( الصفحه 616 )
مسندة عن أبي جميلة عن أبي جعفر وأبي عبدالله (عليهما السلام) قالا : ما من أحد إلاّ وهو يصيب حظّاً من الزنا ، فزنا العينين النظر وزنا الفم القبلة وزنا اليدين اللمس صدق الفرج ذلك أو كذب . والظاهر انّ المراد من النظر فيها هو النظر مع التلذّذ لدلالة لفظ الزنا المحمول عليه عليه ذلك لملازمته مع التلذّذ والتكيّف ولكنّها لا دلالة للرواية على أنّ النظر المحرم المحكوم عليه بكونه زنا العينين هو أيّ نظر اللهمّ إلاّ أن يقال إنّ النساء المسلمات حيث كنّ يسترن بدنهنّ فالعضو الواقع منهن في معرض النظر هو الوجه والكفّان ولكن الظاهر انّ الرواية ناظرة إلى أنّ النظر إلى العضو الذي يحرم النظر إليه يكون زناً بالنسبة إلى العينين ، وامّا انّ النظر المحرم ماذا فلا دلالة لها عليه .
ومنها : رواية سعد الاسكاف عن أي جعفر (عليه السلام) قال : استقبل شاب من الأنصار امرأة بالمدينة وكان النساء يتقنعن خلف آذانهن فنظر إليها وهي مقبلة فلمّا جازت نظر إليها ودخل في زقاق قد سمّاه ببني فلان فجعل ينظر خلفها واعترض وجهه عظم في الحائط أو زجاجة فشقّ وجهه فلما مضت المرأة نظر فإذاً الدماء تسيل على ثوبه وصدره فقال : والله لآتين رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولأخبرنّه ، فلمّا رآه رسول الله (صلى الله عليه وآله)قال : ما هذا؟ فأخبره فهبط جبرئيل بهذه الآية : (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم انّ الله خبير بما يصنعون) .
ولا يخفى انّ المستفاد منها انّ الأمر بالغضّ في الكريمة يكون المراد منه الأمر بالغضّ عن النظر إلى الأجنبية خلافاً لما ذكرناه سابقاً واستفدناه من نفس الآية وبعض الروايات من أنّ المراد هو الأمر بالغضّ عن النظر إلى فرج الغير وعورته رجلا كان أو امرأة .
وكيف كان فمفاد الآية ليس حرمة النظر إلى الوجه والكفّين أيضاً لأنّ النساء كنّ يتقنعن خلف آذانهن وفي الآية قد أمرن بإلقاء القناع على جيوبهن فأين الدلالة
( الصفحه 617 )
على حرمة النظر إليهما وعلى تقديره فلا دلالة لها على وجوب سترهما على النساء لأنّ التحفّظ والتحرّز عن شقّ الوجه له طريقان ستر النساء الوجه والكفّين وعدم نظر الرجال إليهن ولا دلالة لها على تعين الأوّل .
ومنها : رواية عقبة قال : قال أبو عبدالله (عليه السلام) : النظرة سهم من سهام إبليس مسموم من تركها لله عزّوجلّ لا لغيره أعقبه الله أمناً وإيماناً يجد طعمه . والظاهر انّها بعينها هي الرواية الاُولى المتقدّمة ، غاية الأمر انّ الراوي عن عقبة هناك هو ابنه وهنا هشام بن سالم فلا تكونان روايتين وعلى تقديره فمفاد الرواية بعينه هو مفاد تلك الرواية ولا دلالة لشيء منهما على وجوب ستر الوجه والكفّين .
ومنها : رواية ابن يقطين عن أبي الحسن الأوّل (عليه السلام) قال : لا بأس بالشهادة على إقرار المرأة وليست بمسفرة إذا عرفت بعينها أو حضر من يعرفها ، فامّا ان كانت لا تعرف بعينها أو لا يحضر من يعرفها فلا يجوز للشهود أن يشهدوا عليها وعلى إقرارها دون أن تسفر وينظرون إليها .
