: 213 . (2) هذا التعبير وإن كان معروفاً ، سيّما في بحث التعادل والترجيح من علم الاُصول ، إلاّ أ نّي لم أظفر به بعد التتبّع في الروايات الواردة في هذا الباب ، التي جمعها صاحب الوسائل (قدس سره) في الباب التاسع من كتاب القضاء ، فلعلّ المتتبّع في غيره يظفر به . نعم ، قال في التبيان: 1 / 5 مقدّمة المؤلّف: وروي عنه (عليه السلام) أنّه قال: «إذا جاءكم عنّي حديث فأعرضوه على كتاب الله ، فما وافق كتاب الله فاقبلوه ، وما خالفه فاضربوا به عرض الحائط» ، ثمّ قال الشيخ (قدس سره): وروي مثل ذلك عن أئمّتنا (عليه السلام) . (3) وسائل الشيعة 27 : 110 ـ 123 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ب 9 ح 10 ـ 12 ، 14 ، 15 ، 29 ، 35 ، 37 ، 47 وغيرها ، ويراجع ص173 و 325 و 332. صفحه 238 استدلالهم (عليهم السلام) بالكتاب في موارد متعدّدة ، وقد تقدّم(1) شطر منها في مقام الاستدلال على حجّية ظواهر الكتاب . وتقريب الاستدلال بها على عدم التحريف يظهر بعد بيان أمرين : الأوّل : لا شبهة ـ كما عرفت(2) ـ في أنّ القول بالتحريف يلازم عدم حجّية الكتاب بالحجّية المستقلّة غير المتوقّفة على تصويب الأ ئـمّة (عليهم السلام) وإمضائهم ; لما عرفت(3) من عدم جريان أصالة عدم القرينة المحتملة في كلّ ظاهر إلاّ في موارد احتمال غفلة المتكلِّم أو السامع ; لأنّه القدر المتيقّن من موارد جريانها ، لو لم نقل بالعلم بعدم جريانها في مثل المقام ، كما في المثال المتقدّم . الثاني : أ نّه لا خلاف بين القائل بالتحريف والقائل بعدمه في أنّ القرآن الموجود في هذه الأعصار المتأخِّرة هو الموجود في عصر الأ ئـمّة (عليهم السلام) ، وأ نّ التحريف ـ على فرض ثبوته ـ كان قبل عصرهم في زمن الخلفاء الثلاثة ، ولم يتحقّق منذ شروع الخلافة الظاهريّة لأمير المؤمنين ـ عليه أفضل صلوات المصلّين ـ والأ ئـمّة الطاهرين من ولده (عليهم السلام) ، وإن حكي عن بعضهم تحقّق التحريف بعده ، كما سيأتي(4) مع جوابه . وحينئذ نقول : أمّا ما ورد عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) ممّا يدلّ على عرض أخباره على الكتاب، والأخذ بالموافق وطرح المخالف ، فالكتاب وإن لم يقع فيه تحريف في زمنه ، ولم يبدّل في عصره وحياته ، وإن كان ورد في شأن نزول قوله تعالى : (1) في ص174 ـ 177 . (2) في ص234 ـ 235 . (3) في ص236 ـ 237 . (4) في ص251 ـ 252 . صفحه 239 (وَمَنْ أَظْـلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِىَ إِلَىَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَىْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ) (1) . رواية مرويّة في الكافي بإسناده عن أبي بصير ، عن أحدهما (عليهما السلام) قال : سألته عن قول ـ الله عزّوجلّ ـ : ( وَمَنْ أَظْـلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِىَ إِلَىَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَىْءٌ) . قال : نزلت في ابن أبي سرح الذي كان عثمان استعمله على مصر ، وهو ممّن كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) هدر دمه يوم فتح مكّة، وكان يكتب لرسول الله (صلى الله عليه وآله) ، فإذا أنزل الله ـ عزّوجلّ ـ : ( إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (2) كتب : «إنّ الله عليم حكيم» ، فيقول له رسول الله (صلى الله عليه وآله) : دعها فإنّ الله عليم حكيم . وكان ابن أبي سرح يقول للمنافقين : إنّي لأقول من نفسي مثل ما