قرآن، حديث، دعا |
زندگينامه |
کتابخانه |
احكام و فتاوا |
دروس |
معرفى و اخبار دفاتر |
ديدارها و ملاقات ها |
پيامها |
فعاليتهاى فرهنگى |
کتابخانه تخصصى فقهى |
نگارخانه |
اخبار |
مناسبتها |
صفحه ويژه |
|
(الصفحة441)
وبالجملـة: لا مجال للمناقشـة في أنّ الاجتهاد عند الإماميّـة ـ رضوان اللّه عليهم ـ هو التفريع على خصوص القواعد المتلقّاة عنهم في قبال الجمهور الذين يعملون بالقياس والاستحسان مع عدم كونهما من الدين، بل يوجبان محقـه، كما ورد في روايـة أبان: «أنّ السنّـة إذا قيست محق الدين»(1).
ومنها: ما رواه أبوحيون مولى الرضا عن الرضا (عليه السلام) قال: «من ردّ متشابـه القرآن إلى محكمـه فقد هدي إلى صراط مستقيم» ثمّ قال: «إنّ في أخبارنا محكماً كمحكم القرآن، ومتشابهاً كمتشابـه القرآن، فردّوا متشابهها إلى محكمها، ولا تتّبعوا متشابهها دون محكمها فتضلّوا»(2).
فإنّ ردّ المتشابـه إلى المحكم لا يتيسّر بدون الاجتهاد، ولا يمكن أن يتحقّق بدون مقدّماتـه.
ومنها: ما رواه داود بن فرقد قال: سمعت أباعبداللّه (عليه السلام) يقول: «أنتم أفقـه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا، إنّ الكلمـة لتنصرف على وجوه، فلو شاء إنسان لصرف كلامـه كيف شاء ولا يكذب»(3)، فإنّ تشخيص الوجـه المقصود للإمام (عليه السلام) لا يمكن بدون الاجتهاد.
ومنها: الأخبار الدالّـة على حرمـة الفتوى بغير علم الظاهرة في عدم
1 ـ الكافي 1: 46 / 15، وسائل الشيعـة 27: 41، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب6، الحديث10.
2 ـ عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1: 290 / 39، وسائل الشيعـة 27: 115، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب9، الحديث22.
3 ـ معاني الأخبار: 1 / 1، وسائل الشيعـة 27: 117، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب9، الحديث27.
(الصفحة442)
تحريمها إذا كان بعلم وحجّـة(1).
ومنها: الأخبار العلاجيّـة(2) الواردة في علاج تعارض الخبرين وأنّـه يؤخذ بموافق الكتاب ومخالف العامّـة، فإنّ تشخيص الموافق للكتاب عن غيره ومخالف العامّـة عن غيره لا يمكن بدون الاجتهاد، كما هو واضح.
ومنها: خصوص المقبولـة(3) الواردة في تعارض الحكمين واختلافهما لأجل الاختلاف في مستند حكمهما، فإنّها ظاهرة في أنّ الحاكم يجوز لـه استنباط الحكم من الروايات الصادرة عنهم في الشبهات الحكميّـة والحكم على طبقـه، كما لايخفى.
ومنها: ما يدلّ على النهي عن الحكم بغير ما أنزل اللّه(4) الظاهر في جواز الحكم بما أنزل اللّه.
ومـن الواضـح أنّ تشخيص مـا أنزل اللّه لا يكـاد يمكن بدون مراعاة جهات الواقعـة، واختلاف مـا ورد فيها مـن الأدلّـة، وتشخيص مـا هـو الحـقّ عن غيره.
ومنها: روايـة علي بن أسباط قال: قلت للرضا (عليه السلام): يحدث الأمر لا أجد بدّاً من معرفتـه، وليس في البلد الذي أنا فيـه أحد أستفتيـه من مواليك؟ قال: فقال: «ائت فقيـه البلد فاستفتـه من أمرك، فإذا أفتاك بشيء فخذ بخلافـه، فإنّ
1 ـ راجع وسائل الشيعة 27: 20، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب4.
2 ـ راجع وسائل الشيعة 27: 106، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب9.
3 ـ الكافي 1: 54 / 10، وسائل الشيعة 27: 106، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب9، الحديث1.
4 ـ راجع وسائل الشيعـة 27: 31، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب5.
(الصفحة443)
الحقّ فيـه»(1). وهذا يدلّ على أنّ الاستفتاء والرجوع إلى فتوى الفقيـه في زمان الأئمّـة (عليهم السلام) أيضاً كان مفروغاً عنـه عندهم وأمراً متداولا بينهم. غايـة الأمر أنّ السائل في هذه الروايـة إنّما يسأل عمّا لو لم يكن في البلد من يستفتيـه من فقهاء الإماميّـة.
ومنها: مـارواه في المستدرك عـن نهج البلاغة قـال (عليه السلام) فيما كتب إلـى قثم بن عباس: «واجلس لهم العصرين فافت للمستفتي وعلّم الجاهل وذاكر العالم»(2).
ومنها: روايـة يونس الطويلـة(3) الواردة في الاستحاضـة الدالّـة على جواز الاجتهاد، حيث إنّـه (عليه السلام) يستدلّ بكلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويعلّم طريق الاجتهاد والاستفادة من الكلمات الصادرة عنهم.
