( الصفحه 230 )
المدينة : يا أبا جعفر ما لي لا أراك تتطوّع بين الأذان والإقامة كما يصنع الناس؟ فقلت : إنّا إذا أردنا أن نتطوّع كان تطوّعنا في غير وقت فريضة فإذا دخلت الفريضة فلا تطوّع .
وأورد عليها بأنّها بالدلالة على الجواز أولى من الدلالة على المنع; لأنّ مفادها انّه (عليه السلام) إنّما كان لا يتطوّع بين الأذان والإقامة ، وامّا قبلهما فلا . وبعبارة اُخرى ان ما لم يكن يأت به الإمام (عليه السلام) إنّما هو خصوص التطوّع بينهما لا مطلقاً ولو بعد دخول الوقت وقبلهما .
ويدفعه وضوح انّ الجواب لا يكون مفاده مجرّد عدم التطوّع بين الأذان والإقامة ، بل بيان قاعدة كلّية وهو كون تطوّعهم (عليهم السلام) في غير وقت فريضة ، نعم يمكن المناقشة في كون المراد من الوقت هو وقت الاجزاء ولكن الايراد لا يكون مبنيّاً على هذه المناقشة .
نعم ذكر سيّدنا العلاّمة الاستاذ (قدس سره) انّ الاستدلال بهذه الرواية مشكل لأنّها تتضمّن قضية في واقعة شخصية ولا يعلم المراد من الصلاة التي كان بناء الناس على الإتيان بها بين الأذان والإقامة و ـ حينئذ ـ فمن المحتمل أن يكون اعتقادهم على استحباب ركعتين مخصوصتين بين الأذان والإقامة في قبال سائر النوافل غير مشروعتين عندنا وحيث لم يكن للإمام ردّ السائل لكون ذلك المعنى أمراً مركوزاً عند الناس فأجاب بما يوافق مذهبهم تورية; لأنّهم رووا عن أبي هريرة إنّه إذا دخل الوقت فلا صلاة إلاّ المكتوبة ، مضافاً إلى أنّه لو سلم كون الركعتين من النوافل اليومية فيمكن أن يقال بعدم دلالة الرواية على المنع; لأنّ غاية مدلولها انّ بنائهم (عليهم السلام) على الإتيان بالنافلة قبلاً فلا يستفاد منها المنع ولكن ظاهر الذيل ينافي ذلك .
( الصفحه 231 )
هذه هي الروايات الدالّة على المنع وقد أفاد الاستاذ (قدس سره) : «انّ المراد بوقت الفريضة يحتمل أن يكون جميع الوقت الوسيع من أوّله إلى آخره ويحتمل أن يكون المراد به الوقت الذي لا تكون النافلة فيه مزاحمة للفريضة كالذراع والذراعين في الظهرين وسقوط الشفق في العشاء ويحتمل أن يكون المراد به الوقت الذي تنعقد فيه الجماعة لأجل المكتوبة كما انّ هنا احتمالاً رابعاً وهو أن يكون المراد به الوقت الذي يتعيّن فيه الإتيان بالفريضة لصيرورتها قضاء لو أخّرت عنه ، ولا إشكال في عدم كون المراد به هو الاحتمال الأخير لكون الروايات آبية عن الحمل عليه ، بل صريحة في خلافه ، كما انّ الظاهر بطلان الاحتمال الأوّل أيضاً; لأنّ أكثر روايات المنع قد وردت في خصوص الرواتب اليومية أو الأعمّ منها ولا يمكن حملها على خصوص النافلة المبتدئة و ـ حينئذ ـ بعدما استقرّ عمل النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمّة المعصومين (عليهم السلام) وكذا الصحابة بل أكثر الناس على الإتيان بالرواتب قبل الفريضة في نافلة الظهرين وقبل سقوط الشفق في نافلة المغرب وقبل طلوع الحمرة المشرقية في نافلة الصبح لا يبقى شكّ وارتياب في استحباب الإتيان بالنافلة الراتبة في أوّل الزوال ـ مثلاً ـ وكون جواز ذلك بل أفضليته من الاُمور المرتكزة عند الناس و ـ حينئذ ـ إذا ألقى إليهم هذه العبارات الدالّة على عدم جواز الإتيان بالنافلة في وقت الفريضة لا يفهمون منه عدم الجواز في وقت يصحّ فيه الإتيان بالفريضة ، بل لا يتبادر إلى أذهانهم إلاّ أوّل أوقات الفضيلة للفريضة التي تكون خاتمة الأوقات المضروبة للنوافل التي تزاحم فيها مع الفريضة و ـ حينئذ ـ يكون مدلول الروايات أخصّ من مدعى المانعين; لأنّ مدعاهم المنع في جميع الوقت الوسيع الذي يصحّ فيه الإتيان بالفريضة فلابدّ من التزامهم بالتخصيص فيها لخروج الرواتب عن هذا الحكم قطعاً ، وامّا بناء على ما ذكرنا يكون خروج
( الصفحه 232 )
الرواتب بنحو التخصّص إذ لا تعرض في الروايات لما قبل الذراع والذراعين ـ مثلاً ـ فلا دليل على المنع في غير الرواتب أيضاً .
