( الصفحه 522 )
الشكّ فإذا قام الدليل على وجوب الوفاء بكلّ عقد كما هو مفاد قوله تعالى : (أوفوا بالعقود)وقام الدليل على عدم وجوب الوفاء بعقد في زمان كما لو انعقد الاجماع أو دليل نفي الضرر ـ فرضاً ـ على عدم وجوب الوفاء بالعقد الذي ظهر فيه الغبن إلى ساعة ـ مثلا ـ فهذا الدليل الثاني لا يكون منافياً للعموم الافرادي اللغوي الذي هو مفاد الدليل الأوّل بل يكون منافياً للإطلاق الازماني الثابت له ولا محيص إلاّ للرجوع إلى الإطلاق في الشكّ في التقييد الزائد .
والشاهد لما ذكرنا من عدم كون إخراج الفرد في بعض الأحوال تخصيصاً للعام وتصرّفاً في العموم انّه لو فرض قيام الدليل على خروج جميع الأفراد في بعض الحالات لا يتوهّم أحد ثبوت المنافاة بينه وبين الدليل الأوّل ، فلو فرض ثبوت الخيار في تمام العقود في الساعة الاُولى بعد تحقّق العقد لا يكون ذلك منافياً لعموم أوفوا بالعقود أصلا فإذا لم يكن إخراج جميع الافراد كذلك منافياً فكيف يكون إخراج فرد واحد كذلك تصرّفاً في العام ولعمري هذا واضح .
فانقدح انّه على هذا التقدير لا يكون إخراج النافلة في حال عدم الاستقرار منافياً لجواز التمسّك بالدليل لإثبات اعتبار الاستقبال فيها في حال الاستقرار لأنّ مقتضى أصالة الإطلاق ثبوت حكم العام في غير تلك الحال كما عرفت ، هذا كلّه لو كان المنفي هي النكرة وقلنا بإفادتها مع وقوعها في سياق النفي للعموم .
وامّا لو كان المنفي هو الجنس والطبيعة فامّا أن يقال بأنّ الطبيعة المنفية هي الطبيعة بلحاظ سريانهما في الافراد وجريانها في المصاديق ، وامّا أن يقال بأنّها هي نفس الطبيعة والماهية مع قطع النظر عن السريان والجريان .
فعلى الأوّل يرجع هذا الفرض إلى الفرض الأوّل وهو العموم الافرادي بلحاظ كلّ فرد; لأنّ معنى السريان هو الشمول لكلّ فرد وقيام الدليل على منع السريان في
( الصفحه 523 )
طائفة من الافراد لا يوجب إهمال الدليل بلحاظ الافراد التي لم يقم فيها دليل على منع السريان لأنّ الشكّ في الشمول لهذه الافراد شكّ في مانع مستقلّ ومقتضى الدليل هو عدمه كما لا يخفى .
وعلى الثاني يكون الموضوع صرف الطبيعة بلا تكثّر فيه ولا عموم وسريان ، فمع قيام الدليل على خروج النافلة في حال عدم الاستقرار لابدّ امّا من الالتزام بخروج هذه الحال عن مطلق الصلاة والقول بأنّ صلاة الفريضة في حال عدم الاستقرار لا يعتبر فيها الاستقبال ، وامّا من الالتزام بصيرورة ذلك الدليل قرينة على اختصاص الموضوع المنفي بخصوص صلاة الفريضة والحكم بأنّ الدليل لا يدلّ على أزيد من اعتبار الاستقلال فيها و ـ حينئذ ـ فيصحّ للمورد أن يقول : بأنّه حيث لا يصحّ الالتزام الأوّل فلابدّ من الالتزام الثاني ولكن الجواب عنه ـ حينئذ ـ أن يقال : إنّه على تقدير تسليم كون هذا التركيب ظاهراً في نفي الجنس والطبيعة ولكن لا نسلّم ظهوره في عدم كون نفي الجنس بلحاظ السريان ، بل هو الظاهر منه خصوصاً مع ملاحظة ورود الدليل المذكور في النافلة الشاهد على كون الطبيعة الملحوظة إنّما هي الطبيعة السارية لا صرف الماهية . فانقدح من جميع ما ذكرنا صحّة التمسّك بالصحيحة لمذهب المشهور .
