( الصفحه 308 )
مستقلّ ، غاية الأمر انّه جزء اعتباري ولكنّه يشترك مع الاجزاء الحقيقية في الجهات والأحكام فكما انّ الأمر المتعلّق بمثل الصلاة من المركّبات الاعتبارية مع كونه واحداً حقيقة له أبعاض كثيرة يتعلّق كلّ بعض منه بجزء من أجزاء متعلّقه كذلك يتعلّق بعضه بالتقييد الذي هو جزء للمأمور به على ما عرفت وحيث إنّه لا وجود للتقيّد إلاّ بوجود القيد بل هو عينه فيكون نفس الشرط وعدم المانع معروضاً لذلك البعض فظهر انّ عدم المانع الذي هو محلّ البحث والكلام في هذا المقام يكون كسائر الأجزاء متعلّقاً لبعض الأمر بالكلّ وحيث إنّ النهي ليس إلاّ طلب الترك فيكون وجود المانع منهياً عنه لأنّ المفروض كون عدمه متعلقاً للطلب ، غاية الأمر انّ النهي المتعلّق بوجود المانع نهي ضمني لا استقلالي ولكن ذلك لا يقدح في اتصاف المانع بالحرمة بعد تعلّق النهي به فاللباس له فردان فرد حلال حقيقة وهو ما علم عدم كونه من أجزاء محرم الأكل وفرد حرام حقيقة وهو ما علم كونه كذلك وفرد مشكوك يجري فيه قوله (عليه السلام) : كلّ شيء فيه حلال وحرام . . .
ودعوى انّ الظاهر منه لزوم كون المنع المشكوك حكماً مستقلاًّ ناشئاً عن المبغوضية الذاتية فيختصّ اعتبار هذا الأصل بالشبهات التحريمية النفسية واضحة الفساد إذ لا دليل على صرف لفظ الحلال والحرام إلى بعض أفرادهما .
ويشهد لذلك أي لعمومية لفظ الحلال والحرام وعدم اختصاصهما بالنفسيين الاستعمالات الكثيرة في ألسنة الرواة وأجوبة الأئمّة (عليهم السلام) .
منها : مكاتبة محمد بن عبد الجبّار قال : كتبت إلى أبي محمّد (عليه السلام) أسأله هل يصلّى في قلنسوة عليها وبر ما لا يؤكل لحمه أو تكة حرير محض أو تكة من وبر الأرانب؟ فكتب : لا تحلّ الصلاة في الحرير المحض ، وإن كان الوبر ذكياً حلّت الصلاة فيه إن
( الصفحه 309 )
شاء الله .
ومنها : مرسلة موسى بن أكيل النميري عن أبي عبدالله (عليه السلام) في الحديد انّه حلية أهل النار ، والذهب انّه حلية أهل الجنّة ، وجعل الله الذهب في الدنيا زينة النساء فحرم على الرجال لبسه والصلاة فيه .
ومنها : غير ذلك من الروايات الواردة في الموارد الكثيرة التي يستفاد منها عموم لفظ الحلال والحرام انتهى .
ويرد عليه أوّلاً انّ انتزاع المانعية من التقيّد بالعدم ممنوع; لأنّ العدم ليس بشيء حتى يمكن تقيد المأمور به بل المانعية حكم شرعي مجعول مستفاد من دليلها وموضوعها الوجود لتضادّه مع المأمور به .
وثانياً : انّ الحكم بتبعّض الأمر وانبساطه واختصاص كلّ جزء من أجزاء المأمور به ببعضه أمر لا يساعده العرف والعقلاء ولعلّ منشأ الالتزام به ملاحظة انّ الأمر بالكلّ يكفي في الداعوية إلى الاجزاء من دون افتقار إلى شيء آخر مع أنّ الكفاية لا تستلزم التبعّض فإنّ الداعي إلى الاجزاء كما عرفت هو الأمر المتعلّق بالكلّ بعين داعويته إليه ولا يلزم من ذلك أن يكون الأمر داعياً إلى غير متعلّقه لأنّ الأجزاء هي نفس الكلّ فالتبعّض ممّا لا يساعده العقلاء ، وعلى تقديره فتوسعة دائرة الانبساط بحيث تشمل الاجزاء الاعتبارية العقلية ممنوعة فتدبّر .