وبالجملة استقرار عمل النبيّ (صلى الله عليه وآله) ومن بعده قرينة متصلة على أنّ المراد بوقت الفريضة ليس مجموع الوقت الوسيع من أوّله إلى آخره ، نعم يستفاد من روايات المنع ، منع الإتيان بالرواتب بعد دخول وقت الفضيلة للفريضة فيكون غيرها أولى بعدم الجواز» .
وذكر أيضاً في تأييد الاحتمال الثالث وهو أن يكون المراد بالوقت هو وقت انعقاد الجماعة للفريضة ما حاصله : «انّ التتبّع في الأخبار يعطي انّ المراد بالوقت في لسان الأخبار ليس خصوص ما هو المتبادر منه عند أذهاننا ويؤيّد ذلك مارواه العامّة عن أبي هريرة عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) انّه قال : إذا دخل الوقت فلا صلاة إلاّ المكتوبة ، والظاهر انّه ليس لهم في المسألة إلاّ هذه الرواية ولعلّها هي التي أشار إليها عمر بن يزيد فيما رواه الصدوق باسناده انّه سأل أبا عبدالله (عليه السلام) عن الرواية التي يروون انّه لا يتطوّع في وقت فريضة ما حدّ هذا الوقت؟ قال : إذا أخذ المقيم في الإقامة فقال له : إنّ الناس يختلفون في الإقامة فقال : المقيم الذي يصلّي معه» .
أقول : ويؤيّد ما أفاده في ترجيح الاحتمال الثاني وهو كون المراد وقت الفضيلة التعليل الوارد في بعض روايات نافلتي الظهرين الدالّة على بقاء مزاحمتهما إلى الذراع والذراعين وهو قوله (عليه السلام) : وإنّما جعل الذراع والذراعان لئلاّ يكون تطوّع في وقت فريضة . مع أنّ من المعلوم دخول وقت الاجزاء بالزوال ووقوع النافلة في أوّل هذا الوقت فالمراد هو وقت الفضيلة الذي لا تكون النافلة فيه مزاحمة للفريضة .
ولكن يبعده خلوّ بعض الروايات الناهية عن كلمة «الوقت» حتى تقبل الحمل
( الصفحه 233 )
على وقت الفضيلة كصحيحة زرارة المتقدّمة الواردة في بيان وجوب القضاء المشتملة على قوله (عليه السلام) : ولا يتطوّع بركعة حتّى يقضي الفريضة كلّها ، بناء على ما رجّحناه من كونه حكماً مستقلاًّ غير متفرّع على المضايقة وجارياً في الفريضة الادائية بالأولوية أو بإلغاء الخصوصية فإنّها ظاهرة في النهي عن التطوّع ما دام كون الذمّة مشغولة بفريضة .
