( الصفحه 154 )
لأخّرت العتمة إلى ثلث الليل أو نصفه ـ على الاختلاف ـ فإنّ المستفاد منه انّ الإتيان بالعشاء في آخر وقته أفضل فلا يجوز جعل زوال الحمرة وقت الفضيلة .
أقول : ويمكن الايراد عليه بأنّ الجمع بأحد الوجهين الأوّلين يخرج الطائفتين عن عنوان المتعارضين لأنّ الجمع الدلالي مرجعه إلى إمكان الجمع وثبوت التوافق فلا يبقى موضوع التعارض وهذا بخلاف الحمل على التقية فإنّه من أحكام التعارض ومتفرّع على عدم إمكان الجمع . وبعبارة اُخرى لا يبقى مجال بعد إمكان الجمع الدلالي بأحد الأوّلين للحمل على التقية الذي مورده ثبوت التعارض وعدم إمكان الجمع ، وعليه فلا وجه لترجيح الوجه الثالث عليهما ، بل المتعيّن الالتزام بأحد الأوّلين فتدبّر .
ويمكن دفع الإيراد بأنّ التأمّل في الطائفة الثانية يقضي بعدم إمكان حملها على بيان وقت الفضيلة فإنّه كيف يمكن حمل السؤال في رواية عمران بن علي الحلبي بقوله : متى تجب العتمة ، الظاهر في وقت ثبوت التكليف بالعشاء على كون المراد وقت الفضيلة إذ ليس المذكور هي كلمة «الوقت» حتى تحمل على كون المراد وقت الفضيلة ، بل السؤال إنّما هو عن زمان مجيء التكليف بهذه الفريضة الإلهية ، كما انّ السؤال في رواية بكر بلحاظ كونه مسبوقاً بالسؤال عن وقت صلاة المغرب والجواب بأنّه إذا غاب القرص لا يمكن حمله على وقت الفضيلة ، بل الجواب عن السؤال الأوّل بغيبوبة القرص ربّما يشهد على صدوره تقية ، كما انّ صحيحة بكر قرائن التقية فيها واضحة وحملها على وقت الفضيلة لا يجتمع مع كونه مسبوقاً بالسؤال عن وقت المغرب والجواب عنه ، نعم نفس ذلك الجواب بلحاظ الاستشهاد بقوله تعالى وعدم بيان ابتداء الوقت بنحو الوضوح ظاهرة في الصدور تقية وإن كان يبعد الحمل على التقية تعرّض الإمام (عليه السلام) لبيان وقت العشاء الآخرة
( الصفحه 155 )
أوّلاً وآخراً مع كون مورد السؤال هو وقت المغرب فقط إلاّ أن يقال : إنّ خصوصية الموقعية لعلّها كانت مقتضية لشدّة التقية والتعرّض لبيان ما لم يكن مورداً للسؤال أيضاً .
وكيف كان فالظاهر انّ حمل هذه الطائفة على بيان وقت الفضيلة لا يجتمع مع تعبيراتها والخصوصيات الواقعة فيها ، كما انّ حمل الطائفة الاُولى على بيان وقت المضطرّ ممّا لا وجه له مع كثرتها وملاحظة سياقها كما لايخفى . وعليه فيتعيّن الوجه الأخير الذي قوّاه الاستاذ (قدس سره) ومرجعه إلى أنّ أوّل الوقت مطلقاً هو غروب الشمس ومضي مقدار صلاة المغرب ، وامّا وقت الفضيلة فسيأتي التعرّض له إن شاء الله تعالى .
الجهة الثانية : في آخر وقت العشاء وأقوال علماء العامّة فيه أربعة : ربع الليل مطلقاً واختاره إبراهيم النخعي والتفصيل بين النصف للمختار وطلوع الفجر لغيره واختاره أبو حنيفة وجماعة ، والامتداد إلى الفجر مطلقاً على ما حكي عن ابن عبّاس وعطا وطاووس ومالك وعكرمة ، والامتداد إلى الثلث للمختار والفجر للمضطرّ ذهب إليه الشافعي في القديم .