وثالثاً : انّه على تقدير التبعّض في المقام أيضاً فالأمر المتعلّق بالتقيّد لا يكاد يسري من متعلّقه إلى غيره ومجرّد كون وجود التقيّد عين وجود القيد لا يسوغ التسرية لعدم كون الأمر متعلّقاً بالوجود بل بالمفهوم والماهية والعينية في الوجود فضلاً عن الاتحاد والملازمة والمقارنة لا توجب سراية الأمر من متعلّقه إلى غيره ممّا هو عينه أو متّحد أو مقارن أو ملازم له مع أنّ لازم ذلك كون الشرائط متعلّقة
( الصفحه 310 )
لبعض الأمر النفسي فلا يبقى مجال للاتصاف بالوجوب الغيري فيها أيضاً كما لا يخفى .
ورابعاً : انّ تعلّق الأمر بالتقيّد بالعدم في باب الموانع لا يستلزم تعلّق النهي بها لعدم كون حقيقة النهي عبارة عن طلب الترك ، بل هي كما عرفت عبارة عن الزجر عن الوجود كما انّ معنى الأمر هو البعث إلى إيجاد الفعل المأمور به وكما انّ تعلّق بعض الأمر إلى وجود الشرط لا يقتضي تعلّق النهي بعدمه كذلك تعلّقه إلى عدم المانع لا يوجب تعلّق النهي بوجوده .
وخامساً : انّه على تقدير صحّة دعوى تعلّق النهي بالمانع نقول : إنّ مناط جريان أصالة الحلّية في المقام هو تحقّق عنواني الحلال والحرام لا ثبوت النهي وعدمه ولا ملازمة بين تعلّق النهي بالمانع وثبوت عنوان التحريم بالإضافة إليه واستعمال العنوانين في الروايات في الموارد الكثيرة في باب الشروط والموانع وإن كان ممّا لا مجال لإنكاره إلاّ انّ كون الوجه فيه هو ثبوت الأمر والنهي التكليفيين بالنحو الذي أفاده لم يقم عليه دليل لاحتمال أن يكون الوجه فيه هو كون المراد بالحلية والحرمة فيها هي الحلة والحرمة الوضعيتين كما عليه يبتني الوجه الثالث من وجوه الاستدلال بأصالة الحلية ـ على ما يأتي ـ فلا دلالة لتلك الروايات على ما أفاده (قدس سره)وقد تحصّل ممّا ذكرنا انّ هذا الوجه أيضاً غير تامّ .
الوجه الثالث ما يظهر من المحقّق القمّي (قدس سره) من أنّ المراد من الحلية والحرمة في قوله (عليه السلام) في رواية ابن سنان : «كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال . . .» ليس خصوص الحلّية والحرمة التكليفيتين أي ما يكون مبغوضاً بنفسه لأجل المفسدة الملزمة الباعثة على الزجر عنه لنفسه أو غير مبغوض كذلك ، بل يعمّ الحلّية والحرمة الوضعيتين أي ما يكون مبغوضاً لكونه مانعاً ـ مثلاً ـ عن حصول مطلوب
( الصفحه 311 )
المولى أو غير مبغوض كذلك فكما انّه إذا تردّد مائع بين كونه خمراً أو ماءاً يكون مقتضى الرواية جواز شربه وعدم وجوب الاجتناب عنه فكذا إذا تردّد أمر الثوب بين صحّة الصلاة الواقعة فيه لعدم كونه من أجزاء غير المأكول وبين بطلانها فيه لكونه من أجزائه يكون مدلول الرواية حلية الصلاة فيه لكون الثوب أيضاً شيئاً فيه حلال باعتبار عدم كونه مانعاً عنها وحرام باعتبار كونه مانعاً فالصلاة فيه حلال إلى أن تعرف الحرام منه بعينه فتدعها .
