(الصفحة 130)
عبارته من جهة الاستدلال تحتمل وجهين:
احدهما: ما فهمه السيّد ـ في العروة ـ منها، من ان مقتضى عمومات وجوب العمل بالوصية و حرمة التبديل ـ الثابتين بالكتاب و السّنة ـ خروجها من الاصل، و قد خرج عن هذه العمومات صورة العلم بكونها ندبا، و عليه، فصورة الشّك المفروضة في المقام داخلة في العموم، و يؤيد هذا الاحتمال قوله: و انما جاز تغييرها إذا علم ان فيها جورا...
و جوابه واضح، فان الخارج عن العمومات صورة كون الوصية ندبا، و انها في هذه الصورة إذا كانت زائدة على الثلث تردّ اليه مع عدم اجازة الورثة، و ليس في شيء من ادلة التخصيص اشارة الى كون العلم دخيلا في عنوان المخصص، و عليه، فالخارج هو المندوب الواقعي، و عليه، فالرجوع الى العمومات في المقام يكون من قبيل التمسك بالعام في الشبهة المصداقية للمخصّص، و هو غير جائز عند المحققين.
ثانيهما: ما يحتمله قوله: فلعلّ الزيادة منه وقعت الوصية بها من دون حيف، من التمسك باصالة الصحة، و انه مع الشّك، يحمل تصرف الموصى على الصحة، لان الموصي اعلم، فيبنى على ان وصيته في الواجب لا في المندوب. و عليه فلا يكون من التمسك بالعالم في الشبهة المصداقية، و لا مخالفة لادلة عدم نفوذ الوصية فيما زادعلى الثلث، فهو كما قيل نظير ما لو باع زيد مالا على عمرو و شك في انه ماله او مال غيره، او علم انه مال غيره، و شك في انه مأذون فيه اولا، فانه يبني على صحة البيع، و ليس فيه مخالفة، لما دلّ على عدم صحة بيع مال الغير الاّ باذنه، و استظهر بعض شراح العروة هذا الاحتمال من كلام الرياض و من عبارة التذكرة، التي هي قريبة مما ذكره في الرياض، على ما حكى.
و اورد على هذا الوجه سيّد المستمسك (قدس سره) بقوله: «نعم، الاشكال يقع في
(الصفحة 131)
جريان اصالة الصحة في الفرض، لاختصاصها بما يكون صحيحا و فاسدا، و وجوب العمل لا يكفي اثرا للصّحة. نعم، لو اوصى بعين لشخص و شك في انّها للموصى او لغيره، يبني على صحّة الوصية حتى يثبت الخلاف، لا في مثل المقام، مما لا يكون للوصية اثر غير وجوب العمل، فان عموم وجوب العمل بالوصية لما كان مخصّصا، بما دلّ على عدم لزوم الوصية بما زاد على الثلث، فمع الشك في الشبهة المصداقية يرجع الى اصالة البراءة لا الى عموم وجوب العمل بالوصية».
و يرد عليه: مضافا الى منافاة صدر كلامه مع ذيله، فان مقتضى الصّدر ثبوتوجوب العمل بالوصية، غاية الامر، عدم كفايته اثرا للصحة، و مقتضى الذيل: عدم ثبوت الوجوب لعدم جواز التمسك بالعموم، منع عدم كون الوجوب كافيا، اثرا للصّحة، فانّ وجوب العمل تكليف ثابت في خصوص الوصية الصّحيحة، و هذا المقدار كاف للفرق بينها و بين الوصية الباطلة.
كما انه اورد على اصل الوجه بعض الاعلام، بقوله: «و يندفع: بان خروج الحج الواجب من الاصل ليس لاجل الوصية، فانها صحت او لم تصحّ يخرج الحج الواجب من الاصل، فهو اجنبي عن الوصية، و انّما تؤثر في المندوب، فانه لو كان زائدا على الثلث، فلا اثر لها، و تصحّ إذا كان بمقداره».
و الظاهر ان مراده: انّ الوصية بالحج الواجب لا تتصف بالصّحة، لعدم الفرق بين وجودها و عدمها، و امّا الوصية بالمندوب فتتصف بها، و حيث انه لم يحرز موضوعها، فلا مجال لاجرائها، مضافا الى ان المفروض صورة الزيادة على الثلث و عدم اجازة الورثة.
و يرد عليه: انّ الوصية بالحج الواجب تتصف بالصحة و الفساد ايضا، فانه ربمايكون الوصي غير الوارث، فيتحقق وجوب العمل بالاضافة الى الوصي، مع ان
(الصفحة 132)
وجوب العمل بالوصية انّما يترتب على مخالفته العقاب، كترتبه على مخالفة الواجب الموصى به، ففي صورة المخالفة يستحق عقوبتين، كنذر الواجب إذا خالفهو لم يأت بالمنذور، غاية الامر، ثبوت الكفارة في مخالفة النذر ايضا دون مخالفة الوصية، و عليه، فصحة الوصية ليست باعتبار اثر الخروج من الاصل فقط، بل لها اثار، و حيث ان المفروض البطلان في المندوب لفرض الزيادة على الثلث، فمقتضى اصالة الصحة الحمل على كون الموصى به هو الحج الواجب، و هو يخرج من الاصل.
