( الصفحه 303 )
وعلى هذا الوجه يصحّ الاستدلال بالحديث للمقام بلحاظ كون المانعية الجزئية الثابتة لهذا اللباس على تقديرها مرفوعة لأجل كونها بنفسها مجهولة وهذا إنّما يتمّ على تقدير الانحلال ، وامّا على تقدير عدمه فليس لنا أحكام جزئية مجهولة حتّى يتعلّق بها الرفع ، بل الثابت إنّما هو الأحكام الكلّية والمفروض في الشبهات الموضوعية كونها معلومة غير مجهولة .
وقد ناقش سيّدنا الاستاذ البروجردي (قدس سره) في شمول الحديث لمثل المقام من الشبهات الموضوعية نظراً إلى أنّ الظاهر من الحديث عرفاً هو رفع التكاليف المجهولة التي توجب تضييقاً على المكلّف إذا علم بها لا رفع الأحكام الجزئية أو الموضوعات التي يرجع رفعها إلى رفع أحكامها بعد العلم بأصل الحكم الكلّي الذي صدر من الشارع .
وبعبارة اُخرى انّ المكلّف بعدما علم بحرمة الخمر الواقعي المقتضي لوجوب الاجتناب عن الافراد المعلومة وكذا المشكوكة لعدم جريان البراءة العقلية في الشبهات الموضوعية فقد علم بما يوجب التضييق عليه فإذا فرض انّ الشارع جوّز له الاقتحام في الافراد المشكوكة فلابدّ أن يبيّن ذلك بدليل يكون كالحاكم على دليل حرمة شرب الخمر الواقعي نظير الأدلّة الدالّة على حلّية كلّ شيء فيه حلال وحرام إلى أن تعرف الحرام منه بعينه وما يدلّ على طهارة المياه أو جميع الأشياء إلى أن يعلمانّها قذر أو نجس ، وغيرهما ممّا يكون دالاًّ على جواز الاقتحام في الشبهات الموضوعية وحيث لم يبيّن ذلك بمثل ما ذكر فلا يمكن رفع اليد عمّا يقتضيه الدليل على التحريم الظاهر في حرمة الفعل بعنوانه الواقعي . وبالجملة فلم يثبت ظهور حديث الرفع في رفع الأحكام الجزئية المشكوكة في الشبهات الموضوعية .
وتندفع المناقشة ـ مضافاً إلى ما مرّ من جريان البراءة العقلية وقاعدة قبح
( الصفحه 304 )
العقاب من دون حجّة ـ بأنّه ما الفرق بين قوله : رفع ما لا يعلمون وبين مثل قوله : رفع ما اضطروا إليه فكما انّ الثاني حاكم على الأدلّة الأوّلية كذلك الأوّل فإنّ مفاده عدم ثبوت الحرمة الواقعية في مورد الشكّ والجهل فالإنصاف تمامية الاستدلال بحديث الرفع للمقام .
جريان أصالة الحلّية في المقام
ومن الاُصول التي اعتمد عليها في المقام لإثبات الصحّة والجواز اصالة الحلّية التي تدلّ عليها روايات كثيرة :
منها : صحيحة عبدالله بن سنان عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبداً حتّى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه .
ومنها : موثقة مسعدة بن صدقة عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : سمعته يقول : كلّ شيء هو لك حلال حتى تعلم انّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك ، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة ، والمملوك عندك لعلّه حرّ قد باع نفسه أو خدع فبيع قهراً ، أو امرأة تحتك وهي اُختك أو رضيعتك ، والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البيّنة .
