(الصفحة 26)
الاجتهاد والتقليد دعوى انصرافها عمّن له ملكة الاجتهاد(1) ، بل المحقّق الإصفهاني(قدس سره) بعد حكمه في رسالة الاجتهاد والتقليد بأنّ الواجد لابدّ له من المراجعة إلى الأدلّة السمعية حتى يظهر له الجواز والعدم ولا يجديه استنباط الغير ، حكم بأ نّه لا معنى لإطلاق تلك الأدلّة بالنسبة إلى المتمكّن من الاستنباط ; لأنّ أدلّة الأحكام الشرعية شاملة لمثل هذا الشخص ، فالأحكام الواقعية منجّزة في حقّه من طريق الأمارات المعتبرة ; لتمكّنه من الاستفادة منها ، ومعه كيف يسعه الرجوع إلى غيره والعمل بفتياه ؟ وهذا بخلاف العامّي المحض العاجز عن الاستنباط ، فإنّ تلك الأدلّة لا تشمله لفرض عجزه عن فهم مداليلها(2) .
وأورد عليه بعض الأعلام في شرح العروة بأنّ تنجّز الأحكام الواقعيّة من طريق الأمارات لا ينافي حجّيّة فتوى المجتهد حتى بالإضافة إلى من له ملكة الاستنباط ، فيمكن أن يكون الاستناد إليها معذِّراً عن مخالفة الواقع إذا تحقّقت المخالفة ، وهذا نظير تنجّز الأحكام الواقعية على العامي بعلمه الإجمالي ، ومع ذلك فإنّ استناده إلى فتوى المجتهد يعذّره عن مخالفة الواقع(3) .
ثمّ إنّه لا فرق فيما ذكر بين المجتهد المطلق والمتجزّئ ; فإنّه لا يجوز له أيضاً فيما حصل له ملكة الاستنباط بالإضافة إليه الرجوع إلى الغير والعمل بفتياه ، كما هو غير خفيّ .
الجهة الرابعة : يستفاد من عبارة المتن أنّ الضروريّات كوجوب الصلاة والصوم ونحوهما خارجة عن دائرة الأُمور الثلاثة التي يتطرّق بها ويحكم العقل
- (1) رسالة في الاجتهاد والتقليد للشيخ الأنصاري ، ضمن مجموعة رسائل : 57 .
-
(2) بحوث في الاُصول ، الاجتهاد والتقليد : 19 ـ 20 .
-
(3) دروس في فقه الشيعة: 1/20.
(الصفحة 27)
باللزوم تخييراً بينها ، والوجه في ذلك أنّ الأحكام الضرورية معلومة للمكلّف ،
ومن المعلوم أ نّه مع حصول العلم للمكلّف بالواقع يكون هو بنفسه حجّة عليه، ولامجال للتعبّد بالأمارة بالإضافة إليه ; سواء كانت موافقة لعلمه أو مخالفة له ، وسواء كانت الأمارة فتوى الغير أو غيرها من الأمارات ; لأنّ الحكم الظاهري إنّما يختصّ جعله بخصوص الجاهل الذي لا علم له بالواقع ، فلا مجال له بالإضافة إلى العالم مطلقاً ، ولذا لو حصل للمكلّف العلم في غير الضروريّات أيضاً لا مجال له للتقليد أو الاجتهاد ، وإن كان مخالفاً لفتوى المجتهد الذي يقلّده في سائر المسائل .
وقد انقدح من ذلك أنّ الضروريّات لا معنى لجريان التقليد فيها ، فالتعبير بعدم الحاجة إلى التقليد فيها ـ كما في «العروة»(1) ـ المشعر بالجواز لا يخلو عن مسامحة ، كما أنّ التعميم لليقينيات أيضاً يشعر بل يدلّ على أ نّه يكون في الفقه أحكام خاصّة يقينيّة ، كما أ نّه يكون فيه أحكام مخصوصة ضرورية ، مع أ نّه ليس في الفقه أحكام معيّنة متّصفة بكونها يقينيّة .