و العمدة في الجواب عن اصل الوجه: ان مستند اصالة الصحة ـ سواء كانت جارية في عمل نفسه او عمل الغير ـ هي السيرة لا الدليل اللفظي، ليتمسك باطلاقه، بل لا بد من الاقتصار على القدر المتيقن، و هو ما إذا كان الشك، راجعاالى نفس العمل لا العامل. و بعبارة اخرى: ما إذا احرز سلطنة المباشر و ولايته و شك في صحة عمله، من جهة وجدانه للشرائط و عدمه، امّا لو شك في اصل ولايته و سلطنة، فلا يمكن اثباتها باصالة الصحة، كما إذا باع رجل ملك احدو شككنا في انه هل له الولاية على ذلك بالاذن من الشارع او من المالك، او لا يكون له هذا الشأن لعدم كونه مأذونا؟ فانه لا مجال لاجراء اصالة الصحة و الحكم بثبوت الولاية، و المقام من هذا القبيل، فانه على تقدير كون الموصى به هو الحج المندوب، ليس للموصى الولاية على الوصية بعد فرض زيادتها على الثلث و عدم اجازة الورثة بخلاف ما إذا كان الموصى به هو الحج الواجب، فان له الولاية في هذه الصورة، فالشك انّما هو في وجود الولاية و عدمها، فلا تجري اصالة الصحة.
ثمّ انه ربما يستدلّ للقول المذكور، و هو الاخراج من الاصل ببعض الروايات، مثل ما رواه الشيخ عن عمّار، عن ابي عبد الله (عليه السلام) قال: الرجل احقّ بماله ـ ما دام
(الصفحة 133)
فيه الروح إذا اوصى به ـ كلّه، فهو جائز.(1) و قد حملها الشيخ (قدس سره)على ما إذا لم يكن للميت وارث اصلا ـ لا من قريب و لا بعيد فانه يجوز له حينئذ ان يوصي بماله كيف شاء، كما انه قد حملها صاحب الوسائل و قد تبعه السيّد (قدس سره) في العروة، على خصوص الثلث الذي امره بيده، و الظاهر عليه ان قوله: «بما له» يكون معناه بما للموصي لا بمال الموصي، و كلا الحملين في غاية البعد، و لا شاهد على شيء منهما.
و لكن الظاهر ـ مضافا الى ضعف سند الرواية، لان الراوي عن عمّار في التهذيب، هو ابو الحسن عمر بن شدّاد الازدي، و في الاستبصار، هو عمرو بن شداد الازدي، و في بعض الاسناد، ابو الحسين، و ذكر في السند ايضا ابو الحسن الساباطي عن عمار، و لم يوثق الرجل بشيء من العناوين ـ انّها معارضة و مخصصة بالروايات الكثيرة، الدالة على خروج المندوب من الثلث، فلا وجه لملاحظة الرواية من دون ملاحظة مخصّصها.
و قد انقدح من جميع ما ذكرنا: انه لم ينهض دليل على الخروج من الاصل في محلّ البحث، و هو ما إذا كان الحج الموصى به مردّدا بين الواجب و المستحبّ، و لكن الظاهر ان مجرد ذلك لا يكفي في الحكم بالخروج من الثلث، لانه كما لا يجوز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية للمخصّص لا يجوز التمسك بالخاص في شبهته المصداقية، بل عدم الجواز فيه اوضح، لوجود القول بالجواز في الاوّل و عدمه في الثاني. و عليه، فلا يجوز التمسّك بشيء من الدّليلين، فكما انه لا دليل على الخروج من الاصل لا دليل على الخروج من الثلث.
و الحقّ: ان الوجه في الخروج من الثلث هو استصحاب عدم وجوب الحج على
- 1 ـ وسائل احكام الوصايا الباب الحادي عشر ح ـ 19.
(الصفحة 134)
الموصي، لان المفروض بقرينة الاستثناء ـ الذي يأتي البحث عنه ان شاء الله تعالى ـ صورة عدم كون وجوب الحج عليه معلوما في الزمان السابق. و عليه، فالجاري هو استصحاب عدم وجوب الحج.
و هذا يكفي في عدم لزوم الاخراج من الاصل و لزوم الاخراج من الثلث، و لا يلزم اثبات كون الحج ندبا في الاخراج من الثلث، فان لزوم اثباته انّما هو على تقدير كون المرجع في ذلك هي ادلة الخروج من الثلث في المندوب، مع انه على هذا التقدير يكون المرجع هو استصحاب عدم الوجوب، المخرج للفرض عن دليل لزوم الاخراج من الاصل، بضميمة لزوم العمل بالوصية و حرمة تبديلها.
فالنتيجة: هي الخروج من الثلث، فتدبر.
و هذا كما في الشبهات المصداقية للمخصص في سائر الموارد، كما إذا قال المولى: اكرم العلماء. و قام الدليل المخصص على عدم وجوب اكرام الفساق من العلماء، و شك في فسق زيد العالم، فانه لا يجوز استكشاف حكمه من شيء من الدليين، فيصير وجوب اكرامه مشكوكا، و يجري استصحاب عدم الوجوب او اصالة البراءة عن الوجوب، فينطبق حكمه على حكم المخصص، و هو عدم الوجوب، لا انه صار مرجعا في حكمه، كما هو ظاهر.
بقي الكلام: في المورد الذي استثناه من الحكم، بالاخراج من الثلث، و هو: ما لو علم بوجوب الحج عليه سابقا و شك في بقاء الوجوب في حال الوصية. فان مقتضى استصحاب بقاء الوجوب و عدم الاتيان بما وجب عليه و عدم براءة ذمته، كون التكليف باقيا بحاله، فيلزم الاخراج من الاصل، و لكن يجري في هذاالاستصحاب مناقشتان، لا بد من التعرض لهما، و الجواب عنهما: