(الصفحة 289)
مقتضى الاحتياط اللزومي، الاّ ان الظاهر هو جريان البراءة، لانّه كما ان اصل التكليف و ثبوته يحتاج الى البيان و قيام الحجة من قبل المولي، لقبح العقاب من دون بيان، كذلك الخصوصيات المستلزمة للتضييق على المكلف، و ايقاعه في مشقة زائدة على اصل التكليف المعلوم بالاجمال. فانه مع عدم قيام الحجة عليها من قبل المولى يكون مقتضى حكم العقل هو البراءة، و لذا نقول بجريانها في الدوران بين الاقل و الاكثر الارتباطي، فاذا علم بوجوب صلاة الجمعة في يومهاو لكن شك في ان وجوبها هل يكون بنحو التعيين او التخيير بينها و بين صلاة الظهر؟ تجري البراءة، لان خصوصية الجمعة و تعينها امر زائد على اصل التكليف المعلوم بالاجمال، و مع عدم قيام الحجة عليها تجري البراءة عقلا.
و قد انقدح من جميع ما ذكرنا: ان مقتضى التحقيق في المسألة ما ذهب اليه المشهور، من دون فرق بين ما كان المستند هي الادلة اللفظية، او الاصول العمليّة.
ثم انّ السيد (قدس سره) في العروة، بعد ان اختار خلاف المشهور ذكر في ذيل كلامه: «بل يمكن ان يقال: ان محلّ كلامهم صورة حصول الاستطاعة بعد الخروج عنها ـ اي عن مكّة ـ و امّا إذا كان مستطيعا فيها قبل خروجه منهافيتعين عليه فرض اهلها».
الفرضين، بل كون الفرض الثاني، و هي الاستطاعة في مكة قبل خروجه منها، هو الفرض الظاهر منهما، خصوصا مع ملاحظة ان تحقق الاستطاعة في السفر و بعد الخروج في غاية البعد، سيّما في تلك الازمنة.
و بالجملة: لا ينبغي الاشكال في اطلاق السؤال في الروايتين و ترك الاستفصال في الجواب، فلا يبقى مجال للتفصيل اصلا، و ان كان مراده هو
(الصفحة 290)مسألة 3 ـ الافاقي إذا صار مقيما في مكّة: فان كان ذلك بعد استطاعته و وجوب التمتع عليه، فلا اشكال في بقاء حكمه، سواء كانت اقامته بقصد التوطن او المجاورة، و لوبازيد من سنتين. و امّا لو لم يكن مستطيعا ثم استطاع بعد اقامته في مكّة، فينقلب فرضه الى فرض المكيّ بعد الدخول في السنة الثالثة، لكن بشرط ان تكون الاقامة بقصد المجاورة، و امّا لو كان بقصد التوطن فينقلب بعد قصده من الاوّل. و في صورة الانقلاب يلحقه حكم المكي بالنسبة الى الاستطاعة ايضا، فتكفي في وجوبه استطاعته منها، و لا يشترط فيه حصولها من بلده. و لو حصلت الاستطاعة بعد الاقامة في مكّة، قبل مضي السّنتين، لكن
التفصيل بلحاظ الاصل العملي، نظرا الى انه في صورة الاستطاعة في مكّة، كان الواجب عليه غير التمتع، لانه صار مستطيعا و هو من اهل مكة غير خارج منها، و مقتضى الاستصحاب بقاء هذا الوجوب بخلاف ما إذا استطاع في خارجها، فانه يشك من الاوّل في ان الواجب هل هو ما يشمل التمتع او ما لا يشمله؟ فتجري البراءة او الاشتغال على الخلاف، و لا مجال للاستصحاب، و قد صرّح بهذا الفرق بعض الاعلام، بناء على جريان الاستصحاب في الاحكام الكلية، على خلاف مبناه.