وامّا علمائنا الإمامية ـ رضوان الله عليهم أجمعين ـ فأقوالهم خمسة ظاهراً : الامتداد إلى النصف مطلقاً واختاره السيّد وابن إدريس والحلبي وجماعة ، وإلى الثلث كذلك على ما حكي عن المفيد والشيخ في أكثر كتبه ، وإلى الثلث للمختار والنصف للمضطرّ على ما صرّح به جماعة وإلى الربع مطلقاً على ما حكي عن ابن أبي عقيل وإلى الفجر لخصوص المضطرّ على ما اختاره المحقّق في المعتبر ويظهر من الفقيه وحكاه الشيخ عن بعض أصحابنا ومنشأ الخلاف اختلاف الروايات الواردة في الباب ولكنّه لابدّ قبل ملاحظتها من النظر إلى الآية الشريفة ومقدار مفادها
( الصفحه 156 )
وهي قوله تعالى : }أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل{ ، بعد كون المراد من الغسق هو الانتصاف بلحاظ كونه زمان شدّة ظلمة الليل كما عرفت ، فنقول : الآية ظاهرة بل صريحة في امتداد وقت العشاء لكونها آخر الصلوات الأربعة التي تكون الآية بصدد بيان أوقاتها كما دلّت عليه الرواية المعتبرة إلى نصف الليل ، وعليه فلو كان هناك رواية دالّة على امتداد وقتها إلى الفجر مطلقاً لا يجوز الأخذ بها لكونها مخالفة للقرآن ولا يمكن الجمع بينهما بوجه يكون إطلاقها محفوظاً ، كما انّه لو كان هناك رواية دالّة على الامتداد إلى الثلث مطلقاً أو إلى الربع كذلك لا يجوز الأخذ بها لما ذكرنا من عدم إمكان التوفيق بينها وبين الآية ، كما انّه لو كان مفاد الرواية الامتداد إلى أحدهما لخصوص المختار لا يسعنا أيضاً الأخذ بها لعدم إمكان حمل الآية الواردة لإفادة أمر عام كلّي على كون موردها للمضطرّ ومنه يظهر انّه لا يمكن الجمع بين مثل الرواية والآية بحمل الاُولى على المختار والثانية على المضطرّ ، نعم لو كان هناك رواية دالّة على الامتداد إلى الفجر المضطرّ لا تكون تلك الرواية مخالفة إلاّ لإطلاق الآية ، ويمكن تقييدها بالمختار ولا مانع من اختصاص موردها به كما انّه لو كان مفاد الرواية الامتداد إلى الفجر مطلقاً لأمكن الجمع بينها وبين الآية يحمل الاُولى على صورة الاضطرار والثانية على الاختيار كما هو واضح .
وكيف كان فالآية في نفسها دليل بالانتصاف ويشهد له أيضاً روايات متكثّرة :
كمرسلة الصدوق قال : قال الصادق (عليه السلام) : إذا غابت الشمس فقد حلّ الافطار ووجبت الصلاة وإذا صلّيت المغرب فقد دخل وقت العشاء الآخرة إلى انتصاف الليل .
والمراد من قوله (عليه السلام) : إذا صلّيت المغرب هو مضى مقدار اداء صلاة المغرب لا الإتيان بها خارجاً بقرينة الرواية الآتية .
( الصفحه 157 )
ومرسلة داود بن أبي يزيد ـ وهو داود بن فرقد ـ عن بعض أصحابنا عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : إذا غابت الشمس فقد دخل وقت المغرب حتى يمضي مقدار ما يصلّي المصلّي ثلاث ركعات فإذا مضى ذلك فقد دخل وقت المغرب والعشاء الآخرة حتى يبقى من انتصاف الليل مقدار ما يصلّي المصلّي أربع ركعات ، وإذا بقى مقدار ذلك فقد خرج وقت المغرب وبقى وقت العشاء إلى انتصاف الليل .
