(الصفحة 442)
اعتمر تسع عمر، و لكن المذكور في شرح الفقيه للمولى المجلسي الاوّل (قدس سره) انه من سهو النساخ، ثم قال: «و ان احتمل ان يأول هذا الخبر ـ يعني ما يدل على الثلاث ـ و غيره من الاخبار: بان العمرة التي وقعت في ذي القعدة كانت ثلاث، لكن خبر التسع لم يوجد الاّ في هذا الكتاب، و السّهو و التصحيف فيه غير عزيز».
و عليه، فالظاهر انّها كانت ثلاث، و التأويل المذكور لا يلائم ظاهر الروايات المتقدمة، كما لا يخفى.
و امّا من الجهة الثانية: فالمراد بعمرة الحديبية، هي العمرة التي اعتمر لها رسول الله (صلى الله عليه وآله) و جمع كثير من اصحابه، و لكنّهم لما وصلوا الى الحديبية منعهم المشركون من الدخول الى مكّة لقضاء مناسكها، و وقع بينهم عقد الصلح، الذي اشتهر بصلح الحديبية، و من جملة موادّها: ان يرجعوا الى المدينة و يعتمروا في السنّة اللاحقة، و لا يبقوا في مكة ازيد من ثلاثة ايام، فرجعوا الى المدينة من دون ان يدخلوا مكة و يتمّوا العمرة، و في بعض الروايات: ان رسول الله (صلى الله عليه وآله) حين صدّ بالحديبية، قصّر و احلّ و نحر ثم انصرف منها. ثم انه في السنة التالية اعتمر رسول الله و جماعة من اصحابه، و دخلوا مكّة و لم يبقوا فيها ازيد من ثلاثة ايام، و اشتهرت هذه العمرة بعمرة القضاء، لكونها قضاء عما فات في السنة السّابقة، ثم انه وقع فتح مكّة في السنّة الثامنة، في شهر رمضان، ثم بعد فتح مكّة وقعت غزوة حنين ـ و هو واد بين مكّة و الطائف ـ و بعد غلبة النبي (صلى الله عليه وآله)فيها و الرجوع عنه، احرم من الجعرانة فدخل مكة معتمرا، بعد ان لم يكن محرما اثناء فتح مكة لدخولها، لكون مثله من الموارد، التي يجوز الدخول بمكة من غير احرام.
و امّا الحج فلم يتحقق من النبي (صلى الله عليه وآله) بعد الهجرة الاّ مرة واحدة، و هي حجة الوداع، و قد ظهر مما تقدم ان حجه (صلى الله عليه وآله) كان حج القران، لاشتماله على سوق الهدي، كما انه مرّ: ان التمتع صار مشروعا بعد قدوم النبي (صلى الله عليه وآله) مكّة في
(الصفحة 443)
حجة الوداع، و امر الرسول (صلى الله عليه وآله): بان كل من لم يسق الهدي يجب عليه العدول من حج الافراد الى عمرة التمتّع و عليه، فلم يتحقق من نفسه (صلى الله عليه وآله) حج التمتع و لو مرة واحدة، كما صرح به صاحب الجواهر، و يدل عليه الروايات المتقدمة الواردة في هذا المجال.
و امّا من الجهة الثالثة: فالاشكال فيها من وجهين:
الأوّل: ظهور الرواية، في: ان احرام عمرة الحديبية، التي كانت هي اوّل عمره (صلى الله عليه وآله) بعد الهجرة، كان من عسفان، الذي يكون الفاصل بينه و بين مكة مرحلتين، و لا يكون ميقاتا و لا ادني الحلّ فما، الوجه في احرامه منه؟ !كما هو ظاهر الروّاية.