ومنها : غير ذلك من الروايات الدالّة عليها والظاهر عدم اختصاصها بالشبهات الموضوعية لشمول مثل الموثقة للشبهات الحكمية وامتيازها عن أصالة البراءة الشرعية إنّما هو في اختصاصها بالشبهات التحريمية وعدم شمولها للشبهات الوجوبية دون البراءة الشرعية ودعوى رجوع الثانية إلى الاُولى لأنّ ترك الواجب حرام مدفوعة بمنع حرمة ترك الواجب بحيث كان هناك تكليفان تعلّق أحدهما بالفعل والآخر بالترك ، بل الواجب ما تعلّق البعث بإيجاده والحرام ما تعلّق الزجر به من دون أن يرجع أحدهما إى الآخر بوجه وكذا تمتاز اصالة الحلّية بأنّ مفادها
( الصفحه 305 )
جعل الحكم الاثباتي في مرحلة الظاهر فيترتّب على الحلّية جميع الآثار المترتّبة عليها ، وامّا البراءة الشرعية المدلول عليها بحديث الرفع فمرجعها إلى رفع الحكم الواقعي المجهول في الظاهر من دون أن يكون مفادها وجود حكم اثباتي ولو في مرحلة الظاهر فتدبّر .
وكيف كان فالمنقول عن صاحب المدارك (قدس سره) التمسّك بأصالة الحلّية في المقام وتبعه على ذلك المحقّق القمي (قدس سره) واختار جريانها أيضاً السيّد المجدّد الشيرازي (قدس سره)وتقريب الاستدلال بها من وجوه :
الأوّل : أن يكون المراد من الحلّية والحرمة هي التكليفية منهما ـ كما هو الظاهر من إطلاقهما ـ وجريانه في المقام مع أنّ الشكّ فيه إنّما هو في الحلّية والحرمة الوضعيتين إنّما هو بأن يقال : إنّ الشكّ في صحّة الصلاة فيما لم يعلم كونه من أجزاء غير المأكول مسبّب عن الشكّ في حلّية لحم الحيوان المأخوذ منه ذلك اللباس ، وحرمته فإذا حكمنا بحلّيته لاصالتها تترتّب عليها صحّة الصلاة فيه كما لا يخفى .
وأورد عليه سيّدنا الاستاذ (قدس سره) :
أوّلاً : انّ الشكّ في كون الحيوان المأخوذ منه هذا اللباس محرم الأكل أو غيره ـ تارة ـ بنحو يكون الحيوان المزبور مشخصاً معلوماً والشبهة في حكمه شبهة حكمية راجعة إلى ثبوت الجهل بالحكم الكلّي الإلهي ـ واُخرى ـ بنحو يكون كذلك لكن الشبهة موضوعية والشكّ والترديد إنّما كان لأجل اشتباه الأمر الخارجي من دون أن يكون راجعاً إلى الحكم الكلّي ـ وثالثة ـ بنحو لا يكون الحيوان المزبور مشخصاً أصلاً بمعنى أنّه لم يعلم انّ اللباس من أيّ حيوان أخذ ، هل أخذ من شاة أو من الثعلب ـ مثلاً ـ ولا يكون في الخارج حيوان مشتبه الحكم بالشبهة الحكمية أو الموضوعية أصلاً ففي الأوّلين وإن كان لا مانع من جريان أصالة الحلّية بناء على
( الصفحه 306 )
عدم اختصاصها بالشبهات الموضوعية إلاّ انّهما من الفروض النادرة في محلّ البحث وفي الأخير الذي هو محلّ الابتلاء نوعاً لكثرة وقوعه وتحقّقه لا مجال لإجراء أصالة الحلّية في لحم الحيوان بعدما لم يكن هنا حيوان مشكوك اللحم أصلاً ولا يكون لحمه على تقديره مورداً للابتلاء بوجه .
وبعبارة اُخرى ليس في الخارج حيوان شكّ في حلّية لحمه بإحدى الشبهتين حتّى يجري فيه أصالة الحلّية فتدبّر .
