( الصفحه 525 )
إذا كان الشكّ في شرطية شيء في الفعل الذي ثبت أصل استحبابه أو جزئيته له فالظاهرانّه لا مانع من جريان مثل حديث الرفع فيه لأنّ الشرطية والجزئية ولو في المستحبّ إنّما يكون بنحو اللزوم بمعنى انّ اعتبارهما فيه إنّما هو بنحو اللابدية ومرجعه إلى عدم إمكان تحقّق المستحبّ بدونهما ولذا يعبّر عن حكم الشرط فيه بالوجوب الشرطي لا الاستحباب ، وعليه فثبوت الشرطية والجزئية موجب للضيق وإن كان لا يجب على المكلّف أصل الإتيان ولا منافاة بين الأمرين وـ حينئذ ـ فلا مانع من جريان حديث الرفع ودلالته على رفع الضيق في صورة الشكّ في ثبوته . وبالجملة لا فرق في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيين بين أن يكون ذلك في الواجب أو المستحبّ ، نعم الفرق إنّما هو في البراءة العقلية التي هي ناظرة إلى العقاب الذي يختصّ بالواجب .
فانقدح صحّة التمسّك بأصالة البراءة إلاّ انّه يبتني على عدم وجود الدليل على اعتبار الاستقبال فيما هو محلّ البحث وقد مرّ دلالة كثير من أدلّة المشهور عليه فلا موقع لها معه أصلا .
ومنها : الروايات التي يستفاد منها ذلك وهي كثيرة :
مثل ما رواه الصدوق باسناده عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) انّه قال له : استقبل القبلة بوجهك ولا تقلب بوجهك عن القبلة فتفسد صلاتك فإنّ الله عزّوجلّ يقول لنبيّه في الفريضة : (فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولّوا وجوهكم شطره) (الحديث) . فإنّ تفسير الآية بورودها في الفريضة شاهد على عدم اعتبار الاستقبال في غيرها .
وحسنة الحلبي أو صحيحته عن أبي عبدالله (عليه السلام) في حديث قال قال : إذا التفت في صلاة مكتوبة من غير فراغ فأعد الصلاة إذا كان الالتفات فاحشاً وإن كنت قد
( الصفحه 526 )
تشهدت فلا تعد .
وما نقله ابن إدريس في آخر السرائر من كتاب الجامع للبزنطي صاحب الرضا (عليه السلام) قال : سألته عن الرجل يلتفت في صلاته هل يقطع ذلك صلاته؟ قال : إذا كان الفريضة والتفت إلى خلفه فقد قطع صلاته فيعيد ما صلّى ولا يعتدّ به وإن كانت نافلة لا يقطع ذلك صلاته ولكن لا يعود . وتعلّق النهي بالعود ظاهر في كون المفروض في السؤال هو الالتفات عمداً ولكنّه محمول على الكراهة لعدم الحرمة على فرض عدم قطع الصلاة كما هو صريح الرواية والحكم بعدم القطع في النافلة مع الالتفات كذلك إلى الخلف لا يكاد يجتمع مع اعتبار الاستقبال فيها أيضاً كما هو ظاهر .
وما رواه الشيخ (قدس سره) في النهاية عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى : (فأينما تولوا فثم وجه الله) قال : هذا في النوافل خاصّة في حال السفر فامّا الفرائض فلابدّ فيها من استقبال القبلة . فإنّ إطلاقه يشمل النافلة في حال الاستقرار والتقييد بحال السفر ليس لأجل اختصاص الحكم به ، بل لأجل غلبة وقوع النوافل في حال السفر إلى غير القبلة ، ولذا لا يكون الاستقبال شرطاً لها في الأمصار أيضاً في حال عدم استقرار المصلّي بلا خلاف كما عرفت ويؤيّده التقابل بين الفريضة ومطلق النافلة .
وغير ذلك من الروايات التي تدلّ على ذلك ولكن إعراض المشهور عنها وعدم الفتوى على طبقها مع وضوح دلالتها وصحّة سند أكثرها يوجب الوهن فيها خصوصاً مع ما عرفت من إنكار المتشرّعة الصلاة إلى غير القبلة في حال الاستقرار ولا فرق عندهم بين الفريضة والنافلة في هذه الجهة أصلا ، وعليه فالظاهر ما هو المشهور فتدبّر .