الثاني: ظهورها، في: ان احرام عمرة القضاء كان من الجحفة، مع ان الظاهرانه (صلى الله عليه وآله) كان قاصدا للاحرام و العمرة من المدينة. و عليه، فما الوجه في تأخيره الاحرام عن مسجد الشجرة، مع انه لا يجوز التأخير من الميقات، الذي يمرّ عليه الى ميقات اخر، و لو كان في نفس هذا الطريق؟ ! و اجاب عن الاوّل بعض الاعلام، تبعا للفيض الكاشاني في الوافي: بانه لا يبعد ان يكون المراد بالاهلال هو رفع الصوت بالتلبية، كما هو معناه لغة، يقال: اهل بذكر الله: رفع به صوته، و اهلّ المحرم بالحج و العمرة: رفع صوته بالتلبية، و اهلّوا الهلال و استهلوه: رفعوا اصواتهم عند رؤيته، و اهلّ الصبيّ: إذارفع صوته بالبكاء. و عليه، فالمعنى: انّه (صلى الله عليه وآله) رفع صوته بالتلبية في عسفان، و لا ينافي ذلك الاحرام من مسجد الشجرة.
و يرد عليهما: مضافا الى ظهور المرسلة، في: ان احرام عمرة القضاء كان من الجحفة، و ظهور الصحيحة كبعض الروايات الاخر، في: ان العمرة الاخيرة كان احرامها من الجعرانة، و لا يلائم ذلك مع كون المراد من الاهلال في عمرة
(الصفحة 444)
هو رفع الصوت بالتلبية، ان التعرض لمسألة رفع الصوت، الذي هو امرمستحب، لا مدخلية له في صحة العمرة و تماميتها مع عدم التعرض لمبدأ الاحرام و وقته، مع دخالته في الصحة، و ان كان اصل العمرة مستحبّا لا يكاد يجتمع مع غرض الرواية، الذي سيقت لاجلها، كما لا يخفى. هذا، مع ان الاهلال ـ على ما يستفاد من معناه اللغوي المتقدم ـ هو رفع الصوت، و امّا بماذا يرفع؟ فيتوقف على ذكره، ضرورة انه ليس معناه رفع الصوت بالتلبية، بل فيما إذا اسند الى المحرم بالحج او العمرة، كما في العبارة المذكورة في اللغة، لا في مثل الرواية، الذي لم يسند الى شيء، فتدبّر. مع ان اللازم ذكر كلمة «الباء» مكان كلمة «من»، و الرواية مشتملة على هذه الكلمة، و ظاهرها: ان شروع رفع الصوت بالتلبية كان من عسفان، فلم يقع التعرض لانشائه و عليه، فصرف الرواية عن ظهورها في كون احرام عمرة الحديبية واقعا من عسفان، ممّا لا وجه له، و الالتزام بعدم الاهتداء الى وجه عمله (صلى الله عليه وآله) اولى من الصرف المذكور.
و يمكن ان يقال ـ و ان كان بعيدا ـ: ان الوجه في ذلك هو ان عسفان، و ان لم يكن بنفسه ميقاتا، لكنّه يحاذي بعض المواقيت، الذي يكون الفصل بينه و بين مكّة مرحلتين ايضا. نعم، يبقى الاشكال من الوجه الثاني، الذي يرجع الى التأخير عن مسجد الشجرة، مع انّه اوّل المواقيت، بالاضافة الى من يخرج من المدينة قاصدا للحج او العمرة.
و اجاب عن الثاني بعض الاعلام ايضا، بما يرجع الى ان المناط في عمرة القضاء ما يدل عليه الصحيحة، و التعبير فيها انما هو بالاهلال، الذي يراد به ايضا رفع الصوت بالتلبية، و لا ينافي كون الاحرام من مسجد الشجرة.
و يرد عليه، مضافا الى الايرادات المتقدمة: ان مرسلة الصدوق بالنحو المذكورمعتبرة على ما هو التحقيق، و التعبير فيها انّما هو بالاحرام.
(الصفحة 445)
و يمكن ان يجاب عن هذا الاشكال: بان التأخير عن مسجد الشجرة، لعلّه كان لاجل ضرورة اقتضت جواز التأخير، كما ان العادة قاضية بوجودها في العمرة الاولى، مع عدم وضوح ما ينتهي اليه حال المسلمين في تلك العمرة.