يجيء به فما يغيّر عليّ ، فأنزل الله ـ تبارك وتعالىـ فيه الذي أُنزل(3) . إلاّ أنّها لا تدلّ على وقوع التحريف ، وشيوع الكتاب المحرّف بين المسلمين ; فإنّ هذا الرجل كان واحداً من الكتّاب المتعدّدين المتكثّرين ، مع أنّ مناسبة الآية مع هذه القصّة غير واضحة ، كما أنّ صدق القصّة بنفسها كذلك . وكيف كان ، فدلالة ما ورد منها عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) إنّما هي لأجل وضوح عدم كون العرض على الكتاب المأمور به في هذه الأخبار مقصوراً على خصوص زمان حياته (صلى الله عليه وآله) ، وليس المراد أ نّه يكون هذا الحكم موقّتاً ومحدوداً بوقت مخصوص وحدّ (1) سورة الأنعام 6 : 92 . (2) سورة البقرة 2: 220، وسورة الأنفال 8: 10، وسورة التوبة 9: 71، وسورة لقمان 31: 27 . (3) الكافي: 8 / 201 ح242 ، تفسير العيّاشي: 1 / 369 ح60 ، وعنهما تفسير الصافي: 2 / 139، والبرهان في تفسير القرآن: 2 / 452 و 453 ح3569 و 3571، وبحار الأنوار: 92 / 37 ـ 38 ح3 و4 . وفي شرح اُصول الكافي والروضة للمولى محمد صالح المازندراني: 12 / 252 ح242 وتفسير نور الثقلين: 1 / 745 ح179 عن الكافي . صفحه 240 معيّن ، بل ظاهره دوام هذا الحكم بدوام الدين ، واستمراره باستمرار شريعة سيِّد المرسلين صلوات الله عليه وعلى أولاده الطاهرين . وحينئذ فلا يبقى مجال لما ذكره المحدِّث المعاصر من عدم منافاة ما ورد عنه (صلى الله عليه وآله) ثبوت التغيير بعده ، وورود الرواية به ، نظراً إلى عدم حصول التغيير في عصره (1) . وقد عرفت أنّ الحكم دائميّ غير محدود ، فيجري في هذه الأخبار ما يجري في الأخبار الواردة عن العترة الطاهرة (عليهم السلام) ، الدالّة على عرض أخبارهم على الكتاب ، وتشخيص الحقّ عن الباطل بسببه . وأمّا ما ورد عنهم (عليهم السلام) في ذلك ، فدلالته على عدم وقوع التحريف والتبديل في الكتاب ، وكونه حجّة مستقلّة مبتنية على ملاحظة أ نّ الغرض من هذه الأخبار هو بيان الميزان الذي به يتحقّق تمييز الحقّ عن الباطل من الروايات الصادرة المنقولة عنهم (عليهم السلام) ، وأ نّ الملاك والمناط في ذلك هو موافقة الكتاب ، وعدم مخالفته ، ففي الحقيقة تكون الموافقة قرينة على الصدق ، وأمارة على الصدور منهم (عليهم السلام) ، ولايتحقّق ذلك إلاّ بكون الكتاب حجّة مستقلّة غير متوقّفة على شيء ; ضرورة أنّ الكتاب الذي يحتاج إلى التصويب والإمضاء كيف يكون ميزاناً لتمييز الحقّ عن الباطل ، ممّا ورد عنهم ، ونسب إليهم (عليه السلام) ؟! . وبالجملة : غرض الأ ئـمّة (عليهم السلام) من هذه الأخبار نفي كون أقوالهم ، وما ورد عنهم (عليهم السلام) من أحكام مخالفة الكتاب الذي هو الثقل الأكبر ، والميزان الذي لا يرتاب فيه مسلم ، ولا يلائم ذلك أصلاً مع توقّف حجّيته على تصويبهم وإمضائهم ، فأخبار العرض على الكتاب من أعظم الشواهد على عدم وقوع التحريف في الكتاب ، وبقائه على الحجّية المستقلّة إلى يوم القيامة . (1) فصل الخطاب ، الباب الثاني ، الأمر الرابع : 340 . صفحه 241 وممّا ذكرنا ينقدح النظر فيما ذكره المحدّث المعاصر من أنّ ما جاء عنهم (عليهم السلام) فهو قرينة على أنّ الساقط لم يضرّ بالموجود ، وتمامه من المنزل للإعجاز ، فلا مانع من العرض عليه (1); فإنّك عرفت أ نّ العرض على الكتاب لتمييز الحقّ عن الباطل ، وتشخيص السقيم عن الصحيح ، ولا يلائم ذلك مع توقّف حجّية الكتاب على إمضائهم (عليهم السلام) أصلاً . كما أنّ دعوى اختصاص ذلك بخصوص آيات الأحكام ، فلا يعارض ما ورد في النقص فيما يتعلّق بالفضائل والمثالب ، بل صريح المحدّث البحراني (رحمه الله) في الدرر النجفيّة : «أ نّه لم يقع فيها (آيات الأحكام) شيء من ذلك ; لعدم دخول النقص عليهم (على الخلفاء) من جهتها»(2) . مدفوعة ـ مضافاً إلى عدم ثبوت ذلك في خصوص تلك الآيات ـ بأنّ الاختصاص بها لا وجه له ، بعد ملاحظة أنّ الكتاب كما مرّ(3) مراراً ليس كتاباً فقهيّاً يتعرّض لخصوص القوانين التشريعيّة ، والأحكام العمليّة ، وبعد ملاحظة عدم اختصاص تلك الأخبار الدالّة على العرض بخصوص الروايات المتعرّضة للأحكام ، كما هو واضح . فقد ظهر من جميع ما ذكرنا : تماميّة الاستدلال بأخبار العرض على الكتاب ; لعدم تحريفه وعدم وقوع النقص فيه . كما أنّ الاستدلال بالروايات الحاكية لاستشهاد الأ ئـمّة (عليهم السلام) في موارد متعدّدة بالكتاب لذلك ممّا لا تنبغي المناقشة فيه أصلاً ; ضرورة أنّه لو لم يكن الكتاب حجّة مستقلّة ، ودليلاً تامّاً غير متوقّف على (1) فصل الخطاب ، الباب الثاني ، الأمر الرابع: 340 . (2) الدرر النجفيّة ، للعلاّمة المحدّث الشيخ يوسف البحراني : 4 / 69 ، وعنه فصل الخطاب ، الباب الثاني ، الأمر الرابع: 340 . (3) في ص106 و 229 ـ 230 . صفحه 242 الإمضاء والتصويب ; لما كان وجه للاستشهاد ، وليس الاستشهاد منحصراً بالموارد التي يكون محلّ الخلاف بينهم وبين علماء العامّة . فقد عرفت سابقاً(1) بعض الموارد التي استدلّ (عليه السلام) بالكتاب في مقابل زرارة ، وإفهام بعض السائلين من الشيعة ، بل يستفاد من رواية زرارة المتقدّمة(2) الواردة في المسح ببعض الرأس : أ نّ الكتاب من طرق علم الإمام (عليه السلام) ، فكيف يكون مع ذلك متوقّفاً على إمضائه (عليه السلام) ؟ . فانقدح أ نّ المتأمِّل المنصف ، الخالي عن العناد والتعصّب ، لا يكاد يرتاب في دلالة هذه الأخبار أيضاً على خلوّ القرآن عن النقص والتحريف ، والتغيير والتبديل. الدليل السادس : من الاُمور الدالّة على عدم التحريف ، الأخبار الكثيرة الواردة في بيان أحكام أو فضائل لختم القرآن أو سوره ، قال الصدوق (رحمه الله) فيما حكي عنه : «وما روي من ثواب قراءة كلّ سورة من القرآن ، وثواب من ختم القرآن كلّه(3) ، وجواز قراءة سورتين في ركعة نافلة ، والنهي عن القِران بين سورتين في ركعة فريضة(4) ، تصديق لما قلناه في أمر القرآن ، وأ نّ مبلغه ما في أيدي الناس . وكذلك ما روي من النهي عن قراءة القرآن كلّه في ليلة واحدة ، وأ نّه لا يجوز أن يختم في أقلّ من ثلاثة أيّام(5); تصديق لما قلناه أيضاً» (6) . (1 ، 2) في ص174 ـ 177 . (3) ثواب الأعمال: 125 ـ 158 ، بحار الأنوار: 92 / 223ـ 369 . (4) وسائل الشيعة: 6 / 440 ، كتاب الصلاة ، أبواب القراءة في الصلاة ، ب4 ح2 و 3 ، وص50 ـ 53 ب8 ، وبحار الأنوار: 85 / 53 ـ 54 ح45 وملحقه، ومستدرك الوسائل: 4 / 162ـ 163 ب6 . (5) الكافي: 2 / 617ـ 619 ، باب في كم يقرأ القرآن ويختم ، وسائل الشيعة: 6 / 215ـ 218 ، كتاب الصلاة ، أبواب قراءة القرآن ب27 . (6) الاعتقادات للشيخ الصدوق ، المطبوع مع سلسلة مؤلّفات الشيخ المفيد: 5 / 84 ب 33 . صفحه 243 وأدلّ من ذلك وجوب قراءة سورة كاملة في كلّ ركعة من الصلوات المفروضة ، وجواز تقسيمها في صلاة الآيات ; فإنّه من الواضح أنّ هذا الحكم كان ثابتاً في أصل الشريعة بتشريع الصلاة ، وأ نّ الصلاة التي كان المسلمون في الصدر الأوّل يصلّونها مشتملة على حكاية سورة من القرآن زائدة على فاتحة الكتاب ، التي لا صلاة إلاّ بها ، كما في الرواية (1) . وحينئذ لا يبقى خفاء في أنّ المراد بها هي السورة الكاملة من الكتاب الواقعي الذي كان بأيدي المسلمين في زمن النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، ولم يقع فيه تحريف ولا تغيير على فرض وقوعه بعده . وحينئذ فالقائل بالتحريف يلزم عليه ـ في قبال هذا الحكم الذي موضوعه هو الكتاب الواقعي ـ الالتزام بأحد اُمور لا ينبغي الالتزام بشيء منها ، ولا يصحّ ادّعاؤه أصلاً : الأوّل : عدم جوب قراءة السورة بعد عصر النبيّ (صلى الله عليه وآله) ; لعدم التمكّن من إحرازها ، فلا وجه لوجوبها ; لأنّ الأحكام إنّما تتوجّه في خصوص صورة التمكّن ، والمفروض عدمه بعد ذلك العصر الشريف . ويردّه ـ مضافاً إلى عدم التزامه به لا قولاً ولا عملاً ; لعدم خلوّ صلاته عن قراءة السورة ، وإلى وضوح ظهور تشريعها ، وإيجابها في الدوام والاستمرار ، وعدم الاختصاص بزمن النبيّ (صلى الله عليه وآله) ولو من جهة عدم التمكّن بعده ـ ورود الروايات الكثيرة من الأ ئـمّة الطاهرين ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ الدالّة على وجوب (1) وسائل الشيعة: 6 / 37 ، كتاب الصلاة ، أبواب القراءة في الصلاة ب1 ، مستدرك الوسائل: 4/ 158 ب1 ح4367ـ 4369 . ورواه أبو عوانة في مسنده: 1 / 450 ـ 451 ب48، والدارقطني في سننه: 1 / 316ـ 319 ح1200ـ 1203 ، 1205 و 1208ـ 1213 ، حلية الأولياء: 7 / 124 . صفحه 244 السورة في كلّ صلاة فريضة إلاّ في بعض الموارد المستثناة(1) . ومن الواضح: أ نّه على هذا التقدير تلزم اللّغوية ; لأنّه بعدما كان المفروض عدم التمكّن من إحراز السورة الكاملة بوجه ، لا وجه لبيان هذا الحكم ، وصدوره منهم (عليهم السلام) في زمن كان القرآن الواقعي غير موجود عند الناس ولا تصل إليه أيديهم ، كما هو غير خفيّ . سلّمنا عدم وجوب السورة بعد ذلك العصر ، بل سلّمنا عدم وجوب السورة أصلاً في الصلوات المفروضة ، وقلنا بأنّ السورة ليست من الأجزاء الواجبة للصلاة ، لكن نقول : دلالة الأخبار المرويّة عن العترة الطاهرة على مجرّد الاستحباب(2) تكفي في إثبات عدم التحريف ; لأنّه لو فرض عدم التمكّن من إحراز السورة الكاملة في عصرهم (عليهم السلام) لا يبقى معه مجال لورود تلك الروايات الكثيرة على الاستحباب . وهل يسوغ التعرّض ـ سيّما مع كثرته ـ لحكم استحبابيّ لا يكون له موضوع أصلاً ، ولا يتمكّن الناس من إيجاده بوجه ، وهل لا يكون لغواً ؟ إن قلت : التعرّض لذلك لعلّه إنّما كان لأجل استحباب قراءة القرآن في الصلاة من دون تقيّد بكونها سورة كاملة . قلت : مع هذا الاحتمال لا وجه لذكر عنوان «السورة الكاملة» ، بل و«السورة» أصلاً ، فالظاهر أ نّه حكم استحبابيّ خاصّ لا يرتبط بالحكم العامّ ، وهو استحباب قراءة القرآن في الصلاة ، لو كان قراءته فيها مستحبّاً خاصّاً ، غير مرتبط بأصل (1) وسائل الشيعة: 6 / 40ـ 41 ، كتاب الصلاة ، أبواب القراءة في الصلاة ب2 ح2 ، 4 و 6، وص43 ب4 ح1و2 وص130 ب55 ح1 ، وج8 : 388 ، كتاب الصلاة ، أبواب صلاة الجماعة ب47 ح4 . (2) وسائل الشيعة: 6 / 78 ـ 80 ، كتاب الصلاة ، أبواب القراءة في الصلاة ب23 و 24، وص112ـ 154 ب45و47ـ 50 و 53 ـ 56 و 61ـ 66 و 70 . صفحه 245 استحباب قراءة القرآن مطلقاً في الصلاة وغيرها . فانقدح أنّ دلالة تلك الروايات الواردة في السورة ، ولو على استحبابها ، وكونها من الأجزاء غير الواجبة للصلاة تصدق القول بعدم التحريف ، وتؤيّد بقاء الكتاب