ثمّ إنّ الظاهر انّه لا مغايرة بين الاحتمالين : الثاني والثالث; لأنّ وقت الفضيلة كان هو وقت انعقاد الجماعة وقد مرّت جملة من الروايات الدالّة على أنّ جدار مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان قامة وإذا مضى منه ذراع صلّى الظهر وإذا مضى منه ذراعان صلّى العصر ومرّ أيضاً انّ الذراع والذراعين هما منتهى وقت يزاحم فيه النافلة الفريضة ، وعليه فيمكن أن يكون تفسير الوقت بذلك أي بوقت انعقاد الجماعة كما في رواية عمر بن يزيد المتقدّمة لأجل كونه هو وقت الفضيلة فلا معارضة بينها وبين الروايات الناظرة إلى هذا الوقت .
نعم يظهر من موثقة إسحاق بن عمّار انّ انعقاد الجماعة ولو في وقت الفضيلة له مدخلية في ترك التطوّع وانّه ما لم تنعقد في ذلك الوقت بالنافلة حيث قال : قلت : اُصلّي في وقت فريضة نا فلة؟ قال : نعم في أوّل الوقت إذا كنت مع إمام نقتدي به فإذا كنت وحدك فابدأ بالمكتوبة . فإنّ ظاهرها انّه مع انتظار الجماعة في وقت الفضيلة لا مانع من التطوّع بخلاف المنفرد الذي لا يكون منتظراً لها فإنّه يبدأ بالمكتوبة بمجرّد دخول وقت الفضيلة ، وعليه فالنهي عن التطوّع إنّما هو لرعاية وقت الفضيلة بالإضافة إلى المنفرد أو هو مع الجماعة بالإضافة إلى من يكون منتظراً للجماعة .
ثمّ إنّه ظهر ممّا ذكرنا انّ النهي عن التطوّع في وقت فضيلة الفريضة إنّما هو
( الصفحه 234 )
للإرشاد إلى أنّ الأفضل ـ حينئذ ـ البدئة بالمكتوبة بمعنى انّه حيث كانت ذمّة المكلّف مشغولة بما هو أهمّ وأكمل فالأحرى تقديم الأهمّ وعدم تأخيره فالنهي إنّما هو لمراعاة فضل المبادرة إلى الفريضة .
وامّا احتمال أن يكون النهي فيها للتحريم بسبب انطباق عنوان محرم على النافلة في ذلك الوقت مطلقاً راتبة كانت أو غيرها أو أن يكون النهي فيها للإرشاد إلى فساد النافلة في ذلك الوقت أو يكون النهي نهياً تنزيهياً بسبب انطباق عنوان ذي حزازة ومنقصة على النافلة فيه أو يكون للإرشاد إلى أقلّية الثواب وانّ النافلة المأتي بها في ذلك الوقت تكون أقلّ ثواباً بالنسبة إلى ما أتى بها في غير هذا الوقت فكلّها مخالف للظاهر ولفهم العرف ، بل الظاهر انّه للإرشاد إلى درك فضيلة الوقت أو هي مع الجماعة كما عرفت .
وقد تحصل من جميع ما ذكرنا انّ الروايات الدالّة على المنع أكثرها بل كلّها إلاّ القليل واردة في النافلة الراتبة التي يراد إتيانها في وقت الفضيلة وإنّ النهي فيها إنّما هو للإرشاد من دون أن يكون هنا تحريم تكليفي أو وضعي أو كراهة وحزازة فلا دلالة لشيء منها على النهي فيما هو محلّ الكلام وهي النافلة المبتدئة أو مثلها في مطلق وقت الأجزاء قبل الإتيان بالفريضة ، نعم بقى مثل صحيحة زرارة المتقدّمة الظاهرة في النهي عن التطوّع ولو بركعة حتّى يقضي الفريضة كلّها هذا تمام الكلام في الطائفة الدالّة على المنع .
الطائفة الثانية : الروايات الدالّة على الجواز وقد مرّت جملة منها في ضمن البحث في الطائفة الاُولى كرواية إسحاق بن عمّار ورواية عمر بن يزيد المتقدّمتين .
وعمدة هذه الطائفة موثقة سماعة قال : سألته (سألت أبا عبدالله (عليه السلام)) عن الرجل يأتي المسجد وقد صلّى أهله أيبتدئ بالمكتوبة أو يتطوّع؟ فقال : إن كان في وقت