ومنها: روايـة زرارة(4) الواردة في باب المسح الدالّـة على سؤالـه عن الإمام (عليه السلام) حيث حكم بأنّ المسح على بعض الرأس، وجوابـه بأنّـه لمكان الباء، ولم ينكر عليـه طريق الاستفادة من الكتاب، كما هو شأن المجتهد.
1 ـ عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1: 275 / 10، وسائل الشيعـة 27: 115، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب9، الحديث23.
2 ـ نهج البلاغـة: 457 / 67، مستدرك الوسائل 17: 315، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب11، الحديث15.
3 ـ الكافي 3: 83 / 1، وسائل الشيعة 2: 276، كتاب الطهارة، أبواب الحيض، الباب3، الحديث4.
4 ـ الفقيـه 1: 56 / 212، وسائل الشيعـة 1: 412، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب23، الحديث1.
(الصفحة444)
ومنها: روايـة عبدالأعلى(1) الواردة في المسح على المرارة الدالّـة على أنّ هذا وأشباهـه يعرف من كتاب اللّه ولا يحتاج إلى السؤال.
ومنها: ما قالـه أبوجعفر (عليه السلام) لأبان بن تغلب ممّا يدلّ على حبّـه (عليه السلام) لأن يجلس في المدينـة ويبيّن للناس مسائل الحلال والحرام ويفتي لهم(2).
ومنها: غير ذلك.
وأمّا الطائفـة الثانيـة الدالّـة على إرجاع العوام من الناس إلى الخواصّ من أصحابهم فكثيرة جدّاً، كما يظهر بالتـتبّع في مظانّها(3).
وبالجملـة: فالمناقشـة في أصل وجود الاجتهاد والتقليد في تلك الأزمنـة ممّا لا ينبغي الإصغاء إليها.
الجواب الثاني: كفاية عدم الردع للبناء الفعلي لإحراز رضى الشارع
نعم يقع الإشكال من جهـة اُخرى، وهي أنّـه لاشكّ في أنّ هذه الاختلافات الكثيرة الموجودة بين أهل الفتيا في مثل هذا الزمان لم تكن في زمان الأئمّـة (عليهم السلام) قطعاً، وحينئذ فكيف يمكن إحراز رضى الشارع وإمضائـه لبناء العقلاء الموجود فعلا، بعد اختلافـه مع البناء المتحقّق في الزمان السابق اختلافاً كثيراً لا يمكن أن يقاس أحدهما بالآخر أصلا؟ فلا محيص حينئذ عن التوسّل بأنّ
1 ـ تهذيب الأحكام 1: 363 / 1097، وسائل الشيعـة 1: 464، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب39، الحديث5.
2 ـ وسائل الشيعـة 30: 291، الفائدة الثانيـة عشرة.
3 ـ راجع وسائل الشيعـة 27: 136، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب11.
(الصفحة445)
عدم الردع للبناء الفعلي يكفي في إحراز رضى الشارع وتنفيذه لـه.
توضيحـه: أنّـه لاشكّ في أنّـه لم يكن بناء الشارع في تبليغ الأحكام وهدايـة الأنام إلاّ على التوسّل بالطرق العقلائيّـة والاُمور العاديّـة، ولم يكن بناءه في مقام بيان الأحكام على الرجوع إلى علمـه بالمغيبات وتبليغ الأحكام حسب ما يعطيـه ذلك العلم.
وحينئذ: فليس دعوانا أنّ الشارع كان عليـه أن يردع عن هذه الطريقـة الفعليّـة لو كانت غير مرضيّـة لـه راجعـة إلى أنّـه لأجل كونـه عالماً بالمغيبات لابدّ لـه الردع أو الإمضاء بالنسبـة إلى الاُمور المستقبلـة والمتأخّرة عن زمانـه، وإذا لم يردع يكشف ذلك عن رضاه بذلك.
بل نقول: إنّ هذه المسألـة وهي الاجتهاد والاستنباط والرجوع إلى العالم بهذا النحو المعمول المتغاير لما كان متحقّقاً في الزمان السابق ممّا يقتضي طبع الأمر حدوثها في هذه الأزمنـة، بحيث لم يكن حدوثها مخفيّاً على العارفين بمسألـة الإمامـة وأنّـه يغيب الثاني عشر من شموس الهدايـة مدّة طويلـة عن أعين الناس وأنظار العامّـة، بحيث لا يكاد يمكن لهم الرجوع إليـه والاستضاءة من نور الولايـة، وفي ذلك الزمان لابدّ للناس من الرجوع إلى علمائهم والاستفتاء منهم مع شدّة اختلافهم بحيث قلّما يتّفق اتّحاد فتوى فقيـه واحد في كتبـه المختلفـة، بل في جميع المواضع من كتاب واحد، فضلا عن اتّحاد فقيهين أو الفقهاء منهم، وكما أنّ أصل غيبـة الإمام (عليه السلام)واضطرار الناس إلى الرجوع إلى فقهائهم كان معلوماً في زمان الأئمّـة (عليهم السلام)لخواصّ أصحابهم، فضلا عن أنفسهم، كذلك وجود هذا الاختلاف الكثير وشدّة الشقاق وكثرة الآراء والأقوال في زمان الغيبـة كان معلوماً لديهم أيضاً، بل يمكن أن يقال ـ كما هو الظاهر ـ إنّهم (عليهم السلام)
(الصفحة446)
عمدوا إلى إيجاد هذا الاختلاف وهيّأوا مقدّماتـه اختياراً، لغرض بقاء الدين، وصيرورة النظر في الروايات الصادرة عنهم، واستخراج مراداتهم من الفنون حتّى يهمّ بعض الناس الورود في هذا الفنّ وصرف أوقاتـه فيـه، وبذلك يتحقّق حزب إلهي في مقابل سائر الأحزاب، ولو أنّهم كانوا قد جمعوا آرائهم في رسالـة واحدة ونشروها بين الاُمّـة ليرجع إليها كلّ من يقتدى بهم من دون تكلّف ومشقّـة نعلم قطعاً بأنّـه لم يكن يبقى من الدين في مثل هذه الأزمنـة عين ولا أثر، كما هو ظاهر لمن تدبّر.