فيمكن الايراد عليه حينئذ ايضا: بعدم وضوح كون الحالة السابقة المتيقنة في صورة الاستطاعة في مكة، هو وجوب غير التمتع، لاحتمال كون هذا الوجوب مشروطا ببقائه فيها و عدم خروجه عنها الى بعض الامصار، بالنحو المذكور في سؤال الرّواية. غاية الامر، تخيله كون الواجب هو غير التمتع.
و بعبارة اخرى: لو كان الحكم في صورة الاستطاعة في مكة و الخروج الى بعض الامصار، هو تبدل الواجب احتمالا بعد كونه هو غير التمتع، لكان للاستصحاب المذكور مجال. و امّا لو كان الحكم هو التخيير بين الانواع، احتمالا من اول الامر، بحيث كان الخروج كاشفا عن التخيير من اوّل الامر، فلا مجال للاستصحاب، كما لا يخفى. و يجري مثل ذلك في تبدل التمتع الى غيره كالحائض في بعض الموارد.
فتدبر.
(الصفحة 291)بشرط وقوع الحج على فرض المبادرة اليه قبل تجاوز السنتين. فالظاهر انه كما لو حصلت في بلده، فيجب عليه التمتع، و لو بقيت الى السنة الثالثة او ازيد. و امّا المكيّ إذا خرج الى سائر الامصار مجاورا لها، فلا يلحقه حكمها في تعين التمتع عليه، الاّ إذا توطن و حصلت الاستطاعة بعده، فيتعين عليه التمتع، و لو في السنة الاولى1 .
1 - الكلام في هذه المسألة يقع في مقامين.
المقام الاوّل: في الافاقي إذا صار مقيما في مكة، و فيه فرضان: الاوّل: ما إذا كان ذلك بعد الاستطاعة في وطنه و وجوب التمتع عليه، و نفى في المتن الاشكال ـ تبعا للسيّد في العروة ـ في بقاء حكمه، سواء كانت اقامته بقصدالتوطن او المجاورة، و لو بأزيد من سنتين. و قال في الجواهر: «بلا خلاف اجده فيه نصّا و فتوى، بل لعلّه اجماعي، بل قيل: انه كذلك للاصل و غيره. فما في المدارك من التأمل فيه في غيره محلّه».
اقول: لا اشكال في عدم انتقال فرضه عن التمتع الى غيره بمجرد الاقامة مع عدم قصد التوطن، و عدم تحقق مجاورة سنتين، كاملتين، لعدم ثبوت ما يوجب الانتقال بوجه، لانه لم يخرج عن عنوان: من لم يكن اهله حاضري المسجد الحرام، و لا يشمله النصوص الاتية، التي موردها اقامة سنتين، و المفروض تحقق الاستطاعة فيوطنه، فالواجب عليه هو التمتع.
و امّا مع قصد التوطن او المجاورة بالمدة المذكورة، فمقتضى تبدل العنوان و انقلابه في الاوّل، هو تبدل فرضه الى غير التمتع، لانه بذلك صار اهله حاضري المسجد الحرام، و لا و دلالة في الآية على انّ الملاك هو زمان الاستطاعة، فانها شرط لاصل وجوب الحج و توجه التكليف، و امّا الخصوصية النوعية، فهي مرتبطة بزمان الامتثال و وقت العمل، فمقتضى الآية حينئذ هو التبدل مع قصد التوطن، كما ان
(الصفحة 292)
مقتضى اطلاق الروايات اطلاق الاتية الواردة في اقامة سنتين، و كونها موجبة لصيرورة المقيم من اهل مكة، و انه لا متعة له، عدم الفرق بين حصول الاستطاعة قبل زمن الاقامة، او في زمانها على ما ذكره صاحب الحدائق.
نعم، في مقابل ما ذكر من الآية و اطلاق الرواية، امران:
احدهما: الاجماع، الذي احتمله صاحب الجواهر، بل حكاه عن غيره، و من المعلوم: ان اصله محل اشكال، و الاجماع المنقول ليس بحجة، و على تقديره تكون اصالته مخدوشة، لاحتمال كون المدارك للمجمعين هو الاصل او غيره.
