(الصفحة 249)
نعم. فلما وقف رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالمروة بعد فراغه من السّعي اقبل على الناس بوجه، فحمد الله و اثنى عليه، ثم قال: ان هذا جبرئيل ـ و او مأبيده الى خلفه ـ يأمرني ان أمر من لم يسق هديا ان يحلّ، و لو استقبلت من امري مثل الذي استدبرت لصنعت مثل ما امرتكم(1) و لكني سقت الهدي و لا ينبغي لسائق الهدي ان يحلّ حتى يبلغ الهدي محلّه. قال: فقال له رجل(2) من القوم: لنخرجن حجّاجا و شعورنا تقطر؟ فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): اما انّك لن تؤمن بعدها ابدا. فقال له سراقة بن مالك بن خثعم الكناني: يا رسول الله علمنا ديننا، كانما خلقنا اليوم، فهذا الذي امرتنا به لعامنا هذا ام لما يستقبل؟ فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): بل هو للأبد الى يوم القيامة. ثم شبّك اصابعه بعضها الى بعض و قال: دخلت العمرة في الحج الى يوم القيامة، و قدم عليّ (عليه السلام)
من اليمن على رسول الله (صلى الله عليه وآله) و هو بمكة، فدخل على فاطمة (عليه السلام) و هي قد احلّت، فوجد ريحا طيبة، و وجد عليها ثيابا مصبوغة، فقال: ما هذا يا فاطمة؟ فقالت: امرنا رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فخرج عليّ (عليه السلام) الى رسول الله (صلى الله عليه وآله) مستفيتيا و محرشا على فاطمة (عليه السلام)، فقال: يا رسول الله (صلى الله عليه وآله): انّي رأيت فاطمة قد احلّت، عليها ثياب مصبوغة، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): انا امرت الناس بذلك، و انت يا عليّ بما اهللت، قال: قلت: يا رسول الله: اهلالا
- 1 ـ قال ابن اثير في نهايته في معنى هذه العبارة: «اي لو عنّ لي هذا الرأي الذي رأيته اخرا و امرتكم به في اوّل امري، لما سقت الهدي معي و قلدّته و اشعرته، فانه إذا فعل ذلك لا يحلّ حتى ينحر، و لا ينحرالا يوم النحر، فلا يصح له فسخ الحج بعمرة، و من لم يكن معه هدي، فلا يلتزم هذا، و يجوز له فسخ الحج، و انما اراد بهذا القول تطييب قلوب اصحابه، لانه كان يشقّ عليهم ان يحلّوا و هو محرم، فقال لهم ذلك، لئلا يجدوا في انفسهم، و ليعلموا ان الافضل لهم قبول ما دعاهم اليه، و انه لولا الهدي لفعله».
- 2 ـ قال العلامة المجلسي في مرآة العقول: انه قد تواتر كون الرجل هو عمر.
(الصفحة 250)
كاهلال النبي (صلى الله عليه وآله)، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): كن على احرامك مثلي، و انت شريكي في هديتي... الحديث.(1)
المقام الثاني: في ان التمتع فرض من كان بعيدا عن مكة، و الاخران فرض من كان حاضرا، اى غير بعيد، و سيأتي حدّ البعد ان شاء الله تعالى، و قد حكى الاجماع على الاوّل من جملة كثيرة من الكتب الفقهيّة، كما في محكي كشف اللثام و المستند، و لم يحك الخلاف في الثاني الاّ عن الشيخ، في أحد قوليه، و يحيى بن سعيد.
و يدل على كليهما الكتاب و السنّة: امّا الكتاب: فقوله تعالى: «فاذا امنتم فمن تمتّع بالعمرة الى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة ايام في الحج و سبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن اهله حاضري المسجد الحرام و اتقوا الله و اعلموا ان الله شديد العقاب».
فان الظاهر ان المشار اليه بقوله: «ذلك» الذي، هو للاشارة الى البعيد، هوالتمتع بالعمرة الى الحج، و ليس المراد من الحاضر ما يقابل المسافر او الغائب، لان الملاك في الحاضر، الذي يقابل الامرين، هو نفس المكلف و اتصافه بذلك، فالحاضر يجب عليه الاتمام و الصيام، كما ان المسافر يجب عليه القصر و الافطار، و كذلك في الحاضر الذي يقابل الغائب، فان الملاك حضور الشخص و غيابه، و لم يعهد في شيء من الامرين مدخلية حضور الاهل. و عليه، فتوصيف الاهل بالحضور في الآية دليل على ان المراد غير الامرين، و ليس الاّ البعد في مقابل القرب، و البعيد في مقابل القريب. نعم، ربما يشكل في الاستدلال بالآية، لما
- 1 ـ وسائل ابواب اقسام الحج الباب الثاني ح ـ 4.
(الصفحة 251)
ذكر: بانّ ظاهر الآية بلحاظ التعبير باللام الظاهر في النفّع، ان البعيد يجوز له الاتيان بالتمتع في مقابل القريب، الذي لا يسوغ له ذلك، و لا دلالة لها على تعين التمتع للنائي، و لذا قال في المستمسك: ان ظاهر الاية الشريفة حصر التمتع بالنائي لا حصر النائي به، كما هو المدّعي.
هذا، و لكن الظاهر ان المتفاهم من الاية، بضميمة صدرها الدال، علىوجوب اتمام الحج و العمرة للّه، بالمعنى الذي تقدم للاتمام، هو التقسيم و تعيين وظيفة المكلف المستطيع، و انّه ان كان نائيا بعيدا يجب عليه التمتع، و ان كان قريبا يجب عليه احد القسمين الآخرين: القران و الافراد، و التعبير باللام لعلّه من جهد ان ماهية حج التمتع فيها سعة، لا توجد في غيره، فان الاحلال قبل الحج بعد الورود بمكة و الفراغ من العمرة يختص بالتمتع، لان غيره لا يتحقق له الاحلال بعدالورود بها الاّ بعد الفراغ عن اعمال الحج، المتوقف على مضىّ وقته و زمانه الخاص، و هذا احد وجوه التسمية بالتمتع، مع انه يمكن ان يكون اللام للاختصاص.