والظاهر أنّ غرضه(قدس سره) أ نّه متى حصل للمكلّف يقين بحكم من الأحكام من أيّ طريق حصل لا مجال له للتقليد في خصوص ذلك الحكم اليقيني وإن لم يكن ضروريّاً ، فيرجع إلى ما ذكرنا .
- (1) العروة الوثقى : 1/6 مسألة 6 .
(الصفحة 28)[جواز العمل بالاحتياط والاكتفاء به]
مسألة1: يجوز العمل بالاحتياط ولو كان مستلزماً للتكرار على الأقوى 1.
1 ـ في شرح بعض الأعلام على مثل هذه المسألة من العروة ما ملخّصه : أنّ محلّ الكلام هنا هو الاحتياط غير المخلّ بالنظام ; لأنّ الاحتياط المخلّ به غير مشروع في نفسه ; سواء تمكّن المكلّف من الاجتهاد أو التقليد أم لم يتمكّن منهما . نعم ، الاحتياط المستلزم للوقوع في الحرج داخل في محلّ البحث ; لأنّ نفي الحرج إنّما يدلّ على نفي الوجوب، وهو لا ينافي الجواز ، كما أنّ محلّ الكلام هو خصوص الواجبات العبادية ; لعدم المانع في غيرها وإن استلزم التكرار .
وما عن الشهيد(رحمه الله) من النقاش في الاحتياط في باب العقود والإيقاعات ، نظراً إلى أنّ الجزم ينافي الترديد(1) ، مندفع بأنّ التردّد فيما هو الممضى من السبب شرعاً غير التردّد في الإنشاء ، والاعتبار الذي هو أمر نفساني قائم بالمعتبر ، والذي يضرّ بصحّة العقد أو الإيقاع هو الثاني دون الأوّل(2) .
أقول : قد عرفت(3) أنّ البحث في الاحتياط تارة : في جوازه بعنوانه الذي هو كسائر العناوين المتعلّقة لواحد من الأحكام الخمسة ، وأُخرى : في الاجتزاء بما يتحقّق به الاحتياط في مقام الامتثال أو الموافقة أو ترتّب الأثر المقصود ، وعرفت أيضاً أنّ المهمّ في المقام هي الجهة الثانية(4) .
ومن الواضح أ نّه لا فرق من هذه الجهة بين كون الاحتياط مخلاًّ بالنظام ، أو
- (1) القواعد والفوائد: 2/238، القاعدة 238، والحاكي هو الشيخ في المكاسب : 3/ 173 .
-
(2) دروس في فقه الشيعة: 1/29 ـ 30.
-
(3 ، 4) في ص15 ـ 17 .
(الصفحة 29)
مستلزماً للوقوع في الحرج أم لا ; ضرورة أ نّه بسبب تحقّق هذا العنوان ـ الملازم للعلم بتحقّق المأمور به في الخارج بجميع ما اعتبر فيه من الأجزاء والشرائط ، أو بتحقّق ما هو السبب المؤثّر في حصول الأثر المترقّب ـ لا مجال لاحتمال عدم الإجزاء وعدم تأثيره في الأثر المقصود ; سواء كان مخلاًّ بالنظام أو موجباً للوقوع في الحرج أم لا ، فإنّ اتّصافه بوصف الإخلال به أو استلزامه للوقوع فيه لا يضرّ بترتّب الأثر المترقّب بداهة ، فالتفصيل من هذه الجهة ، وجعل هاتين الصورتين أو خصوص الصورة الأُولى خارجة عن محلّ النزاع لا وجه له أصلا .
ثمّ إنّه على التقدير الأوّل ـ الذي يكون النزاع في جواز الاحتياط بعنوانه ـ يكون المحرّم على تقديره هو عنوان الإخلال ، ولا تتعدّى الحرمة عنه إلى عنوان الاحتياط ; لما حقّقناه في محلّه من أنّ الحرمة المتعلّقة بعنوان من العناوين لا يعقل أن يسري منه إلى غيره ممّا يتّحد معه وجوداً(1) ، فحرمة الإخلال لا توجب حرمة الاحتياط بوجه .
ثمّ إنّ ما أفاده في وجه دخول صورة الاستلزام للحرج في محلّ البحث يمكن أن يخدش فيه بأنّ دليل نفي الحرج وإن كان ظاهره نفي الوجوب وهو لا ينافي الجواز ، إلاّ أ نّه ربما يحتمل فيه أن يكون الغرض منه النفي على سبيل العزيمة لا الرخصة ، كما ربما يستفاد من بعض الروايات(2) من وجوب قبول المنّة من الله سبحانه وتعالى .
ويؤيّده قوله تعالى : {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ}(3) الظاهر في تعلّق الإرادة الإلهيّة
- (1) اُصول فقه شيعه: 4/630 ـ 640.
-
(2) وسائل الشيعة : 1 / 154 ، كتاب الطهارة ، أبواب الماء المطلق ب8 ح11 ، وص163 ب 9 ح14 وص464 ، أبواب الوضوء ب39 ح5 ، وج3 / 491 ، أبواب النجاسات ب50 ح3 .
-
(3) سورة البقرة : 2 / 185 .
(الصفحة 30)
باليسر ، وهو لا يجتمع مع الإيقاع في الحرج ، والتحقيق في محلّه .
ثمّ إنّ تخصيص محلّ الكلام بخصوص الواجبات العباديّة وإخراج باب العقود والإيقاعات عن حريم النزاع مع وجود النقاش من مثل الشهيد ـ عليه الرحمة والرضوان ـ ممّا لا وجه له ، ودفع وجه النقاش بما هو التحقيق عنده لا يوجب الخروج عن محلّ النزاع ، وإلاّ يلزم خروج أكثر المسائل الخلافيّة عن كونها كذلك بسبب التحقيق المؤدّي إلى أحد الطرفين أو الأطراف .
وقد انقدح ممّا ذكرنا أنّ المراد بالجواز في المتن هو الاجتزاء والاكتفاء في مقام الإطاعة والامتثال ، أو تحقّق ما هو السبب المؤثّر ، لا الجواز العارض لنفس عنوان الاحتياط ، ولكنّه ربما يُقال بأنّ المراد بالجواز في خصوص هذه المسألة هو الجواز العارض لنفس عنوان الاحتياط لا الاجتزاء في مقام الامتثال وشبهه ، وذلك لأ نّه على التقدير الآخر يلزم التكرار بعد تصريح الماتن قبل ذلك بكون الاحتياط أحد الأُمور الثلاثة التي يتطرّق بها ، فالأولى حمل هذه العبارة على الجواز بالمعنى الأوّل لئلاّ يلزم التكرار .
ويندفع بأ نّه يكفي فى عدم لزوم التكرار التصريح بكون الجواز ثابتاً في الاحتياط ولو كان مسلتزماً للتكرار ، وفي الحقيقة الغرض من هذه المسألة تعميم الجواز لصورة استلزام الاحتياط للتكرار مع حفظ كون المقصود من الجواز هو الاجتزاء والاكتفاء ، لا الجواز العارض لنفس عنوان الاحتياط .
نعم ، لا مجال لإنكار أنّ الاحتياط بعنوانه يكون معروضاً لحكم من الأحكام الخمسة التكليفيّة ، والتحقيق إمكان اتّصافه بكلّ منها وجواز تصوّر المورد له ، فالاحتياط الواجب إنّما هو في مثل الشبهة المحصورة الوجوبيّة أو التحريميّة; سواء قيل بقيام الدليل الشرعي على الوجوب ، أو أنّ وجوبه الشرعي مستفاد من