(الصفحة 261)
و ثمانية عشر ميلا من خلفها، و ثمانية عشر ميلا عن يمينها، و ثمانية عشر ميلا عن يسارها، فلا متعة له، مثل مرّ و اشباهه(1). قال صاحب الوسائل بعد نقل الرواية: هذا غير صريح في حكم ما زاد عن ثمانية عشر ميلا، فهو موافق لغيره فيها و فيما دونها، فيبقى تصريح حديث زرارة و غيره بالتفصيل سالما عن المعارض. هذا، و لكن وقوع الرواية تفسيرا للاية التي هي في مقام التحديد و التقسيم يابى عن الحمل المذكور.
و قد جمع بينها و بين صحيحة زرارة المتقدمة، صاحب المدارك بالحمل على التخيير، و كون من بعد بثمانية عشر ميلا مخيرا بين التمتع و غيره، و من بعد بثمانية و اربعين متعيّنا عليه التمتع، و لكنه ذكر بعد ذلك: انه كما ترى شاهد له، و اضيف اليه وجود الشاهد على خلافه، و هو عدم كونه مفتى به لاحد من الاصحاب، مضافا الى مخالفته للآية الشريفة الظاهرة في عدم التخيير بين التمتع و غيره.
فالظاهر ان يقال: بان اعراض الاصحاب باجمعهم عن هذه الرواية يسقطها عن الحجية، لو لم يكن لها معارض، فضلا عما إذا كان كما في المقام.
ثم انه استدل للقول الآخر و هو اثنا عشر ميلا، الذي اصرّ عليه صاحب الجواهر (قدس سره) بوجوه.
الاوّل: ما ذكره في اوّل كلامه و في اخره ايضا، من: انه هنا اطلاقات تدل علىوجوب التمتع، و انه وظيفة كل من يجب عليه الحج، و يكون امر الخارج منه دائرا بين الاقل و الاكثر، و اللازم الاقتصار على القدر المتيقن، و هو من الاثنى عشر ميلا فما دون.
و الجواب عنه: اوّلا: انه لا يوجد في شيء من الكتاب و السّنة ما يدلّ بعمومه او
- 1 ـ وسائل ابواب اقسام الحج الباب السادس ح ـ 10.
(الصفحة 262)
اطلاقه على ذلك، امّا الكتاب فواضح، و امّا السنة فما ربما يتوهم فيه ذلك انمّا هو صحيحة الحلبي، عن ابي عبد الله (عليه السلام)قال: دخلت العمرة في الحج الى يوم القيامة، لانّ الله تعالى يقول: «فمن تمتع بالعمرة الى الحج فما استيسر من الهدى»، فليس لاحد الاّ ان يتمتع، لان الله انزل ذلك في كتابه و جرت به السّنة من رسول الله (صلى الله عليه وآله).(1) نظرا الى اطلاق قوله: دخلت العمرة.... و عموم قوله: فليس لاحد... مع انه من الواضح، كما مرّ: ان التعليل للدخول المذكور بالآية الشريفة، الظاهرة في التقسيم و التنويع و اختصاص التمتع بخصوص من لم يكن اهله حاضري المسجد الحرام، يقيّد الاطلاق، كما هو شأن التعليل، و كذاالتفريع و التعليل في العموم يوجبان الاختصاص، كما هو واضح. و هذه الصحيحة تفسّر صحيحة اخرى للحلبي رواها الصدوق باسناده عنه، عن ابي عبد الله (عليه السلام) قال: قال ابن عباس: دخلت العمرة في الحج الى يوم القيامة(2).
و تدل على ان المراد بالعمرة الداخلة هو خصوص عمرة التمتع، بالاضافة الى حجّه لا مطلقا، و كذا صحيحته الاخرى، قال: سألت ابا عبد الله (عليه السلام) عن الحج. فقال: تمتّع، ثم قال: انّا إذا وقفنا بين يدي الله تعالى قلنا: يا ربّنا اخذنا بكتابك، و قال الناس: رأينا، رأينا، و يفعل الله بنا و بهم ما اراد.(3) نظرا الى ظهور الجواب في تعين التمتّع، و من الواضح: انه لا خصوصية للرّاوي.