وبالجملـة: فلا ينبغي الشكّ في أنّ هذا الوضع الفعلي كان معلوماً في زمان الأئمّـة (عليهم السلام) لا لأجل كونهم مطّلعين على ما يكون، بل لأجل كون طبع الأمر ينجرّ إلى ذلك، ومع ذلك فلا محيص عن الالتزام بأنّ عدم ردعهم يكشف عن إمضاء الشارع وتنفيذه لنفس هذه الطريقـة، فافهم واغتنم.
إذا عرفت ذلك فنقول:
مناط بناء العقلاء في رجوع الجاهل إلى العالم ومقتضاه
إنّ رجوع الجاهل إلى العالم يمكن أن يكون لأجل حصول الاطمئنان من قولـه، بحيث لا ينقدح في ذهنـه احتمال الخلاف ولا يلتفت إليـه، وعلى تقدير التوجّـه والالتفات لا يعتنى بـه.
ويمكن أن يكون لأجل انسداد باب العلم عليه واضطراره من الرجوع إليـه.
ويمكن أن يكون لأجل التبعيّـة لأئمّتهم ورؤسائهم الجاعلين لهذا القانون في الأزمنـة السابقـة لأغراض منظورة لهم، من دون أن يكون أمراً ارتكازيّاً للناس، بل صار ارتكازيّاً لهم بعد جعل رؤسائهم.
(الصفحة447)
فهذه احتمالات متصوّرة في بادئ النظر، لكن لا سبيل إلى الثاني، لأنّ الانسداد لا ينتج الرجوع إلى العالم والتعبّد بقولـه، بل يقتضي الاحتياط ولو مبعّضاً كما لايخفى.
والثالث أيضاً في غايـة البعد بل مستحيل عادةً فإنّا نرى أنّ هذا الأمر ـ وهو رجوع الجاهل إلى العالم ـ أمر متّفق عليـه بين جميع أهل الأمصار في جميع الأعصار والقرون.
فدعوى استناد ذلك إلى جعل الأئمّـة والرؤساء ترجع إلى تصادف اتّفاق جميع الأئمّـة على جعل هذا الأمر مع كثرة الفصل بين البلاد وعدم الارتباط بين ساكنيها في تلك الأزمنـة أصلا، فإسناد ذلك إلى مجرّد التصادف مستبعد جدّاً، بل محال عادة، كما عرفت.
فلا محيص عن الالتـزام بأنّ الوجـه في رجـوع الجاهـل إلى العالم هو كون قولـه طريقاً موجباً لحصول الاطمئنان بحيث لا يكاد ينقدح في ذهنهم احتمال الخلاف كما هو الشأن في مثل قاعدة اليد من القواعد العقليّـة المتداولـة بين الناس(1). نعم لا يبعد أن يكون للانسداد دخل في أعمالهم في جميع الموارد أو في بعضها.
لكن يرد على هذا الوجـه: أنّـه كيف يمكن أن يدّعى بناء العقلاء على إلغاء احتمال الخلاف والخطأ مع هذه الاختلافات الكثيرة المشاهدة من الفقهاء بل من فقيـه واحد في كتبـه العديدة بل في كتاب واحد. ولهذا لا يبعد أن يكون رجوع
1 ـ من هنا إلى آخر الكتاب عين عبارات سيّدنا الاُستاذ دام بقاءه في رسالتـه الموضوعـة في هذا الباب فلا تغفل. [المقرّر حفظـه اللّه].
(الصفحة448)
العامّي إلى الفقيـه إمّا لتوهّم كون فنّ الفقـه ـ كسائر الفنون ـ يقلّ الخطأ فيـه وكان رجوع المقلّد لمقدّمـة باطلـة وتوهّم خطأ، أو لأمر تعبّدي أخذه الخلف عن السلف، لا لأمر عقلائي وهو أمر آخر غير بناء العقلاء.
ودعوى قلّـة خطأ العلماء بالنسبـة إلى صوابهم بحيث يكون احتمالـه ملغى ـ وإن كثر ـ بعد ضمّ الموارد بعضها إلى بعض غير وجيهـة، مع ما نرى من الاختلافات الكثيرة في كلّ باب إلى ما شاء اللّه.