ومنها : رواية محمد بن الحسن الصفّار قال : كتبت إلى الفقيه (عليه السلام) في رجل أراد أن يشهد على امرأة ليس لها بمحرم هل يجوز أن يشهد عليها وهي من وراء الستر ويسمع كلامها إذا شهد رجلان عدلان انّها فلانة بنت فلان التي تشهدك وهذا كلامها أو لا يجوز له الشهادة عليها حتّى تبرز ويثبتها بعينها؟ فوفّع (عليه السلام) : تتنقّب وتظهر للشهود إن شاء الله .
وقد استدل بهما على وجوب ستر الوجه فإنّ مفادهما انّ المرأة إنّما يجوز لها أن تظهر في حال الضرورة لا غير ولو لم يكن الستر واجباً عليها في حال لما كان وجه للسؤال عن أنّه هل يجوز لها الحضور والظهور كذلك أم لا كما لا يخفى ، وامّا النقاب فيستر ثلثي الوجه لا أزيد وإلاّ لا تتحقّق معرفتها أصلا وإذا كان كذلك فلا يجوز لها
( الصفحه 618 )
الظهور لغير الضرورة .
وربّما يناقش في الاستدلال بأنّ قوله (عليه السلام) : تتنقّب ، ليس معناه إيجاب التنقّب وإلزامه بل إنّما هو لأجل استحياء النساء غالباً عن النظر إلى وجوههن خصوصاً إذا كان النظر لمعرفتها فالتنقّب إنّما هو لمراعاة ذلك لا للزومه ووجوبه .
إن قلت : إنّ ظهورها للشهود حتى يعرفوها مستلزم لأن يكون الشهود قد رأوها سابقاً وعرفوها كذلك ضرورة انّ مجرّد الظهور من دون سبق الرؤية لا يترتّب عليه المعرفة والأثر بوجه فلو كان النظر إلى وجهها حراماً يكون لازمه خروج الشهود بذلك عن العدالة المعتبرة فيهم وإذا لم يكن حراماً يكون لازمه عدم وجوب الستر لأنّه لا معنى لوجوب الستر مع عدم حرمة النظر كما لا يخفى .
قلت : إنّ في باب الشهادات وتحمل الشهادة قد استثنى مثل ذلك النظر بل أهمّ منه كالنظر إلى الفرج حتّى تتحقّق الرؤية كالميل في المكحلة في باب الزنا ولا يخرج بذلك الشاهد عن العدالة وإلا ينسد باب الشهادة .
وكيف كان فلا دلالة للروايتين على وجوب ستر الوجه كما انّه لا دلالة لهما على عدم الوجوب .
الطائفة الثانية : الروايات الواردة في جواز النظر إلى محاسن المرأة وشعرها ووجهها عند إرادة التزويج معها وهي كثيرة أيضاً :
منها : رواية محمد بن مسلم قال : سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الرجل يريد أن يتزوّج المرأة أينظر إليها؟ قال : نعم إنّما يشتريها بأغلى الثمن . ومن المعلوم انّ النظر إلى الوجه داخل في مورد السؤال قطعاً .
ومنها : رواية هشام بن سالم وحمّاد بن عثمان وحفص بن البختري كلّهم عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : لا بأس بأن ينظر إلى وجهها ومعاصمها إذا أراد أن يتزوّجها . وقد
( الصفحه 619 )
وقع التصريح بالوجه فيها .
ومنها : رواية الحسن بن السري قال : قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : الرجل يريد أن يتزوّج المرأة يتأمّلها وينظر إلى خلفها وإلى وجهها؟ قال : نعم لا بأس أن ينظر الرجل إلى المرأة إذا أراد أن يتزوّجها إلى خلفها وإلى وجهها .
وقد استدلّ بهذه الطائفة على وجوب ستر الوجه نظراً إلى أن الحكم بجواز النظر إليه قد وقع بيانه بصورة قضية شرطية ومفهومها عدم الجواز عند عدم إرادة التزويج معها الذي هو المفروض في محلّ البحث .