ونفى البعد عن الاعتماد على هذا الوجه سيّدنا الاستاذ (قدس سره) مع تتميمه بأن يقال : إنّ التتبّع والاستقراء في كلمات العرب واستعمالاتهم لفظي الحلال والحرام في النثر والنظم يقضي بأنّ هذه المادّة أي مادّة «حرم» في ضمن أيّة صيغة كانت يراد منها الممنوعية والمحدودية الثابتة للشيء بتمام الجهات أو بعضها كما يظهر بالتدبّر في قولهم : حرم الرجل ، حريم البيت أو القرية أو البلد ، المسجد الحرام ، الشهر الحرام ، محرومية الرجل في مقابل مرزوقيّته ، كونه محترماً وصالحاً للاحترام ، المحرم في مقابل المحلّ ، وفي الشرعيات كثير كقوله تعالى : }أحلّ الله البيع وحرّم الربوا {وقوله (صلى الله عليه وآله) : المسلم محرم عن المسلم والتعبير عن تكبيرة الافتتاح بتبكيرة الاحرام وعن التسليم الذي هو آخر أفعال الصلاة بالتحليل فإنّ المراد في جميع هذه الموارد هو نحو من الممنوعية والمحدودية الثابتة للشيء ببعض الجهات أو الآتية من قبله ، وفي مقابلها : الحلال والحلّ والمحلّ وأشباهها ممّا أخذت فيه مادّة هذه الصيغ فإنّ معناها هو الإطلاق والإرسال وعدم المحدودية الثابت له .
ويؤيّده الأخبار الواردة في الموارد الكثيرة الدالّة على حرمة الصلاة في الحرير أو فيما لا يؤكل لحمه أو في الذهب وقد تقدّم نقل بعضها في كلام المحقّق النائيني (قدس سره) و ـ حينئذ ـ فلا يبعد التمسّك بقوله (عليه السلام) : كلّ شيء فيه حلال وحرام . . . . لأنّ اللباس
( الصفحه 312 )
أيضاً شيء فيه حلال باعتبار عدم محدوديته وإطلاقه بالنسبة إلى الصلاة فيه وحرام باعتبار خلافه والمشكوك منه يكون كالمائع المردّد بين الخمر والماء .
ودعوى انّ إطلاق الحلال والحرام على الثوب باعتبار صحّة الصلاة فيه وبطلانها خلاف المتعارف إذ إطلاقهما على اللباس ينصرف إلى جواز لبسه وعدمه ولا يفهم منه جواز الصلاة فيه وعدمه .
مدفوعة بأنّه وإن كان خلاف المتعارف لكن اختصاص الحكم في أدلّة أصالة الحلية بما لا يكون كذلك ممنوع لأنّ المتفاهم منها عرفاً إثبات الحلّية الظاهرية في المشتبه من دون فرق بين مورد تعارف الإطلاق وعدمه أصلاً .
ويؤيّد ما أفاده سيّدنا الاستاذ وضوح عدم ثبوت الحقيقة الشرعية للّفظين وإن إطلاقهما في الشريعة إنّما هو على طبق ما هو معناهما بحسب اللغة والعرف ، غاية الأمر انّ المحدودية في لسان الدليل الشرعي ظاهرة في المحدودية الشرعية من دون أن يكون هذا الوصف داخلاً في المعنى بوجه وقد عرفت انّ اللغة والعرف متطابقان على كون معناهما نحواً من المحدودية وعدمه ، والظاهر انّ الأخبار المذكورة ناظرة إلى هذا الوجه لا إلى الوجه الذي اختاره المحقّق المزبور وإلاّ لكان المناسب جعل الحرمة متعلّقة فيها باللباس مع انّها ظاهرة في تعلّقها بالصلاة فيه فتدبّر .
في التمسّك بأصالة العدم في المقام
قد تقدّم انّ صاحب الجواهر (قدس سره) بنى الحكم بالصحّة وعدمها في مسألة اللباس المشكوك على الشرطية والمانعية نظراً إلى أنّه على تقدير الشرطية لابدّ من إحراز الشرط ولا يكفي احتماله في مقام الامتثال ، وامّا على تقدير المانعية فيكفي أصالة عدم المانع ولو لم يكن له حالة سابقة .
أقول : لابدّ من ملاحظة الدليل على اعتبار هذا الأصل وما يمكن أن يستدلّ به