وقد يقال: إنّ المطلوب للعقلاء في باب الاحتجاجات بين الموالي والعبيد قيام الحجّـة وسقوط التكليف والعقاب بأيّ وجـه اتّفق، والرجوع إلى الفقهاء موجب لذلك، لأنّ المجتهدين مع اختلافهم في الرأي مشتركون في عدم الخطأ والتقصير في الاجتهاد، ولا ينافي ذلك الاختلاف في الرأي، لإمكان عثور أحدهما على حجّـة في غير مظانّها، أو أصل من الاُصول المعتمدة ولم يعثر عليهما الآخر مع فحصـه بالمقدار المتعارف، فتمسّك بالأصل العملي أو عمل على الأمارة التي عنده، فلا يكون واحد منهما مخطئاً في اجتهاده، ورأي كلّ منهما حجّـة في حقّـه وحقّ غيره، فرجوع العقلاء إليهما لأجل قيام الحجّـة والعذر، وهما المطلوب لهم لا إصابـة الواقع الأوّلي.
وأوضح من ذلك ما لو قلنا بجعل المماثل في مؤدّى الأمارة.
وفيـه أوّلا: أنّ تسميـة ذلك «عدم الخطأ» في غير محلّـه. نعم لا يكون ذلك تقصيراً وإن كان مخطئاً، ومع اختلافهما لا محالـة يعلم بخطأ أحدهما، ومعـه لايكون البناء على الرجوع إذا كان الاختلاف كثيراً ولو في غير مورد اختلافهما، للاعتداد باحتمال الخطأ حينئذ.
(الصفحة449)
وثانياً: أنّـه لو سلّم أنّ نظر العقلاء في مثل المقام إلى تحصيل الحجّـة والعذر، لكنّهما متوقّفان على إلغاء احتمال خطأ الاجتهاد بالنسبـة إلى التكاليف الواقعيـة الأوليـة، وهو في المقام ممنوع، ومؤدّى الطرق لو فرض باطلا كونـه حكماً ثانوياً لا يوجب معذوريتـه بالنسبـة إلى الواقعيات إلاّ للمعذور وهو المجتهد، لا للمقلّد الذي يكون مبنى عملـه فتواه، وهو ليس معذّراً إلاّ مع كونـه كسائر الأمارات العقلائيـة قليل الخطأ لدى العقلاء، والفرض أنّ كلّ مجتهد يحكم بخطأ أخيـه لا بتقصيره، ومعـه كيف يمكن حجّيـة الفتوى.
نعم يمكن أن يقال: إنّ الأمر الثاني من الأمرين المتقدّمين يدفع الإشكال، فإنّ عدم ردع هذا البناء الخارجي دليل على رضاء الشارع المقدس بالعمل على فتاوى الفقهاء مع الاختلاف المشهور.
لكن في صيرورة ذلك هو البناء العقلائي المعروف والبناء على أماريّـة الفتوى كسائر الأمارات إشكالا، إلاّ أن يقال; إنّ بناء المتشرّعـة على أخـذ الفتوى طريقاً إلى الواقـع، والعمل على طبق الأماريّـة والسكوت عنـه دليل علـى الارتضاء بذلك، وهو ملازم لجعل الأماريّـة لـه، والمسألـة تحتاج إلى مـزيد تأمّل.
ثمّ إنّـه بناءً على أنّ المناط في رجوع الجاهل إلى العالم هو إلغاء احتمال الخلاف والخطأ بحيث يكون احتمالـه موهوماً لا يعتنى بـه العقلاء لا إشكال في أنّ هذا المناط موجود عندهم في تشخيصات أهل الخبرة وأصحاب الفنون، كان الأفضل موجوداً أو لا، ولهذا يعملون على قولـه مع عدم وجود الأفضل، وهذا دليل قطعي على تحقّق مناط العمل عندهم في قول الفاضل، وإلاّ فكيف يعقل العمل مع عدم المناط، فيكون المناط موجوداً كان الأفضل موجوداً أولا، اختلف
(الصفحة450)
رأيهما أو لا. فلو فرض تقديمهم قول الأفضل عند الاختلاف فإنّما هو من باب ترجيح إحدى الحجّتين على الاُخرى، لا من باب عدم الملاك في قول المفضول، لعدم تعقّل تحقّق المناط مع عدم الفاضل وعدمـه مع وجوده، فقول المفضول حجّـة وأمارة عقلائيّـة في نفسـه، لأجل موهوميّـة احتمال الخطأ، كما أنّ مناط العمل بقول الأفضل ذلك بعينـه.
هل ترجيح قول الأفضل عند العقلاء لزومي أم لا؟
نعم يبقى في المقام أمر، وهو أنّـه هل بناء العقلاء على ترجيح قول الأفضل لدى العلم بمخالفتـه مع غيره إجمالا أو تفصيلا يكون بنحو الإلزام، أو من باب حسن الاحتياط وليس بنحو اللزوم؟
لا يبعد الاحتمال الثاني، لوجود تمام الملاك في كليهما، واحتمال أقربيّـة قول الأعلم ـ على فرض صحّتـه ـ لم يكن بمثابـة ترى العقلاء ترجيحـه عليـه لزوميّاً، ولهذا تراهم يراجعون إلى المفضول بمجرّد أعذار غير وجيهـة كبعد الطريق وكثرة المراجعين، ومشقّـة الرجوع إليـه ولو كانت قليلـة، وأمثال ذلك ممّا يعلم أنّـه لو حكم العقل إلزاماً بالترجيح لما تكون تلك الأعذار وجيهـة لدى العقل والعقلاء.