الثالث : حديث لا تعاد باعتبار كون الموضوع فيه هو مطلق الصلاة والقبلة من الاُمور الخمسة المستثناة فيه الموجبة للإعادة .
وأورد عليه المحقّق الهمداني (قدس سره) بظهوره في الفريضة التي من شأنها وجوب الإعادة عند الإخلال بشيء من أجزائها وشرائطها ويؤيّده عدّ الوقت من الخمس .
ويدفعه ما عرفت من أنّ الإعادة بما هي إعادة لا يمكن أن يتعلّق بها الحكم
( الصفحه 524 )
الوجوبي الشرعي إثباتاً أو نفياً فمرجع وجوب الإعادة إلى ثبوت خلل في المأتي به من حيث الجزء أو الشرط ، كما انّ مرجع عدم وجوبها إلى تمامية المأتي به وعدم وجود الخلل فيه ، وعليه فحديث لا تعاد لا دلالة له إلاّ على تمامية العمل من غير ناحية الإخلال بأحد الاُمور الخمسة المستثناة فيه ولا فرق في ذلك بين الفريضة والنافلة لكون الموضوع مطلق الصلاة وطبيعتها .
نعم يمكن الإيراد على الاستدلال به لمثل المقام بأنّه يبتني على أن يكون الحديث بصدد بيان المستثنى ككونه بصدد بيان المستثنى منه بمعنى انّه كما يكون في مقام إفادة عدم الإعادة من غير ناحية الإخلال بأحد الاُمور الخمسة كذلك يكون في مقام بيان ثبوت الإعادة من ناحية الإخلال بأحدها حتّى يجوز التمسّك بإطلاقه لثبوت الإعادة في مثل المقام لتحقّق الإخلال بالقبلة التي هي إحداها ولكن الظاهر عدم ثبوت هذا المعنى في الحديث ، هذا وقد استدلّ المشهور باُمور اُخر أيضاً لكنّها غير مهمّة .
وقد استدلّ للقول بعدم الاعتبار على ما هو ظاهر المحقّق في الشرائع وفاقاً للمحكي عن جملة من قدماء الأصحاب ومتأخّريهم باُمور أيضاً .
منها : أصالة البراءة عن وجوب الاستقبال .
وأورد عيه سيّدنا العلاّمة الاستاذ (قدس سره) بأنّها ممّا لا تتمّ لأنّ مدركها امّا حكم العقل بقبح العقاب من دون بيان ، وامّا حديث الرفع ونظائره الأوّل غير جار في المقام لأنّ الكلام في شرطية الاستقبال في النافلة وهي لا يترتّب على تركها عقاب أصلا وكذا الثاني لأنّ حديث الرفع مسوق لرفع التضييق وهو معدوم في النوافل من الأصل .
ولكن الظاهر تمامية ما أفاده فيما إذا كان الشكّ في أصل ثبوت الاستحباب بالإضافة اخلى فعل لعدم جريان شيء من البراءة العقلية والبراءة النقلية فيه ، وامّا
( الصفحه 525 )
إذا كان الشكّ في شرطية شيء في الفعل الذي ثبت أصل استحبابه أو جزئيته له فالظاهرانّه لا مانع من جريان مثل حديث الرفع فيه لأنّ الشرطية والجزئية ولو في المستحبّ إنّما يكون بنحو اللزوم بمعنى انّ اعتبارهما فيه إنّما هو بنحو اللابدية ومرجعه إلى عدم إمكان تحقّق المستحبّ بدونهما ولذا يعبّر عن حكم الشرط فيه بالوجوب الشرطي لا الاستحباب ، وعليه فثبوت الشرطية والجزئية موجب للضيق وإن كان لا يجب على المكلّف أصل الإتيان ولا منافاة بين الأمرين وـ حينئذ ـ فلا مانع من جريان حديث الرفع ودلالته على رفع الضيق في صورة الشكّ في ثبوته . وبالجملة لا فرق في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيين بين أن يكون ذلك في الواجب أو المستحبّ ، نعم الفرق إنّما هو في البراءة العقلية التي هي ناظرة إلى العقاب الذي يختصّ بالواجب .