و امّا من الجهة الرابعة: التي هي العمدة في المقام: فلا شبهة في دلالة الرواية على انه (صلى الله عليه وآله) اعتمر في العمرة الاخيرة و احرم من الجعرانة، مع انه ادني الحلّ، و ميقات اهل الطائف هو قرن المنازل، فعدم احرامه من ميقاتهم و احرامه من ادنى الحلّ دليل على جواز الاحرام من ادنى الحلّ للعمرة المفردة، و عدم لزوم الاحرام من المواقيت المعروفة، مع عدم كونه مسبوقا بحج القران او الافراد و عدم كون الخروج من مكة بقصد الاعتمار، بل كما عرفت: كان الخروج لاجل غزوة حنين. انما الاشكال في انه هل يمكن ان يستفاد منه الجواز من ادنى الحلّ للنائي، الذي كان خروجه عن وطنه بقصد الاعتمار و العمرة المفردة، كالايرانيين الذين يدخلون جدّة اوّلا، فيجوز لهم الاحرام من الحديبية، او ان المستفاد منه الجواز لخصوص من بدى له العمرة في الاثناء، فلا يجوز لمثلهم الاحرام منها، بل لا بد من الاحرام من مسجد الشجرة او الجحفة، كما في عمرة التمتع؟ الظاهر هو الاوّل، فانه لا يفهم العرف منه الاختصاص بوجه.
و قد تحصّل من جميع ما ذكرنا في ميقات العمرة المفردة: انّ المعتمر بها على اقسام: 1 ـ من كان قاصدا للاتيان بها بعد حج القران او الافراد، و لا شبهة في ان وظيفته الخروج الى ادنى الحلّ، بل في محكي كشف اللثام: لا نعلم في ذلك خلافا. بل عن المنتهى نفي الخلاف فيه، و يدلّ عليه: ما ورد في قصّة حج عائشة، و انه امرها رسول الله (صلى الله عليه وآله)بالخروج الى التنعيم لاحرام العمرة المفردة، و ذكروا: انه يستحب ان يكون من الجعرانة او من الحديبية او من التنعيم، و عن التذكرة:
(الصفحة 446)
ينبغي الاحرام من الجعرانة، فمن فاتته فمن التنعيم، فمن فاته فمن الحديبية، و لكن ذكر في الجواهر: ان استفادة الترتيب المزبور من النصوص لا تخلو من اشكال.
و الظاهر انه في هذه الصورة يجوز له الخروج الى احد المواقيت، بل لعلّه افضل، لطول المسافة و الزّمان. و عليه، فادنى الحل رخصة لا عزيمة.
2 ـ من كان قاصدا للاتيان بها، و كان في مكّة، و لم يكن هناك حجّ القران او الافراد، كما إذا اراد المكيّ الاتيان بالعمرة الرجبيّة ـ مثلا ـ و الظاهر انه مثل الصورة السّابقة في لزوم الخروج الى ادنى الحلّ، و عدم جواز الاحرام لها من مكة او الحرم. نعم، ربما يتوهم دلالة صحيحة عمر بن يزيد المتقدمة على عدم لزوم الخروج الى ادنى الحل، حيث انه قال ابو عبد الله (عليه السلام) فيها: من اراد ان يخرج من مكّة ليعتمر، احرم من الجعرانة او الحديبية او ما اشبهها (اشبههما)(1). نظرا الى ان المستفاد منها ان المكي ان اراد الخروج من مكة لأن يعتمر يحرم من ادنى الحلّ، فاذا لم يرد الخروج من مكة فلا يلزم الاعتمار من ادنى الحلّ، بل يكفي الاحرام من مكة.
و لكن الظاهر بطلان هذا التوهم، و ان المتفاهم العرفي من الصحيحة انّ المعلق على الارادة انّما هو نفس الاعتمار، و امّا مع ارادته فلا بد من الخروج من مكة و الاحرام من ادنى الحلّ، و لا يستفاد منها امكان تحقق الاعتمار، سواء ارادالخروج من مكة ام لم يرد، فتأمل.
3 ـ النائي الذي يكون في طريقه الى مكّة: احد المواقيت او ما بحكمها، كالمدني الذي اراد العمرة الرجبيّة ـ مثلا ـ، و لا شبهة في ان وظيفته الاحرام من المواقيت
- 1 ـ وسائل ابواب المواقيت الباب الثاني و العشرون ح ـ 1.