على واقعه الذي نزل عليه ، مشروطاً ببقاء البصيرة الكاملة ، والخلوّ عن التعصّب غير الصحيح . الثاني : الاقتصار على خصوص سورة لا يحتمل فيها التحريف ; نظراً إلى عدم جريان هذا الاحتمال في جميع السور ، بل هناك بعض السور لا يجري فيه هذا الاحتمال ، كسورة التوحيد ، وعليه: فلابدّ في الصلاة من الاقتصار عليه ، نظراً إلى اقتضاء الاشتغال اليقيني للبراءة اليقينيّة . ويدفعه : مضافاً إلى ما عرفت من عدم التزامه به لا قولاً ولا عملاً ، إطلاق ما ورد من الأ ئـمّة (عليهم السلام) في هذا الباب ، وعدم تقييد شيء منها بمثل ذلك ، كان عليهم البيان في مثل هذا الحكم الذي تعمّ به البلوى ، وهو مورد لاحتياج العموم في كلّ يوم وليلة عشر مرّات ، وليس في شيء منها الإشعار بالاختصاص ، فضلاً عن الدلالة والظهور . وتؤيّده الروايات الواردة في باب العدول من سورة إلى اُخرى ، الدالّة على جواز الانتقال ما لم يتجاوز النصف ، وعدم جواز الانتقال من بعض السّور إلى اُخرى ، إلاّ إلى خصوص بعضها(1) ; فإنّها متعرّضة لحكم العدول مطلقاً ، وعلى تقدير التحريف لا يبقى مجال لبيان هذا الحكم على النحو الوسيع المذكور في الروايات ، كما هو ظاهر . الثالث : دعوى كون الثابت في زمن النبيّ (صلى الله عليه وآله) هو وجوب قراءة سورة كاملة من (1) وسائل الشيعة: 6 / 99 ـ 101 ، كتاب الصلاة ، أبواب القراءة في الصلاة ب36 و 37 . صفحه 246 القرآن الواقعي ، والثابت في زمن الأ ئـمّة (عليهم السلام) بمقتضى الروايات الصادرة عنهم ، هو وجوب قراءة سورة من القرآن الموجود الذي كان بأيدي الناس ، وإن لم تكن سورة كاملة من القرآن الواقعي، وبهذاالوجه يصحّ للمكلّف اختيارماشاءمن السور، ففي الحقيقة يكون ذلك ترخيصاً من الأ ئـمّة (عليهم السلام) وتسهيلاً من ناحيتهم المقدّسة . ويردّه : أ نّ هذه الدعوى ترجع إلى النسخ ; ضرورة أنّه ليس إلاّ رفع الحكم الثابت الظاهر في الدوام والاستمرار ، فإذا كان الحكم الثابت في زمن النبيّ (صلى الله عليه وآله) عبارة عن وجوب قراءة سورة كاملة من القرآن الواقعي ، وفرض ارتفاعه وتبدّله إلى الحكم بوجوب قراءة سورة من الكتاب الموجود ، فليس هذا إلاّ النسخ ، وهو وإن فرض إمكانه بعد النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، إلاّ أنّه قد وقع الإجماع والاتّفاق على عدم وقوعه ، فهذه الدعوى مخالفة للإجماع . ثمّ إنّه أجاب المحدّث المعاصر عن أصل الدليل الذي ذكره الصدوق (رحمه الله) بما حاصله : أ نّ ما جاء من ذلك عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) وهو أقلّ قليل في كتب الأحاديث المعتبرة ، فلا منافاة بينه وبين ورود التحريف عليه بعده (صلى الله عليه وآله) ، وعدم التمكّن من امتثال ما ذكره وأمره ، كما لا منافاة بين حثّه (صلى الله عليه وآله) على التمسّك باتّباع الإمام (عليه السلام) ، وأمره بأخذ الأحكام عنه ، ومتابعة أقواله وأفعاله وسيره ، والكون معه حيثما كان ، وعدم القدرة على ذلك ; لعدم تمكّنه (عليه السلام) لإظهار ما أودع عنده لخوف وتقيّة ، أو عدم تمكّن الناس من الوصول إليه (عليه السلام) والانتفاع به (عليه السلام) لذلك أو لغيره من الأعذار . وما ورد عن الأ ئـمّة (عليهم السلام) من بعده ، فالمراد منه الداير بين الناس ; للانصراف ، ولكون بنائهم على إمضاء الموجود ، وتبعيّة غيرهم فيه . . . ثمّ إنّ الثواب المذكور إمّا للموجود خاصّة ، كما هو الظاهر من الروايات ، ويكون للمشتمل على المحذوف أزيد