ثانيهما: الاصل، الذي يكون المراد به هو الاستصحاب. و يرد عليه، ما ذكرناه في ذيل المسألة السابقة، من: عدم ثبوت الحالة السابقة المتيقنة، و بما ذكرنا ينقدح: ان تأمل صاحب المدارك يكون في محله.
الفرض الثاني: ما إذا لم يكن مستطيعا ثم استطاع بعد اقامته في مكّة: و لااشكال و لا خلاف في عدم تحقق الانقلاب بسبب الاقامة بمجرّدها، كما انه لا اشكال و لا خلاف في ناحية الاثبات، و هو تحقق الانقلاب و الانتقال بسببها في الجملة، و انما الخلاف في الحدّ الذي يتحقق به ذلك. و الاقوال في هذه الجهة لا تتجاوز عن ثلاثة:
الاوّل: ما نسبه غير واحد الى المشهور، و ربما عزى الى علمائنا، عدا الشيخ، كما في الجواهر، و هو: انّ الحدّ انما هو بعد الدخول في السنة الثالثة و المجاوزة عن السنتين.
الثاني: انه بعد الدخول في السنة الثانية، و هو محكي عن ظاهر الدروس، قال فيها: «و لو اقام النائي بمكة سنتين فرضه اليها في الثالثة كما في المبسوط و النهاية، و يظهر من اكثر الروايات: انه في الثانية» فان ظاهرها ترجيح روايات السنّة. و اختاره كاشف اللثام و حمل الصحيحتين عليها، و تبعهما صاحب الجواهر
(الصفحة 293)
و حكى عن الصدوق في المقنع: العمل ببعض هذه الروايات.
الثالث: انه بعد تمام ثلاث سنين و الدخول في الرابعة، و قد نسب هذا القول الى الشيخ في المبسوط و النهاية. و حكى هذا القول عن السرائر ايضا، و سيأتي ما هو التحقيق في النسبة الى الشيخ (قدس سره).
هذا، و يدلّ على القول المشهور صحيحة زرارة، عن ابي جعفر (عليه السلام) قال: من اقام بمكة سنتين فهو من اهل مكة لا متعة له، فقلت لابي جعفر (عليه السلام): ارأيت ان كان له اهل بالعراق و اهل بمكة؟ قال: فلينظر ايّهما الغالب عليه، فهومن اهله.(1) و صحيحة عمر بن يزيد، قال: قال ابو عبد الله (عليه السلام): المجاور بمكّة يتمتّع بالعمرة الى الحج الى سنتين، فاذا جاوز سنتين كان قاطنا و ليس له ان يتمتّع.(2) و دلالتهما على لزوم اكمال سنتين و الدخول في السنّة الثالثة، خصوصاالصحيحة الثانية واضحة. نعم، يظهر من الجواهر اختلاف النسخة في قوله: فاذا جاوز، و ان في بعض النسخ: الراء مكان الزاء، و يؤيده عنوان المجاور في صدر الرّواية. و عليه، فلا تكون لها خصوصية من جهة الدلالة على لزوم اكمال سنتين، كما ان ظهور كلمة «سنتين» في سنتين كاملتين معهودتين، لا ينبغي الارتياب فيه، خصوصا مع ملاحظة عنوان الاقامة و المجاورة، و اخذه موضوعا قبل الحكم بانه لا متعة له.
و امّا ما يدلّ على القول الثاني، فعدّة روايات:
منها: صحيحة الحلبي، قال: سألت ابا عبد الله (عليه السلام): لاهل مكّة ان يتمتّعوا؟ قال: لا، قلت: فالقاطنين بها؟ قال: إذا اقاموا سنة او سنتين صنعوا كما
- 1 ـ وسائل ابواب اقسام الحج الباب التاسع ح ـ 1.
- 2 ـ وسائل ابواب اقسام الحج الباب التاسع ح ـ 2.