هذا مع علمهم إجمالا بمخالفـة أصحاب الفنّ في الرأي في الجملـة، فليس ترجيح الأفضل إلاّ ترجيحاً غير ملزم واحتياطاً حسناً، ولهذا لو أمكن لأحد تحصيل اجتماع أصحاب فنّ في أمر والاستفتاء منهم لَفَعَل، لا لأجل عدم الاعتناء بقول الأفضل أو الفاضل، بل للاحتياط الراجح الحسن.
(الصفحة451)
وبالجملـة: المناط كلّ المناط في رجوعهم هو اعتقادهم بندرة الخطأ وإلغاء احتمال الخلاف، وهو موجود في كليهما.
فحينئذ مع تعارض قولهما مقتضى القاعدة تساقطهما والرجوع إلى الاحتياط مع الإمكان، وإلاّ فالتخيـير وإن كان ترجيح قول الأفضل حسناً على أيّ حال، تأمّل.
هذا، ولكن مع ذلك فالذهاب إلى معارضـة قول المفضول قول الأفضل مشكل، خصوصاً في مثل ما نحن فيـه ـ أي باب الاحتجاج بين العبيد والموالي ـ مع كون المقام من دوران الأمر بين التعيـين والتخيـير، والأصل يقتضي التعيـين، فالقول بلزوم تقديم قول الأفضل لعلّـه أوجـه، مع أنّ الأصحاب أرسلوه إرسال المسلمات والضروريات(1)، مضافاً إلى عدم إحراز بناء العقلاء على العمل بقول المفضول مع العلم التفصيلي بل الإجمالي المنجّز بمخالفتـه مع الفاضل لو لم يعلم بإحراز عدمـه. نعم لا يبعد ذلك مع العلم بأنّ في أقوالهم اختلافاً، لا مع العلم إجمالا بأنّ في هذا المورد أو مورد آخر مثلا مختلفون.
وبعبارة اُخرى: إنّ بنائهم على العمل في مورد العلم الإجمالي الغير المنجّز نظير أطراف الشبهـة الغير المحصورة، هذا حال بناء العقلاء.
وأمّا حال الأدلّـة الشرعيّـة فلابدّ من ذكر ما تشبّث بـه الطرفان والبحث في أطرافهما.
1 ـ راجع مفاتيح الاُصول: 626 / السطر12، مطارح الأنظار: 298 / السطر20.
(الصفحة452)
أدلّة جواز الرجوع إلى المفضول
أمّا ما يمكن أن يتمسّك بـه لجواز الرجوع إلى المفضول مع وجود الأفضل، بل ومخالفـة رأيهما اُمور:
الأوّل: بعض الآيات الشريفة
منها: قولـه تعالى في سورة الأنبياء: (وَمَا أَرسَلنَا قَبلَكَ إِلاّ رِجَالا نُوحي إِلَيهِم فَسئَلُوا أَهلَ الذِّكرِ إِن كُنتُم لاَ تَعلَمُون )(1) بدعوى أنّ إطلاقـه يقتضي جواز الرجوع إلى المفضول حتّى مع مخالفـة قولـه للأفضل، سيّما مع ندرة التساوي بين العلماء وتوافقهم في الآراء.
وفيـه ـ مضافاً إلى ظهور الآيـة في أنّ أهل الذكر هم علماء اليهود والنصارى وإرجاع المشركين إليهم، وإلى ورود روايات كثيرة في أنّ أهل الذكر هم الأئمّـة(2) بحيث يظهر منها أنّهم أهلـه لا غير ـ أنّ الشبهـة كانت في اُصول العقائد التي يجب فيها تحصيل العلم، فيكون المراد: «اسألوا أهل الذكر حتّى يحصل لكم العلم إن كنتم لا تعلمون» ومعلوم أنّ السؤال عن واحد منهم لا يوجب العلم، ففي الآيـة إهمال من هذه الجهـة، فيكون المراد أنّ طريق تحصيل العلم لكم هو الرجوع إلى أهل الذكر، كما يقال للمريض: إنّ طريق استرجاع الصحّـة
1 ـ الأنبياء (21): 7.
2 ـ راجع الكافي 1: 210.
(الصفحة453)
هو الرجوع إلى الطبيب وشرب الدواء، فليس لها إطلاق يقتضي الرجوع إلى الفاضل أو المفضول مع تعارض قولهما.
ولايبعد أن يقال: إنّ الآيـة بصدد إرجاعهم إلى أمر ارتكازي هو الرجوع إلى العالم، ولا تكون بصدد تحميل تعبّدي وإيجاب مولوي.
ومنها: آيـة النفر (وَمَا كَانَ المُؤمِنُون لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَولا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرقَة مِنهُم طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَومَهُم إِذَا رَجَعُوا إِلَيهِم لَعَلَّهُم يَحذَرُونَ )(1).
والاستدلال بها للمطلوب يتوقّف على اُمور:
منهـا: استفادة وجوب النفر منها.
ومنها: كون التفقّـه غايـة لـه.
ومنها: كون الإنذار من جنس ما يتفقّـه فيـه.
ومنها: انحصار التفقّـه بالفرعيّات.
ومنها: كون المنذر ـ بالكسر ـ كلّ واحد من النافرين.
ومنها: كون المنذَر ـ بالفتح ـ كلّ واحد من الطائفـة الباقيـة.
ومنها: كون التحذر عبارة عن العمل بقول المنذر.