ولا يخفى انّه لو قلنا بعدم ثبوت المفهوم للقضية الشرطية رأساً أو بأن ثبوته لها إنّما هو فيما لو لم يكن الشرط وارداً لبيان الموضوع ، وامّا مع كون الشرط مسوقاً لبيان الموضوع كما في قوله : إن رزقت ولداً فاختنه فلا مفهوم له والمقام أيضاً من هذا القبيل فإنّ إرادة التزويج يوجب تحقّق الموضوع للنظر لأنّه لا داعي إليه بدونها فالاستدلال بهذه الطائفة غير صحيح .
وإن أبيت عن ذلك وقلت بثبوت المفهوم وانّ المقام من قبيل قوله : إن جاءك زيد فاكرمه فمفهوم الروايات ثبوت البأس عند عدم إرادة التزويج ومن المعلوم انّ البأس أعمّ من الحرمة لشموله للكراهة أيضاً .
وقد أجاب الشيخ الأعظم الأنصاري (قدس سره) في رسالة النكاح بأنّ بين النظر للتزويج والنظر المبحوث عنه في المقام فرق; لأنّ النظر للتزويج إنّما يكون لتشخيص خلقتها وللاختبار وكشف الواقع بخلاف النظر في غير مورد إرادة التزويج فإنّه عبارة عن مجرّد النظر بدون التلذّذ والريبة كالنظر إلى وجه الرجل ، كما انّه يمكن الفرق بأنّ البحث في المقام إنّما هو في جواز النظر وحرمته ، وامّا النظر في هذه الروايات فيمكن أن يكون مستحبّاً مندوباً كما يرشد إليه الرواية الاُولى فتدبّر
( الصفحه 620 )
فبين النظرين بون بعيد .
سلّمنا دلالة هذه الطائفة على حرمة النظر إلى الوجه مع عدم إرادة التزويج ولكنّها لا دلالة لها على وجوب ستره لما عرفت .
الطائفة الرابعة : الروايات الواردة في موارد مختلفة التي منها ما في صحيح البخاري عن ابن عبّاس قال : كان الفضل رديف النبي (صلى الله عليه وآله) فجاءت امرأة من خثعم فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه فجعل النبي (صلى الله عليه وآله) يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر فقالت : إنّ فريضة الله أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يثبت على الراحلة أنا أحجّ عنه قال : نعم وذلك في حجّة الوداع ، وزاد في فتح الباري في شرح صحيح البخاري انّه (صلى الله عليه وآله) قال في آخره : رأيت غلاماً حدثاً وجارية حدثة فخشيت أن يدخل بينهما الشيطان بتقريب انّه لو كان النظر إلى وجه المرأة غير محرم لم يكن النبي (صلى الله عليه وآله) يصرف وجه الفضل إلى الجانب الآخر .
والجواب عنه أوّلا : انّ صرف النبي (صلى الله عليه وآله) وجهه لعلّه كان لخشيته (صلى الله عليه وآله) دخول الشيطان بينهما كما علّله بذلك في الزيادة المنقولة ، وعليه فالمحذور إنّما هو دخول الشيطان وانجرار النظر إلى الأعمال القبيحة وإلاّ فنفس النظر لا يكون محرماً حتى يكون إطاعة للشيطان .
وثانياً : انّ رؤية النبي (صلى الله عليه وآله) نظر المرأة إلى الفضل كما هو ظاهر الرواية تشهد على تحقّق نظره إليها وهو دليل على جوازه فتدبّر .
وثالثاً : لو كان ستر الوجه واجباً على المرأة فلِمَ لم يأمرها بذلك حتى يتحقّق الأمر بالمعروف ولا يحتاج إلى صرف وجه الفضل بوجه ، فالإنصاف انّ الرواية من هذه الجهة أقوى الأدلّة على عدم وجوب ستر الوجه كما لا يخفى .
كلّ ذلك مضافاً إلى أنّه لم يعلم انّ انصراف وجه الفضل وعدم النظر إليها كان