فانقدح صحّة التمسّك بأصالة البراءة إلاّ انّه يبتني على عدم وجود الدليل على اعتبار الاستقبال فيما هو محلّ البحث وقد مرّ دلالة كثير من أدلّة المشهور عليه فلا موقع لها معه أصلا .
ومنها : الروايات التي يستفاد منها ذلك وهي كثيرة :
مثل ما رواه الصدوق باسناده عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) انّه قال له : استقبل القبلة بوجهك ولا تقلب بوجهك عن القبلة فتفسد صلاتك فإنّ الله عزّوجلّ يقول لنبيّه في الفريضة : (فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولّوا وجوهكم شطره) (الحديث) . فإنّ تفسير الآية بورودها في الفريضة شاهد على عدم اعتبار الاستقبال في غيرها .
وحسنة الحلبي أو صحيحته عن أبي عبدالله (عليه السلام) في حديث قال قال : إذا التفت في صلاة مكتوبة من غير فراغ فأعد الصلاة إذا كان الالتفات فاحشاً وإن كنت قد
( الصفحه 526 )
تشهدت فلا تعد .
وما نقله ابن إدريس في آخر السرائر من كتاب الجامع للبزنطي صاحب الرضا (عليه السلام) قال : سألته عن الرجل يلتفت في صلاته هل يقطع ذلك صلاته؟ قال : إذا كان الفريضة والتفت إلى خلفه فقد قطع صلاته فيعيد ما صلّى ولا يعتدّ به وإن كانت نافلة لا يقطع ذلك صلاته ولكن لا يعود . وتعلّق النهي بالعود ظاهر في كون المفروض في السؤال هو الالتفات عمداً ولكنّه محمول على الكراهة لعدم الحرمة على فرض عدم قطع الصلاة كما هو صريح الرواية والحكم بعدم القطع في النافلة مع الالتفات كذلك إلى الخلف لا يكاد يجتمع مع اعتبار الاستقبال فيها أيضاً كما هو ظاهر .
وما رواه الشيخ (قدس سره) في النهاية عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى : (فأينما تولوا فثم وجه الله) قال : هذا في النوافل خاصّة في حال السفر فامّا الفرائض فلابدّ فيها من استقبال القبلة . فإنّ إطلاقه يشمل النافلة في حال الاستقرار والتقييد بحال السفر ليس لأجل اختصاص الحكم به ، بل لأجل غلبة وقوع النوافل في حال السفر إلى غير القبلة ، ولذا لا يكون الاستقبال شرطاً لها في الأمصار أيضاً في حال عدم استقرار المصلّي بلا خلاف كما عرفت ويؤيّده التقابل بين الفريضة ومطلق النافلة .
وغير ذلك من الروايات التي تدلّ على ذلك ولكن إعراض المشهور عنها وعدم الفتوى على طبقها مع وضوح دلالتها وصحّة سند أكثرها يوجب الوهن فيها خصوصاً مع ما عرفت من إنكار المتشرّعة الصلاة إلى غير القبلة في حال الاستقرار ولا فرق عندهم بين الفريضة والنافلة في هذه الجهة أصلا ، وعليه فالظاهر ما هو المشهور فتدبّر .
ثمّ إنّه وقع الخلاف أو الإشكال في جواز صلاة النافلة مع عدم الاستقرار إلى