و لكن قوله: انّا... الذي هو بمنزلة التعليل للحكم المذكور، اوّلا: يدل على ان المراد خصوص من لم يكن اهله حاضري المسجد الحرام. و مثلها في الاستدلال و الجواب رواية ليث المرادي، عن ابي عبد الله (عليه السلام) قال: ما نعلم حجّا للّه
- 1 ـ وسائل ابواب اقسام الحج الباب الثالث ح ـ 2.
- 2 ـ وسائل ابواب اقسام الحج الباب الثالث ح ـ 12.
- 3 ـ وسائل ابواب اقسام الحج الباب الثالث ح ـ 3.
(الصفحة 263)
غير المتعة، انّا إذا لقينا ربّنا قلنا: يا ربّنا عملنا بكتابك و سنّة نبيّك، و يقول القوم: عملنا برأينا، فيجعلنا الله و اياهم حيث يشاء.(1) و رواية معاوية بن عمّار، عن ابي عبد الله (عليه السلام) قال: من حجّ فليتمتع، انا لا نعدل بكتاب الله و سنة نبيّه (صلى الله عليه وآله)(2) و
بالجملة: لا توجد رواية و لو واحدة تدل بالاطلاق او العموم على خلاف ما يدل عليه الكتاب، من الفرق بين من كان اهله حاضري المسجد الحرام، و من لم يكن اهله كذلك.
و ثانيا: انه على فرض وجود الاطلاق او العموم، كان الدليل المخصص غير مرّددبين الاقل و الاكثر، لان صحيحة زرارة المتقدمة و مثلها ظاهرتان في التحديد بالثمانية و الاربعين من دون معارض، لما عرفت، من: انه لا يوجد في شيء من الروايات ما يدل على الاثني عشر، و رواية الثمانية عشر معرض عنها عند الكلّ، فلا محيص عن الاخذ بمقتضى الصحيحة.
الثاني: ما استدلّ به ايضا في اوّل كلامه من نص الاية، على انه فرض من لم يكن حاضري المسجد الحرام، و مقابل الحاضر هو المسافر، و حدّ السفر اربعة فراسخ، فينطبق على اثني عشر، لان كل فرسخ يكون ثلاثة اميال.
و يرد عليه: انه لم تجعل الآية الحضور وصفا للمكلّف بالحج، بل جعلته وصفالاهل المكلّف، حيث قال: «من لم يكن اهله حاضري المسجد الحرام»، و من المعلوم: ان الحضور مقابل السفر وصف لنفس المكلّف في موارد تعليق الحكم على العنوانين، كما في الصلاة و الصوم، فالمكلّف الحاضر بنفسه يجب عليه الاتمام
- 1 ـ وسائل ابواب اقسام الحج الباب الثالث ح ـ 7.
- 2 ـ وسائل ابواب اقسام الحج الباب الثالث ح ـ 14.
(الصفحة 264)
و الصيام، و المسافر كذلك يجب عليه القصر و الافطار.
و عليه، فاللازم في الآية ـ مع تفسير الحاضر بما يقابل المسافر ـ ان المعيار في ثبوت حج التمتع على المكلف كون اهله مسافرا عن المسجد الحرام، و ثبوت غيره على من لم يكن اهله مسافرا كذلك، من دون اعتبار خصوصية في نفس المكلف، و هذا مما لا يقبله احد و لا يرتضي به.
هذا، مع انه لم يستعمل في الكتاب «الحاضر» في مقابل «المسافر» في الصلاةو الصّيام اصلا، لان التعبير في الصلاة انّما هو بعنوان الضرب في الارض، و في الصوم هو شهود الشهر، الشامل للصحة، و عدم السفر بقرينة المقابلة، فلا مجال لحمل آية الحج على الحاضر المقابل للمسافر، مع ان الحدّ في السفر هو ثمانية فراسخ، غاية الامر، قيام الدليل على كفاية التلفيق.