ورواية بكر بن محمد عن أبي عبدالله (عليه السلام) المشتملة على قوله (عليه السلام) : وأوّل وقت العشاء ذهاب الحمرة وآخر وقتها إلى غسق الليل نصف الليل .
ورواية أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : لولا انّي أخاف أن أشقّ على اُمّتي لأخّرت العتمة إلى ثلث الليل وأنت في رخصة إلى نصف الليل وهو غسق الليل فإذا مضى الغسق نادى ملكان من رقد عن صلاة المكتوبة بعد نصف الليل فلا رقدت عيناه .
ورواية معلى بن خنيس عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : آخر وقت العتمة نصف الليل .
ورواية الحلبي عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : العتمة إلى ثلث الليل أو إلى نصف الليل وذلك التضييع .
ورواية عبيد بن زرارة ـ على نقل الشيخ (قدس سره)ـ عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : إذا غربت الشمس دخل وقت الصلاتين إلى نصف الليل .
وامّا ما يدلّ على الربع فهو ما ورد في فقه الرضا من قوله : ووقت العشاء الآخرة الفراغ من المغرب ثم إلى ربع الليل ، وقد رخص للعليل والمسافر فيهما إلى انتصاف الليل وللمضطرّ إلى قبل طلوع الفجر . ولكن عرفت انّ مثلها مخالف للآية ولا يجوز الأخذ بها لعدم إمكان حمل الآية على كون موردها العليل والمسافر في مقابل المختار والمضطرّ ، مع أنّه لم تثبت كونه رواية ولم تثبت حجّية فقه الرضا بوجه .
( الصفحه 158 )
وامّا ما يدلّ على الثلث فمنها ما رواه الصدوق باسناده عن معاوية بن عمّار في رواية انّ وقت العشاء الآخرة إلى ثلث الليل . قال الصدوق : وكان الثلث هو الأوسط والنصف هو آخر الوقت .
ومنها رواية معاوية بن وهب عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : أتى جبرئيل رسول الله (صلى الله عليه وآله) بمواقيت الصلاة فأتاه حين زالت الشمس فأمره فصلّى الظهر ، ثم أتاه حين زاد الظلّ قامة فأمره فصلّى العصر ثمّ أتاه حين غربت الشمس فأمره فصلّى المغرب ثمّ أتاه حين سقط الشفق فأمره فصلّى العشاء ثمّ أتاه حين طلع الفجر فأمره فصلّى الصبح ثمّ أتاه من الغد حين زاد في الظلّ قامة فأمره فصلّى الظهر ثمّ أتاه حين زاد في الظل قامتان فأمره فصلّى العصر ثمّ أتاه حين غربت الشمس فأمره فصلّى المغرب ثمّ أتاه حين ذهب ثلث الليل فأمره فصلّى العشاء ثمّ أتاه حين نور الصبح فأمره فصلّى الصبح ثمّ قال : ما بينهما وقت .
أقول : ولا محيص عن حمل روايات الثلث على بيان آخر وقت الفضيلة; لأنّ الأخذ بإطلاقها والحكم بكونه آخر الوقت للمختار والمضطرّ لا يجتمع مع الآية الشريفة الدالّة على الامتداد إلى الانتصاف ، كما انّ حملها على بيان وقت المختار موجب لحمل الآية على مورد الاضطرار وهو لا يصحّ فكيف يمكن حمل الآية الدالّة على تشريع الصلاة وبيان مواقيتها على كون محطّ النظر فيها هي صورة الاضطرار فينحصر الطريق بحمل روايات الثلث على بيان آخر وقت الفضيلة ولا تنافي الآية ـ حينئذ ـ لظهورها في آخر وقت الاجزاء .
وامّا الأخبار الدالّة على الامتداد إلى الفجر ـ المتقدّمة في آخر وقت المغرب ـ فإن أريد استفادة الإطلاق منها امّا بدعوى دلالة بعضها عليه وامّا بدعوى إلغاء الخصوصية عن مواردها وهي النائم والناسي والحائض فهو لا يجتمع مع الآية