و بالجملة: لا تنبغي المناقشة في دلالة الاية على تعين وظيفة النائي في التمتع، و بالدلالة الالتزامية تدل على تعين وظيفة غير النائي، في غيره، بنحو التخيير بين القسمين.
و امّا السنّة: فطائفة منها ظاهرة، بل صريحة في تعين وظيفة النائي في التمتع، و طائفة اخرى دالة على عدم مشروعية التمتع، بالاضافة الى القريب.
امّا الطائفة الاولى:
فمنها: صحيحة الحلبي، عن ابي عبد الله (عليه السلام) قال: دخلت العمرة في الحج الى يوم القيامة، لانّ الله تعالى يقول: «فمن تمتع بالعمرة الى الحج فما
(الصفحة 252)
استيسر من الهدي» فليس لاحد الاّ ان يتمتع، لانّ الله انزل ذلك في كتابه، و جرت به السنّة من رسول الله (صلى الله عليه وآله).(1) و هذه الرواية ادلّ روايات هذه الطائفة، لانّها مضافا الى دلالتها على حصر مشروعية الحج في التمتع، اي بالاضافة الى النائي، للتفريع على قوله تعالى: «فمن تمتع... » الوارد فيمن لم يكن اهله حاضري المسجد الحرام، وقع فيها الاستشهادبالاية، و قد مرّ مرارا: ان مرجع الاستشهاد و الاستدلال بالكتاب الى ظهور الكتاب في نفسه في ذلك. غاية الامر، توقف ذلك على ملاحظته و النظر فيه، و الاّ فلو كان الحكم الذي استدل له بالكتاب، غير متفاهم من ظاهر الآية عرفا، بل كان امرا مخالفا للظاهر، قد بيّنه الامام (عليه السلام). فتفسيره و ان كان حجة في هذا الحال الاّ انه لا يبقى معه مجال للاستدلال بالكتاب، خصوصا إذا كان الناس و مراجعهم مخالفين، فهذه الرواية شاهدة على ما ذكرنا من تمامية دلالة الكتاب، و انه لا وجه للخدشة في دلالته بعدم كون مفادها حصر النائي بالتمتع، بل حصر الثاني بالاوّل.
و منها: صحيحة اخرى للحلبي، قال: سألت ابا عبد الله (عليه السلام)عن الحج. فقال: تمتع، ثم قال: انّا إذا وقفنا بين يدي الله تعالى قلنا: يا ربّنا اخذنابكتابك، و قال النّاس: رأينا رأينا، و يفعل الله بنا و بهم ما اراد.(2) و لكنه يمكن المناقشة في دلالتها على التعين: بان قوله (عليه السلام): تمتع. و ان كان ظاهرا في نفسه في تعين التمتع، الاّ انه بلحاظ وقوعه في مقام توهم الحظه، لكونه على خلاف معتقد الناس، لا يبقى مجال للاستدلال به على التعين، كما لا يخفى.
- 1 ـ وسائل ابواب اقسام الحج الباب الثالث ح ـ 2.
- 2 ـ وسائل ابواب اقسام الحج الباب الثالث ح ـ 3.
(الصفحة 253)
نعم، لا تجري هذه المناقشة في رواية ليث المرادي، عن ابي عبد الله (عليه السلام) قال: ما نعلم حجّا للّه غير المتعة، انا إذا لقينا ربّنا قلنا: يا ربّنا عملنا بكتابك و سنّة نبيّك، و يقول القوم: عملنا برأينا، فيجعلنا الله و اياهم حيث يشاء.(1) و ذلك لظهورها في عدم مشروعية غير المتعة، و عدم العلم بثبوت حج غيرها.
و مثلها: رواية معاوية بن عمار، قال: قال ابو عبد الله (عليه السلام): ما نعلم حجّا للّه غير المتعة، انّا إذا لقينا ربّنا قلنا: ربّنا عملنا بكتابك و سنّة نبيك، و يقول القوم: عملنا برأينا، فيجعلنا الله و اياهم حيث يشاء(2).
و منها: رواية ابي بصير، قال: قال ابو عبد الله (عليه السلام): يا با محمّد!كان عندي رهط من اهل البصرة فسألوني عن الحج، فاخبرتهم بما صنع رسول الله (صلى الله عليه وآله) و بما امر به، فقالوا لي: ان عمر قد افرد الحج، فقلت لهم: ان هذا رأي رآه عمر، و ليس رأي عمر كما صنع رسول الله (صلى الله عليه وآله).(3)
و منها: غير ذلك من الروايات التي يأتي بعضها في المباحث الآتية ان شاء الله تعالى.
و اما الطائفة الثانية:
فمنها: صحيحة الفضلاء: عبيد الله الحلبي و سليمان بن خالد و ابي بصير، كلّهم عن ابي عبد الله (عليه السلام) قال: ليس لاهل مكّة و لا لاهل مرّ و لا لاهل سرف متعة، و ذلك لقول الله ـ عزّ و جلّ: «ذلك لمن لم يكن اهله حاضري
- 1 ـ وسائل ابواب اقسام الحج الباب الثالث ح ـ 7.
- 2 ـ وسائل ابواب اقسام الحج الباب الثالث ح ـ 13.
- 3 ـ وسائل ابواب اقسام الحج الباب الثالث ح ـ 6.