منه ، لم يذكروه لعدم القدرة على تحصيله ، أو هو للثاني ، وإنّما يجزئ قارئ الناقص به تفضّلاً من الله تعالى ; لعدم كونهم سبباً للنقص ، وللتسامح في النقيصة ، صفحه 247 وصدق قراءة ما علّق عليه في الخبر عليه(1) . ويدفعه : ما عرفت(2) من عدم كون ما ورد عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) مقصوراً على زمانه ، ومحدوداً بحياته ، بل هو كسائر الأحكام المشرّعة في زمانه ، الظاهرة في الدوام والاستمرار ، فيشمله مثل قوله : «حلال محمّد (صلى الله عليه وآله) حلال أبداً إلى يوم القيامة ، وحرامه حرام أبداً إلى يوم القيامة»(3) ، فلا ينفع عدم وقوع التحريف في زمنه ، ووقوعه بعده ـ على تقديره ـ في قصر الحكم على مدّة حياته . ومن أنّ كون المراد ممّا ورد عن الأ ئـمّة (عليهم السلام) هو القرآن الموجود ; لبنائهم على التبعيّة يرجع إلى النسخ لا محالة ، وقد عرفت الاتّفاق على عدم تحقّقه بعد النبيّ (صلى الله عليه وآله) . وإذن فلا محيص عن القول بأنّ ما ورد في ذلك من النبيّ (صلى الله عليه وآله) أو الإمام (عليه السلام) ظاهر في بقاء الكتاب على ما هو عليه ، وعدم وقوع تحريف فيه ، وأ نّ ما بأيدي الناس نفس ما نزل على النبيّ (صلى الله عليه وآله) من دون اختلاف ، وقد عرفت أيضاً(4) في بعض الاُمور السابقة الفرق بين الرجوع إلى الكتاب ، وبين التمسّك بالعترة (عليهم السلام) ، وأ نّه لا مجال لمقايسة أحدهما على الآخر أصلاً ، فراجع . الدليل السابع : من الاُمور الدالّة على عدم التحريف : الدليل العقلي الذي ذكره بعض الأعلام ، وملخّصه مع تقريب منّا : «أ نّ القائل بالتحريف إمّا أن يدّعي وقوعه وصدوره من الشيخين بعد وفاة النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، وإمّا أن يدّعي وقوعه وتحقّقه من (1) فصل الخطاب ، الباب الثاني ، الأمر الثالث : 339 ـ 340 . (2) في ص239 ـ 240 . (3) بصائر الدرجات: 148 ، الجزء 3 ب 13 ح 7 ، الكافي: 1 / 58 ، كتاب فضل العلم ب 19 ح 19 عن أبي عبدالله (عليه السلام) . وأخرجه في بحار الأنوار: 11 / 56 قطعة من ح55 و ج68 / 326 قطعة من ح2 عن المحاسن: 1 / 420 قطعة من ح963 ، وفي ج16 / 353 قطعة من ح38 عن الكافي 2 / 18 قطعة من 2 . (4) فى ص 232 ـ 233 . صفحه 248 عثمان بعد انتهاء الأمر إليه ووصول النوبة به ، وإمّا أن يقول بصدوره من شخص آخر بعده ، فهذه احتمالات ثلاثة لا رابع لها» وجميعها فاسدة . أمّا الاحتمال الأوّل : فيدفعه أنّهما في هذا التحريف إمّا أن يكونا غير عامدين ، وإنّما صدر عنهما من جهة عدم وصول القرآن إليهما بتمامه ، نظراً إلى عدم كونه مجموعاً قبل ذلك في زمن النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، وإمّا أن يكونا متعمّدين ، وعلى هذا التقدير ، فإمّا أن يكون التحريف الواقع منهما في الآيات التي لها مساس بزعامتهما لوقوع التصريح فيها ، أو ظهورها في ثبوت الخلافة والولاية لأهلها ; وهو عليّ أمير المؤمنين عليه أفضل صلوات المصلّين ، وإمّا أن يكون في غيرها من الآيات . فالتقادير المتصوّرة ثلاثة : فيردّه : أ نّ اهتمام النبيّ (صلى الله عليه وآله) بأمر القرآن ، والأمر بحفظه وقراءته ، وترتيل آياته ، واهتمام الصحابة بذلك في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبعد وفاته ، يورث القطع بكون القرآن محفوظاً عندهم ، جمعاً أو متفرّقاً ، حفظاً في الصدور ، أو تدويناً في القراطيس ، وقد اهتمّوا بحفظ أشعار الجاهليّة وخطبها ، فكيف لم يكن يهتمّون بأمر الكتاب العزيز الذي عرّضوا أنفسهم للقتل في نشر دعوته ، وإعلان أحكامه ، وهجروا في سبيله أوطانهم ، وبذلوا أموالهم ، وأعرضوا عن نسائهم وأطفالهم ؟ وهل يحتمل عاقل مع ذلك كلّه عدم اعتنائهم بالقرآن ، حتّى يضيع بين الناس ، أو يحتاج في إثباته إلى شهادة شهادتين ؟ على أنّ روايات الثقلين دالّة على بطلان هذا الاحتمال ; فإنّ قوله (صلى الله عليه وآله) : «إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب الله، وعترتي»(1) لا يصحّ إذا كان بعض القرآن ضائعاً في (1) كمال الدين: 234ـ 241 ح44 ـ 64 ، وقد تقدّمت بتفصيلها والبحث فيها في ص228 ـ 237 . صفحه 249 عصره ; فإنّ المتروك حينئذ يكون بعض الكتاب لا جميعه ، بل وفي هذه الروايات دلالة صريحة على تدوين القرآن وجمعه في زمان النبيّ (صلى الله عليه وآله) ; لأنّ الكتاب لا يصدق على مجموع المتفرّقات ، ولا على المحفوظ في الصدور . وأمّا التقدير الثاني : الذي يرجع إلى أ نّهما حرّفا القرآن عمداً في الآيات التي لا تمسّ بالزعامة والخلافة . فهو بعيد في نفسه ، بل مقطوع العدم ; ضرورة أنّ الخلافة كانت مبتنية على السياسة ، وإظهار الاهتمام بأمر الدين ، وحفظ القرآن الذي كان مورداً لاهتمام المسلمين ، وهلاّ احتجّ بذلك أحد الممتنعين عن بيعتهما ، المعترضين على أبي بكر في أمر الخلافة ؟ ولم يذكر ذلك عليّ (عليه السلام) في خطبته الشقشقيّة(1) ـ المعروفة ـ وغيرها . وأمّا التقدير الثالث : الذي يرجع إلى وقوع التحريف منهما عمداً في الآيات الواردة في موضوع الخلافة . فهو أيضاً مقطوع العدم ; فإنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) والصدِّيقة الطاهرة ـ سلام الله عليها ـ وجماعة من الصحابة قد عارضوهما في أمر الخلافة ، واحتجّوا عليهما بما سمعوا من النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، واستشهدوا على ذلك من شهد من المهاجرين والأنصار ، واحتجّوا عليه بحديث الغدير وغيره ، ولو كان في القرآن شيء يمسّ بزعامتهم ; لكان أحقّ بالذكر في مقام الاحتجاج ، وأحرى بالاستشهاد عليه من جميع المسلمين ، مع أنّه لم يقع ذلك بوجه ، كما يظهر من كتاب «الاحتجاج» المشتمل على احتجاج اثني عشر رجلاً على أبي بكر في أمر الخلافة (2) ، ومن العلاّمة المجلسي ـ رحمة الله تعالى عليه ـ في البحار ، حيث عقد باباً لاحتجاج أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) في أمر الخلافة (3) . (1) نهج البلاغة للدكتور صبحي صالح: 48، الخطبة 3 . (2) الاحتجاج: 1 / 186 ـ 203 ، الرقم 37 ، وعنه بحار الأنوار: 28 / 189 ب 4 ح 2 . (3) بحار الأنوار: 29 / 3 ب5 ، وج31 / 315 ـ 447 ب26 و 27 . صفحه 250 فانقدح أنّ الاحتمال الأوّل فاسد بجميع تقاديره . وأمّا الاحتمال الثاني : وهو وقوع التحريف من عثمان ، فهو أبعد من الدعوى الاُولى ; لأنّ الإسلام قد انتشر في زمانه على نحو لم يكن في إمكانه وإمكان من هو أكبر منه أن ينقص من القرآن شيئاً . ولأنّه لو كان محرِّفاً للقرآن لكان في ذلك أوضح حجّة ، وأكبر عذر لقتلة عثمان علناً ، ولما احتاجوا في الاحتجاج على ذلك إلى مخالفته لسيرة الشيخين في بيت مال المسلمين ، وإلى ما سوى ذلك من الحجج . ولأ نّه كان من الواجب على عليّ (عليه السلام) بعد عثمان أن يردّ القرآن إلى أصله الذي كان يقرأ به في زمان النبيّ (صلى الله عليه وآله) وزمان الشيخين ، ولم يكن عليه في ذلك شيء ينتقد به ، بل ولكان ذلك أبلغ أثراً في مقصوده ، وأظهر لحجّته في الثائرين بدم عثمان ، ولاسيّما أ نّه (عليه السلام) قد أمر بإرجاع القطائع التي أقطعها عثمان ، وقال في خطبة له : «والله لو وجدته قد تُزُوِّج به النساء ، ومُلك به الإماء لرددته ; فإنّ في العدل سعة ، ومن ضاق عليه العدل ، فالجور عليه أضيق»(1) هذا أمر عليّ (عليه السلام) في الأموال ، فكيف يكون أمره في القرآن لو كان محرّفاً؟!(2) . (1) نهج البلاغة ، للدكتور صبحي الصالح: 57 ، الخطبة 15 . (2) والإنصاف : أ نّ هذه الجهة بنفسها تكفي لدفع احتمال التحريف الذي يدّعي القائل به وقوعه في زمن الخلفاء الثلاثة ; فإنّ إمضاء عليّ(عليه السلام) للقرآن الموجود في عصره ، وعدم التعرّض لتكميله على تقدير التحريف ، بل وعدم التفوّه بذلك ، دليل على كماله وعدم نقصه ; لأنّه(عليه السلام) لم يتقبّل أمر الخلافة الظاهريّة لأجل حبّها وحبّ الرئاسة ، بل لأجل ترويج الدين وتأييد شريعة سيِّد المرسلين (صلى الله عليه وآله) . ومع هذا الفرض فلم يكن هناك موضوع أهمّ من ردّ القرآن إلى أصله لو كان محرّفاً ، مع كونه هو الثقل الأكبر ، والمعجزة الوحيدة الخالدة إلى يوم القيامة ، واقتداره على ذلك بعد استقرار أمره كان واضحاً ضروريّاً ، وعلى تقدير العدم فالمبارزة لأجله ـ حتّى مع البلوغ إلى مرتبة بذل الخلافة والإعراض عنها ـ كانت لائقة ، فالإنصاف أ نّ هذا الدليل كاف لدفع أصل التحريف وإبطال القول به ، بشرط الخلوّ عن التعصّب ، وعدم الجمود على خلاف إدراك العقل . صفحه 251 وأمّا الاحتمال الثالث : الذي مرجعه إلى دعوى وقوع التحريف بعد زمان الخلفاء ، فلم يدّعها أحد فيما نعلم ، غير أنّها نسبت إلى بعض القائلين بالتحريف ، فادّعى أ نّ الحجّاج لمّا قام بنصرة بني اُميّة أسقط من القرآن آيات كثيرة كانت قد نزلت فيهم ، وزاد فيه ما لم يكن منه ، وكتب مصاحف وبعثها إلى مصر والشام والحرمين ، والبصرة والكوفة ، وأ نّ القرآن الموجود اليوم مطابق لتلك المصاحف ، وأمّا المصاحف الاُخرى فقد جمعها ولم يُبقِ منها شيئاً ولا نسخة واحدة (1) . أقول : ولعلّ من هذه الجهة قول بعض القائلين بالتحريف في آية (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْر) (2) في سورة القدر : إنّ أصلها كان هكذا : «ليلة القدر خير من ألف شهر» يملكها بنو اُميّة وليس فيها ليلة القدر(3) ، مع أنّ ملاحظة مقدار آيات تلك السورة وقصور معنى هذه الآية الأصليّة ، بل عدم ارتباط موضوع ليلة القدر بأمر خلافتهم يكفي في القطع ، بخلاف ذلك وإن لم يكن هنا دليل على عدم التحريف ، فضلاً عن الأدلّة الكثيرة المتقدّمة الدالّة على ذلك بأقوى دلالة . وكيف كان ، فالدليل على بطلان الاحتمال الثالث: أ نّ الحجّاج كان واحداً من ولاة بني اُميّة ، وهو أقصر باعاً ، وأصغر قدراً ، وأقلّ وزناً من أن ينال القرآن بشيء ، بل وهو أحقر من أن يغيّر شيئاً من الفروع الإسلامية ، فكيف في إمكانه أن يغيّر ما هو أساس الدين ، وقوام الشريعة ؟! ومن أين له القدرة والنفوذ في جميع ممالك الإسلام وغيرها ، مع انتشار القرآن فيها ؟! وعلى تقديره ، وفرض وقوعه . فكيف لم يذكر هذا الخطب العظيم مؤرّخ في تاريخه ، ولا ناقد في نقده ، مع ما فيه من الأهمّية ، وكثرة الدّواعي إلى نقله ؟! وكيف أغضى المسلمون عن هذه الجناية ـ التي لم يكن مثلها جناية ـ بعد انتهاء أمر (1) اُنظر مناهل العرفان في علوم القرآن: 1 / 217 . (2) سورة القدر 97 : 3 . (3) تفسير القمّي: 2 / 431 ، سنن الترمذي: 5 / 444 ب 97 ح 3361 . |