ثمّ إنّه وقع الخلاف أو الإشكال في جواز صلاة النافلة مع عدم الاستقرار إلى
( الصفحه 527 )
غير القبلة إذا كانت متعلّقة للنذر وغيره وانّه هل لا يكون الاستقبال معتبراً فيها كذلك ، وكذا في اعتبار الاستقبال فيما إذا صارت الفريضة مستحبّة كصلاة المعادة جماعة بعد الإتيان بها فرادى ومنشأ الإشكال انّ عنوان الفريضة المأخوذ في الأدلّة هل يكون المراد به ما هو واجب بالفعل ويلزم على المكلّف الإتيان به كذلك أو انّ التعبير به إنّما هو للإشارة إلى العناوين المفروضة بالذات وكذا عنوان النافلة المأخوذ في دليل عدم اعتبار الاستقبال هل المراد به ما هو مستحبّ بالفعل ولو كان بحسب عنوانه واجباً أو أنّه إشارة إلى العناوين المستحبّة كصلاة الليل ونحوها ، فعلى الأوّل تلزم رعاية الاستقبال في النافلة لامنذورة لوجوبها بالفعل ولزوم الإتيان بها على المكلّف كذلك كما انّه لا تلزم رعايته في الصلاة المعادة لعدم وجوبها فعلا ، وعلى الثاني ينعكس الحكم فيعتبر في الثاني دون الأوّل كما لا يخفى ، هذا ما يستفاد من كلماتهم .
ولكن الظاهر انّه لا مجال لهذا البحث أصلا لعدم صيرورة النافلة واجبة أصلا ولو كانت متعلّقة للنذر ونحوه وذلك لما مرّ سابقاً من أنّ تعلّق النذر بالنافلة لا يوجب صيرورة النافلة واجبة فإنّ الوجوب الجائي من قبل النذر إنّما يكون متعلّقاً بالوفاء بالنذر الذي هو عنوان خاصّ ، ومجرّد تحقّق الوفاء بالنذر خارجاً بسبب الإتيان بالمنذور لا يوجب تغيّر حكمه لعدم سراية الحكم من متعلّقه إلى شيء آخر ولو كان متّحداً معه وجوداً بل لا يعقل التغيّر فإنّ اتصاف صلاة الليل ـ مثلا ـ بالاستحباب إنّما يكون له دخل في صحّة النذر وانعقاده ووجوب الوفاء به وذلك لاعتبار الرجحان في متعلّقه الذي هو ملازم لثبوت الاستحباب في المقام ، وعليه فكيف يمكن أن يكون الوجوب المتفرّع على الاستحباب موجباً لزواله وقيامه مقامه واجتماعهما أيضاً مستحيل بداهة ، وعليه فلا يعقل أن يكون النذر مغيّراً
( الصفحه 528 )
للاستحباب الثابت للمنذور قبل تعلّق النذر ، فكما انّ تعلّق النذر بالفعل الواجب لا يوجب زوال وجوبه وقيام الوجوب النذري مقامه فكذلك إذا كان المنذور مستحبّاً فإنّه لا يتغيّر حكمه الاستحبابي بسبب تعلّق النذر .
فانقدح انّ النافلة لا تصير واجبة بوجه حتّى يبحث في اعتبار الاستقبال فيها مطلقاً أو في حال عدم الاستقرار ووجوب صلاة الليل أو خصوص الوتر على النبي (صلى الله عليه وآله) لا دلالة له على صيرورة النافلة واجبة فإنّ صلاة الليل عنوان خاص يختلف حكمه باختلاف الافراد فبالاضافة إلى النبي (صلى الله عليه وآله) يكون واجباً وبالنسبة إلى غيره يكون مستحبّاً فالنافلة لم تصر واجبة بل ما كانت نافلة في حقّنا تكون واجبة في حقّه (صلى الله عليه وآله) وهو غير ما نحن فيه ، هذا والظاهر انّ الفريضة أيضاً لا تصير مستحبّة حتّى يبحث فيها كذلك وصلاة المعادة جماعة لا تكون شاهدة على هذا أمر وذلك لأنّ متعلّق الاستحباب ليس هي نفس صلاة الظهر ـ مثلا ـ الفريضة التي أتى بها فرادى بل متعلّقه هو عنوان الإعادة جماعة وهذا يغاير عنوان الصلاة التي هي فريضة كعنوان الجماعة المستحبّ فيها .