الثالث: ما استدل به ايضا، مما يرجع توضيحه الى انه لا مجال لدعوى كون كلمة «الحاضر» لها حقيقة شرعية مثل الصلاة و الصوم و غيرهما، على القول بثبوت الحقيقة الشرعية لها، لانه لم تتحقق هذه الدعوي من احد، و لم تكن هذه الكلمة داخلة في ذلك البحث، فاللازم ان يقال ببقائها على المعنى اللغوي و العرفي، و حينئذ بعد عدم كون المراد منها معناها الحقيقي، لاختصاصه بخصوص الحاضر في المسجد او في مكة، لا بد ان يحمل على المعنى الجازي. و من الواضح ان اثني عشر ميلا بلحاظ قربه الى المعنى الحقيقي، يجري فيه الاستعمال المجازي، و امّاالحدّ الاخر فلا يناسب الاستعمال المجازي ايضا، فلا بد من حمل الاية على الاقرب.
و التحقيق في الجواب عن هذا الاستدلال، ان يقال: انه ليس البحث في كلمة «الحاضر» من جهة ثبوت الحقيقة الشرعية و عدمه، و الحمل على المعنى الحقيقي او المجازي، بل البحث في معنى كون الاهل حاضرا، و من المعلوم: انه بعد
(الصفحة 265)
عدم كون المراد معناه الحقيقي، يكون استعماله في المراد انّما هو بنحو الكناية، التي حقيقتها عبارة عن ذكر اللازم و ارادة الملزوم، كما في مثل قوله: زيد كثير الرمادو عمرو مهزول الفصيل. غاية الامران، المعنى الكنائي في المقام انّما تبين من طريق الرواية، و بيان الامام (عليه السلام)، و هو ما دلت عليه صحيحة زرارة، من كون الحدّ دون ثمانية و اربعين ميلا. فالمراد: ان حضور الاهل كناية عن الاقامةو السكونة في هذه الفاصلة، سواء كانت بمكة او بغيرها، فلا يبقى حينئذ اشكال.
و قد انقدح من جميع ما ذكرنا: ان الاقوى ما اختاره في المتن، و انه لا وجه للجمع بين كلمات الاصحاب بتقسيط الثمانية و الاربعين على الجوانب الاربعة، كل جانب اثنا عشر ميلا، كما حكي عن ابن ادريس، كما انه ظهر ان لا وجه لهذا القول الاّ حمل الرواية على ما ذكر، مع انّك عرفت ظهورها في خلافه.
بقى الكلام: في هذا المقام في: ان مبدأ الحدّ هل هو المسجد الحرام او مكة؟ فيه وجهان، بل قولان: فعن الشيخ في المبسوط و الاقتصاد و الجمل هو الاوّل، و كذا العلامة في التحرير، لكنه في القواعد عبّر بمكة.
و الدليل على الاوّل: ظاهر الاية الشريفة، التي اضيف فيها الحضور الى المسجد الحرام، و لا موجب لرفع اليد عن هذا الظهور، فانه و ان كان يحتمل ان يكون ذكره ـ مكان مكة ـ تعظيما له و اجلالا، كما في اية الاسراء، مع كون مبدئه من بيت امّ هاني ـ اخت امير المؤمنين (عليه السلام) لا من المسجد الحرام، كما انه يحتمل ان يكون لمناسبته مع الحج، لوقوع مثل الطواف فيه، الاّ انه لا يمنع من العمل بالظاهر بعد عدم ثبوت الدليل على خلافه.
كما ان الدّليل على الثّاني: انّه بعد كون حضور الاهل كناية عن الاقامةو السكونة، و من الواضح: ان المسجد الحرام لا يكون محلا للاقامة و التوطن بوجه، فانه محلّ العبادة لا السكونة، فلا محالة يكون المراد منه هي مكة، التي تكون محلا