ومنها: وجوب العمل بقولـه، حصل العلم منـه أو لا، خالف قول غيره أو لا.
فيصير مفاد الآيـة بعد تسليم المقدّمات: «يجب على كلّ واحد من كلّ طائفـة من كلّ فرقـة النفر لتحصيل الفروع العمليّـة، ليبيّنها لكلّ واحد من الباقين، ليعمل المنذر بقولـه، حصل العلم منـه أو لا، وخالف قول غيره أو لا».
1 ـ التوبـة (9): 122.
(الصفحة454)
وأنت خبير بعدم سلامـة جميع المقدّمات لو سلم بعضها، فلك أن تمنع كون التفقّـه غايـة النفر بأن يقال: إنّ قولـه: (وَمَا كَانَ المُؤمِنُون لِيَنفِرُوا كَافَّةً )يحتمل أن يكون إخباراً في مقام الإنشاء، أي ليس لهم النفر العمومي، كما ورد أنّ القوم كانوا ينفرون كافّـة للجهاد وبقي رسولاللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) وحده، فورد النهي عن النفر العمومي والأمر بنفر طائفـة للجهاد.
فحينئذ لا يكون التفقّـه غايـة للنفر إذا كان التفقـه لغير النافرين; أي الباقين. لكن الإنصاف أنّ ذلك خلاف ظاهرها، بل ظاهرها أنّ المؤمنين بحسب اشتغالهم باُمور المعاش ونظم الدنيا ما كانوا لينفروا جميعاً، أي النفر العمومي ليس ميسوراً لهم، ولولا نفر من كلّ فرقـة طائفـة منهم للتفقّـه؟ ولا إشكال في أنّ الظاهر منـه مع قطع النظر عن قول المفسّرين هو كون التفقّـه غايـة لـه.
وأمّا كون الإنذار من سنخ ما يتفقّـه فيـه; أي بيان الأحكام بنحو الإنذار فليست الآيـة ظاهرة فيـه، بل الظاهر منها أنّ غايـة النفر أمران:
أحدهما: التفقّـه في الدين وفهم الأحكام الدينيّـة.
والآخر: إنذار القوم وموعظتهم. فيكون المراد: يجب على الفقيـه إنذار القوم وإيجاد الخوف من بأس اللّه في قلوبهم، فإذا خافوا يحكم عقلهم بوجوب تحصيل المؤمِّن، فلا محيص لهم إلاّ العلم بالأحكام مقدّمـة للعمل بها، وأمّا وجوب العمل بقول المنذر فلا تدّل الآيـة عليـه.
ودعوى أنّ الإنذار لابدّ وأن يكون من جنس ما يتفقّـه فيـه، وإلاّ فأيّـة مناسبـة للفقيـه معـه، ممنوعـة، لأنّ الإنذار مناسب للفقيـه، لأنّـه يعلم حدوده وكيفيّتـه وشرائط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مع أنّ لكلامـه تأثيراً في القوم ما لا يكون لكلام غيره، لعلوّ مقامـه وعظم شأنـه لديهم، وأمّا التفقّـه في
(الصفحة455)
الدين فهو أعمّ من الاُصول والفروع، فلا وجـه لاختصاصـه بالثاني، والأخبار الواردة في تفسيرها تدلّ على تعميمـه. فحينئذ لا يمكن أن يقال بوجوب قبول قولـه تعبّداً، لعدم جريانـه في الاُصول.
اللهمّ إلاّ أن يقال: إنّ إطلاقها على فرضـه يقتضي قبول قول الغير في الاُصول والفروع ويقيّد إطلاقها عقلا في الاُصول وتبقى الفروع.
وأمّا كون المنذر ـ بالكسر ـ كلّ واحد من الطائفـة فلا إشكال في ظهور الآيـة فيـه، لكنّ الظاهر منها أنّ كل واحد من المنذرين يجب عليـه إنذار القوم جميعاً، ومعـه لا تدلّ الآيـة على وجوب القبول من كلّ واحد منهم، فإنّـه بإنذار كلّ واحد منهم قومهم ربّما يحصل لهم العلم.
وأمّا كون التحذّر بمعنى التحذّر العملي أي قبول قول الغير والعمل بـه فهو خلاف ظاهرها، بل التحذّر إمّا بمعنى الخوف، وإمّا بمعنى الاحتراز وهو الترك عن خوف، والظاهر أنّـه بمعنى الخوف الحاصل عن إنذار المنذرين، وهو أمر غير اختياري لا يمكن أن يتعلّق بعنوانـه الأمر، نعم يمكن تحصيلـه بمقدّمات اختياريّـة كالحبّ والبغض وأمثالهما، هذا كلّـه مع أنّـه لا إطلاق للآيـة، ضرورة أنّها بصدد بيان كيفيّـة النفر وأنّـه إذن لا يمكن للناس نفر عمومي، فلِمَ لا ينفر طائفـة منهم، فإنّـه ميسور لهم؟!
وبالجملـة: لا يجوز للناس سدّ باب التفقّـه والتعلّم بعذر الاشتغال باُمور الدنيا; فإنّ أمر الدين كسائر اُمورهم يمكن قيام طائفـة بـه، فلابدّ من التفقّـه والإنذار، وأمّا وجوب قبول السامع بمجرّد السماع فلا إطلاق للآيـة يدلّ عليـه، فضلا عن إطلاقها لحال التعارض.
والإنصاف: أنّ الآيـة أجنبيّـة عن حجّيـة قول المفتي، كما أنّها أجنبيّـة عن
(الصفحة456)
حجّيـة قول المخبر، بل مفادها ـ والعلم عند اللّه ـ أنّـه يجب على طائفـة من كلّ فرقـة أن يتفقّهوا في الدين ويرجعوا إلى قومهم وينذروهم بالمواعظ والإنذارات والبيانات الموجبـة لحصول الخوف في قلوبهم لعلّهم يحذرون، ويحصل في قلوبهم الخوف قهراً، فإذا حصل الخوف في قلوبهم يدور رحى الديانـة ويقوم الناس بأمرها قهراً لسوقهم عقلهم نحو القيام بالوظائف.
هذا حالها مع قطع النظر عن الروايات الواردة في تفسيرها، ومع النظر إليها أيضاً لا تدلّ على المطلوب.
لأنّ منها: ما تدلّ على أنّ الإمام إذا مات لم يكن للناس عذر في عدم معرفـة الإمام الذي بعده، أمّا من في البلد فلرفع حجّتـه، وأمّا غير الحاضر فعليـه النفر إذا بلغـه(1).
ومنها: ما دلّ على أنّ تكليف الناس بعد الإمام الطلب وأنّ النافرين في عذر ماداموا في الطلب، والمنتظرين في عذر حتّى يرجع إليهم أصحابهم(2). ومعلوم أنّ قول النافرين بمجرّده ليس بحجّـة في باب الإمامـة.
ومنها: ما وردت في علّـة الحجّ، وفيها: «ولأجل ما فيـه من التفقّـه ونقل أخبار الأئمّـة إلى كلّ صقع وناحيـة»(3).
ومنها: ما دلّ على أنّـه تعالى أمرهم أن ينفروا إلى رسولاللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)
1 ـ راجع الكافي 1: 378 / 2 و3.
2 ـ راجع الكافي 1: 378 / 1.
3 ـ راجع وسائل الشيعـة 27: 96، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب8، الحديث65.
(الصفحة457)
فيتعلّموا، ثمّ يرجعوا إليهم فيعلّموهم، وهو معنى قولـه (صلى الله عليه وآله وسلم): «اختلاف اُمّتي رحمـة»(1). وهذه الطائفـة أيضاً لا تدلّ على وجوب القبول بمجرّد السماع فضلا عن حال التعارض، هذا حال الآيات الشريفـة والآيات الاُخرى التي استدلّ بها أضعف دلالـة منها.
الثاني: الأخبار التي استدلّ بها على حجّية قول المفضول
وأمّا الأخبار فمنها: ما عن تفسير الإمام (عليه السلام) في ذيل قولـه تعالى: (وَمِنهُم أُمِّيُّونَ لا يَعلَمُونَ الكِتَابَ إِلاّ أَمَانِيَّ وَإِن هُم إِلاّ يَظُنُّونَ )(2) والحديث طويل وفيـه: «وأمّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسـه، حافظاً لدينـه، مخالفاً على هواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوام أن يقلّدوه»(3).
دلّ بإطلاقـه على جواز تقليد المفضول إذا وجد فيـه الشرائط ولو مع وجود الأفضل أو مخالفتـه لـه في الرأي.
لكنّـه ـ مع ضعف سنده وإمكان أن يقال إنّـه في مقام بيان حكم آخر، فلا إطلاق لـه لحال وجود الأفضل فضلا عن صورة العلم بمخالفـة رأيـه رأي الأفضل مخدوش من حيث الدلالـة، لأنّ صدره في بيان تقليد عوام اليهود من
1 ـ راجع وسائل الشيعـة 27: 140، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب11، الحديث10.
2 ـ البقرة (2): 78.
3 ـ التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري (عليه السلام): 299، وسائل الشيعـة 27: 131، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب10، الحديث20.
(الصفحة458)
علمائهم في الاُصول، حيث قال: (وَإِن هُم إِلاّ يَظُنُّونَ ) ما تقول رؤساؤهم من تكذيب محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) في نبوّتـه وإمامـة علي سيّد عترتـه، وهم يقلّدونهم مع أنّـه محرّم عليهم تقليدهم».
ثمّ بعدما سأل الرجل عن الفرق بين عوامنا وعوامهم حيث كانوا مقلّدين؟ أجاب بما حاصلـه: إنّ عوامهم مع علمهم بفسق علمائهم وكذبهم وأكلهم الحرام والرشا وتغيـيرهم أحكام اللّه يقلّدونهم، مع أنّ عقلهم يمنعهم عنـه، ولو كان عوامهم [عوامنا] كذلك لكانوا مثلهم ثمّ قال: «وأمّا من كان من الفقهاء...» إلى آخره.
فيظهر منـه أنّ الذمّ لم يكن متوجّهاً إلى تقليدهم في اُصول العقائد كالنبوّة والإمامـة، بل متوجّـه إلى تقليد فسّاق العلماء، وأنّ عوامنا لو قلّدوا علمائهم فيما قلَّد اليهود علمائهم لابأس بـه إذا كانوا صائنين لأنفسهم حافظين لدينهم... إلى آخره. فإخراج الاُصول منـه إخراج للمورد وهو مستهجن.
فلابدّ من توجيـه الروايـة بوجـه أو ردّ علمها إلى أهلها. وأمّا حملها على حصول العلم من قول العلماء للعوام لحسن ظنّهم بـه وعدم انقداح خلاف الواقع من قولهم، بل يكون قول العلماء لديهم صراح الواقع وعين الحقيقـة، فبعيد بل غير ممكن، لتصريحها بأنّهم لم يكونوا إلاّ ظانّين بقول رؤسائهم وأنّ عقلهم كان يحكم بعدم جواز تقليد الفاسق، مع أنّـه لو حصل العلم من قولهم لليهود لم يتوجّـه إليهم ذمّ بل لم يسمّ ذلك تقليداً.
وبالجملـة: سوق الروايـة إنّما هو في التقليد الظنّي الذي يمكن ردع قسم منـه والأمر بالعمل بقسم منـه، والالتزام بجواز التقليد في الاُصول أو في بعضها كما ترى، فالروايـة مع ضعفها سنداً واغتشاشها متناً لا تصلح للحجّيـة، ولكن
(الصفحة459)
يستفاد منها مع ضعف سندها أمر تاريخي يؤيّد ما نحن بصدده، وهو أنّ التقليد بهذا المفهوم الذي في زماننا كان شائعاً من زمن قديم هو زمان الأئمّـة، أو قريب منـه; أي من زمان تدوين «تفسير الإمام» أو من قبلـه بزمان طويل.
ومنها: إطلاق صدر مقبولـة عمر بن حنظلـة(1) وإطلاق مشهورة أبي خديجـة(2). وتقريب الدلالـة أن يقال: إنّ الظاهر من صدرها وذيلها شمولها للشبهات الحكميّـة، فيؤخذ بإطلاقها في غير مورد واحد متعرّض لـه وهو صورة اختلاف الحَكَمين، وكذا المشهورة تشملها بإطلاقها، فإذا دلّتا على نفوذ حكم الفقيـه فيها، تدلاّن على اعتبار فتواه في باب فصل الخصومات، وإلاّ فلا يعقل إنفاذه بدونـه، ويفهم نفوذ فتواه وحجّيتـه في غيره إمّا بإلغاء الخصوصيـة عرفاً، أو بدعوى تنقيح المناط.
أو يقال: إنّ الظاهر من قولـه: «فإذا حكم بحكمنا». إلغاء احتمال الخلاف من فتوى الفقيـه، إذ ليس المراد منـه «أنّـه إذا علمتم أنّـه حكم بحكمنا»، بل المراد «أنّـه إذا حكم بحكمنا بحسب نظره ورأيـه» فجعل نظره طريقاً إلى حكمهم، هذا.
ولكن يرد عليـه: أنّ إلغاء الخصوصيّـة عرفاً ممنوع، ضرورة تحقّق خصوصيّـة زائدة في باب الحكومـة ربّما تكون بنظر العرف دخيلـة فيها وهي رفع
1 ـ الكافي 1: 67 / 10، وسائل الشيعة 27: 136، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب11، الحديث1.
2 ـ تهذيب الأحكام 6: 303 / 846، وسائل الشيعة 27: 139، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب11، الحديث6.
(الصفحة460)
الخصومـة بين المتخاصمين، وهو لا يمكن نوعاً إلاّ بحكم الحاكم النافذ، وهذا أمر مرغوب فيـه لا يمكن فيـه الاحتياط ولا يتّفق فيـه المصالحـة نوعاً، وأمّا العمل بقول الفقيـه فربّما لا يكون مطلوباً ويكون المطلوب درك الواقع بالاحتياط أو الأخذ بأحوط الأقوال مع تعذّر الاحتياط التامّ.
فدعوى أنّ العرف يفهم من المقبولـة وأمثالها حجّيـة الفتوى لا تخلو من مجازفـة، وأوضح فساداً من ذلك دعوى تنقيح المناط القطعي.
وأمّا قولـه: «إذا حكم بحكمنا» لو سلّم إشعاره بإلغاء احتمال الخلاف فإنّما هو في باب الحكومـة، فلابدّ للسرايـة إلى باب الفتوى من دليل وهو مفقود، فالإنصاف عدم جواز التمسّك بأمثال المقبولـة للتقليد رأساً، وكما لا يجوز التمسّك بصدرها على جواز تقليد المفضول لا يجوز ببعض فقرات ذيلها على وجوب تقليد الأعلم لدى مخالفـة قولـه مع غيره.
ومنها; إطلاق ما في التوقيع: «وأمّا الحوادث الواقعـة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فانّهم حجّتي عليكم وأنا حجّـة اللّه»(1).
وتقريبـه: أنّ «الحوادث» أعمّ من الشبهات الحكميّـة، والرجوع إلى رواة الحديث ظاهر في أخذ فتواهم لا أخذ نفس الروايـة، ورواة الحديث كانوا من أهل الفتوى والرأي، كما أنّ قولـه: «فإنّهم حجّتي عليكم»، يدلّ على أنّ فتوى رواة الحديث حجّـة، كما أنّ فتوى الإمام حجّـة، فلا معنى لحجّيـة رواة الحديث إلاّ حجيّـة فتاويهم وأقوالهم، والحمل على حجّيـة الأحاديث المنقولـة بتوسّطهم خلاف الظاهر.
1 ـ كمال الدين: 484 / 4، وسائل الشيعـة 27: 140، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب11، الحديث9.
|
|