وبعبارة اُخرى الصلاة المعادة لها حيثيتان فباعتبار كونها صلاة الظهر فريضة واجبة وباعتبار كونها تكراراً لصلاة الظهر وإعادة لها جماعة مستحبّة ولا يلزم من ذلك وجوب الإتيان بها ثانياً فإنّ متعلّق الوجوب هي نفس العنوان من دون مدخلية التعدّد والتكرّر فلا وجه للزوم الإتيان بها كذلك فصلاة الفريضة لا تصير مستحبّة بوجه فلا مجال للبحث المذكور أصلا .
ثمّ إنّه لم يقع التعرّض في المتن للقبلة وانّها أيّ شيء وكذا للخصوصيات المعتبرة في الاستقبال وكذا للبحث عن المستقبل بالكسر وانّه هل يكون فرق بين القريب والبعيد أم لا ونحن نتعرّض لها في ضمن اُمور :
( الصفحه 529 )
الأوّل : انّه لا شكّ في أنّ قبلة المسلمين هي الكعبة المشرّفة والظاهر انّه لا فرق في ذلك بين من كان في المسجد ومن كان في الحرم خارجاً عن المسجد ومن كان خارجاً عنهما وقد حكى ذلك عن السيّد وابن الجنيد وأبي الصلاح وابن إدريس والمحقّق في بعض كتبه ونسب إلى المتأخّرين بل إلى الأكثر والمشهور ، ولكنه حكى عن الشيخين وجماعة من القدماء وبعض المتأخّرين انّ الكعبة قبلة لمن في المسجد والمسجد قبلة لمن في الحرم والحرم قبلة لمن خرج عنه ، وفي الشرائع انّه الأظهر ، وفي الذكرى نسبه إلى أصحابنا ، وعن الخلاف الإجماع عليه ونقول :
امّا الآيات الواردة في القبلة فمفاد جميعها هو وجوب تولية الوجه شطر المسجد الحرام ومحلّ نزولها إنّما هي المدينة المنوّرة التي تكون خارجة عن الحرم فمن جهة دلالتها على وجوب التوجّه شطر المسجد يدلّ على أنّ الحرم لا يكون قبلة بوجه والظاهر انّ المراد بالمسجد الحرام فيها هي نفس البيت شرّفه الله تعالى والتعبير عنه به إنّما هو لأجل قلّة التفاوت بينهما من حيث المقدار لأنّ عدم دلالتها على حكم من يصلّي في نفس المسجد بل كانت الصلاة ـ حينئذ ـ في المسجد كالصلاة في جوف الكعبة كما هو ظاهر . فانقدح انّ المراد من المسجد في الآيات الواردة إنّما هي الكعبة ويؤيّده انّ تولية الوجه شطره في مثل المدينة يوجب التولية شطر الكعبة فتدبّر .
وامّا الروايات فكثيرة منها تدلّ على المشهور بل ربّما تبلغ عشرين رواية مثل رواية معاوية بن عمّار عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : قلت له : متى صرف رسول الله (صلى الله عليه وآله)إلى الكعبة؟ قال : بعد رجوعه من بدر . وفي نقل آخر عنه ـ الذي جعله في الوسائل رواية مستقلّة مع أنّها لا تكون كذلك ـ زيادة : وكان يصلّي في المدينة إلى بيت المقدس سبعة عشر شهراً ثمّ اُعيد إلى الكعبة . فإنّ دلالتها على انّه (صلى الله عليه وآله) قد صرف إلى الكعبة مع كونه في المدينة واضحة وكان ذلك مسلّماً عند الراوي ولذا لم يسئل