وثانياً : انّ ظاهر الأدلّة انّ الحكم ببطلان الصلاة وفسادها في أجزاء غير المأكول إنّما يكون مترتّباً على الحيوان المحرم بعنوانه الأوّلي كالأسد والأرنب والثعلب وغيرها لا على الحيوان بوصف كونه محرم الأكل والتعبير عن ذلك العنوان بهذا الوصف في بعض الأخبار إنّما هو للإشارة إلى ذوات الموصوفات مع قطع النظر عن الوصف ويؤيّده ما في بعض الروايات من أنّ الصلاة في الثعالب والأرانب فاسدة فعبّر عن موضوع الحكم بنفس ذلك العنوان الأوّلي من دون أخذ قيد التحريم فيه أصلاً .
وبالجملة : بطلان الصلاة في أجزاء الحيوانات المحرمة ليس حكماً مترتّباً على تحريمها بحيث لو لم يجعل التحريم لكان جعل هذا الحكم لغواً ، بل إنّما هو حكم في عرض الحكم بالتحريم من دون ترتّب وطولية بينهما أصلاً .
ودعوى انّه لا مجال للعدول عن ظاهر العنوان المأخوذ في الدليل فإن جعل وصف التحريم في الموضوع في مثل موثقة ابن بكير المتقدّمة ظاهرة في المدخلية والترتّب بحيث يكون الحكم بالفساد مترتّباً على وصف التحريم ولا وجه للحمل على الإشارة إلى الذوات بعناوينها الأوّلية بعد كونها خلاف الظاهر .
مدفوعة بأنّه إذا كان التعرّض للذوات بتلك العناوين مع أنّه موجب للتطويل
( الصفحه 307 )
بلا طائل لعدم ترتّب فائدة عليه فالطريق يكون منحصراً في الإشارة إليها بعنوان جامع لا دخالة له في الحكم أصلاً مضافاً إلى ما عرفت من التعبير في هذا الحكم بنفس العناوين الأوّلية في بعض الروايات وإلى اشتمال بعضها على التعليل بكون أكثرها مسوخاً أو كونها دابة تأكل اللحم ومع الحمل على موضوعية عنوان الحرمة يلزم رفع اليد عن التعليل فتدبّر .
فالظاهر ـ حينئذ ـ ما ذكر وعليه فالأصل الجاري في أثر الحلية لا يثبت الأثر الآخر المشكوك إلاّ على القول بالأصل المثبت وهو خلاف التحقيق .
وثالثاً : سلّمنا الترتّب وكون الحرمة واسطة في ثبوت البطلان والفساد لكن المراد منها ومن الحلّية المترتّبة عليها الصحّة ليست الحرمة والحلية الفعليتين وإلاّ لزم جواز الصلاة في أجزاء ما يحلّ أكله فعلاً للاضطرار ونحوه ولو كان محرماً ذاتاً وعدم جوازه في أجزاء ما لا يحلّ أكله كذلك كما إذا كان مغصوباً ولم يرض المالك بالتصرّف في خصوص لحمه فإنّ وبره ـ حينئذ ـ يصير من أجزاء الحيوان الذي لا يحلّ أكل لحمه وإن كان محلّلاً ذاتاً ومن المعلوم انّه لا يمكن الالتزام بذلك فالمراد منهما هي الحرمة والحلية المتعلّقتان بذوات الحيوانات بعناوينها الأوّلية مع قطع النظر عن حدوث ما يوجب تغيير الحكم المتعلّق به أولاً كالاضطرار والغصب ونحوهما ، ومن المعلوم انّ أصالة الحلّية لا تجدي في إثبات الحلّية الواقعية ـ كما هو الشأن في غيرها من الاُصول الشرعية ـ فهذا الوجه من التقريب غير تامّ .
الوجه الثاني : ما أفاده المحقّق النائيني (قدس سره) ممّا ملخّصه انّ الشرطية إنّما تنتزع من تقييد المأمور به بوجود شيء والمانعية منتزعة من تقيّده بعدمه وكلا التقييدين يكونان من أجزاء المأمور به فكما انّ الصلاة ـ مثلاً ـ لها أجزاء من الأفعال والأقوال المخصوصة كذلك لها أجزاء هي مجموع التقييدات بمعنى انّ كلّ تقيّد جزء