( الصفحه 535 )
الخامس : قد وقع الاختلاف ـ بعد الاتفاق على أنّ قبلة القريب هي عين الكعبة أو الحرم ـ في أنّ قبلة البعيد هل هي كالقريب من عين الكعبة أو الحرم أو انّها هي جهة الكعبة كما هو المشهور بين الفقهاء وقد وقع الاختلاف في تفسير الجهة أيضاً فالمحكي عن جمع من الكتب انّها ما يظنّ به الكعبة أو ما يظنّ انّه الكعبة أو انّها السمت الذي يظنّ كون الكعبة فيه ، وعن جامع المقاصد انّ جهة القبلة هي المقدار الذي شأن البعيد أن يجوز على كلّ بعض منه أن يكون هو الكعبة بحيث يقطع بعدم خروجها عن مجموعه ومثلها في الروضة بزيادة ذكر منشأ القطع وهي الامارة الشرعية .
ومقتضى هذه التفاسير باعتبار أخذ الظنّ أو الاحتمال في معنى الجهة هو اختلاف معناها باختلاف المكلّفين من جهة هذه الحالات لأنّه قد يعلم بوجود الكعبة في ربع الدائرة وقد يعلم بوجودها في خمسها وهكذا فالجهة تختلف سعةً وضيقاً باختلاف آحاد المصلّين مع أنّ الظاهر انّ الشطر الذي أمر بتولية الوجه إليه أمر واقعي لا ارتباط له بحال المكلّف من حيث العلم والجهل والآية ناظرة إليه .
وأغرب التعارف ما حكاه صاحب الجواهر (قدس سره) عن الفاضل المقداد وما حكي عن ابن فهد من أنّ جهة الكعبة التي هي القبلة للبعيد خط مستقيم يخرج من المشرق إلى المغرب ويمرّ بسطح الكعبة ويعتبر انّ يخرج من موقف المصلّي خط مستقيم آخر واقع على الخط المذكور على نحو يحدث بين جنبيه زاويتان قائمتان فلو كان الخط الخارج من موقف المصلّي واقعاً على الخطّ المذكور بحيث تحدث زاويتان إحداهما حادّة والاُخرى منفرجة لا يتحقّق التوجّه نحو الكعبة ولم يكن المصلّي مستقبلا إليها .
وجه الأغربية انّه لو كان موقف المصلّي قريباً من المشرق فرضاً وعلم بفعل
( الصفحه 536 )
المعصوم أو غيره انّ الكعبة واقعة قريب المغرب يلزم على هذا بطلان الصلاة لو توجّه نحو الكعبة لأنّ الخط الذي يخرج من موقف المصلّي ويقع على الكعبة ليس بحيث يحدث بين طرفيه زاويتان قائمتان بل تحدث من طرف اليمين زاوية منفرجة ومن اليسار حادّة والتالي باطل بالضرورة .
وأجود التعاريف ما ذكره المحقّق في المعتبر من أنّها السمت الذي فيه الكعبة ومراده من السمت إحدى الجهات الست فإنّ الشخص إذا أحاطت به دائرة ووقع في مركزها يكون كلّ ربع من الدائرة إحدى الجهات الأربع لذلك الشخص من اليسار واليمين والقدام والخلف فالمراد بالسمت هو الربع الذي وقعت الكعبة في جزء منه فيكفي بناء عليه توجّه الوجه نحو ذلك الربع .
وتوضيحه على ما أفاده سيّدنا العلاّمة الاستاذ البروجردي (قدس سره) انّ الوجه كما عرفت يكون ربع الدائرة المحيطة بالرأس تقريباً وهي تتشكّل من الوجه واليمين واليسار والعنق أو القفا وقد مرّ انّ الخطوط الخارجة من كلّ جزء من أجزاء محيط الدائرة لا تكون بنحو التوازي ، بل على نحو كلّما كان طوله أكثر كان الفصل بينها أزيد ، ولكن لو فرض ثبوت دائرة كبيرة محيطة بهذه الدائرة لكان منتهى الخطوط الخارجة من الدائرة الصغيرة متساوية من حيث النسبة مع مبدأ الخطوط بمعنى انّ الخطوط الخارجة من الدائرة الصغيرة الواقعة على الدائرة الكبيرة إذا خرجت من ربعها يكون منتهاها أيضاً ربع الدائرة الكبيرة وهكذا إذا كان القوس الذي هو مبدئها ثلث الصغيرة يكون القوس الذي هو منتهاها ثلث الكبيرة فالنسبة محفوظة وإن كانت الخطوط غير متوازية ، وعلى ما ذكر فالدائرة الكبيرة في المقام هي دائرة الأرض لكونها كروية ، لكن المقصود منها خصوص الدائرة التي تمرّ بسطح الكعبة وتقع الكعبة في جزء من أجزاء محيطها فالمصلّي إذا وقف في مركز هذه الدائرة يكون
( الصفحه 537 )
كلّ ربع من دورة رأسه محاذياً لربع الدائرة الكبيرة ولا محالة إذا وقف محاذياً للربع المشتمل على الكعبة تقع إحدى الخطوط الخارجة من أجزاء وجهه على نفس الكعبة لما عرفت من عدم كون الفصل بين الخطوط الخارجة من ربع الدائرة الصغيرة أزيد من ربع الدائرة الكبيرة فلا محالة تقع إحدى خطوط الوجه على عين الكعبة ، غاية الأمر الفرق بين القريب والبعيد إنّما هو في أنّ القريب يلزم عليه أن يكون الخط الخارج من وسط وجهه واقعاً على الكعبة ، وامّا البعيد فيكفي له وقوع إحدى الخطوط الخارجة من أجزاء وجهه ولو كان من طرف اليمين أو اليسار .
وبالجملة فالمراد من الجهة هو القدام الذي يكون إحدى الجهات الأربع وهو الربع من الدائرة المحيطة بالمصلّي المارّة على عين الكعبة ومرجع الاكتفاء بالجهة إلى الاكتفاء بالتوجّه نحو ذلك الربع لوقوع إحدى الخطوط على الكعبة لا محالة كما عرفت .
ويدلّ على ذلك ـ مضافاً إلى لزوم الحرج الشديد والعسر الأكيد لو أوجبنا خروج ذلك الخطّ من وسط الوجه بالإضافة إلى البعيد أيضاً وهو منفي في الشريعة ـ اُمور :
الأوّل : الآيات الشريفة الآمرة بتولية الوجه شطر المسجد الحرام فإنّ الشطر بمعنى الناحية والجانب ، ومن المعلوم انحصار الجوانب في الأربع كما عرفت ، فجانب الكعبة هو الربع المشتمل عليها وليس المراد وقوع الكعبة في وسطه فإنّه مع إحراز ذلك لا يبقى مجال للتوجّه إلى الجانب ضرورة انّ التوجّه ـ حينئذ ـ إلى نفس الكعبة فالمراد هو الربع الذي وقعت الكعبة في جزء منه ، وعليه فمفاد الآيات الاكتفاء بالتوجّه نحو ذلك الربع .
الثاني : الروايات الدالّة على وجوب الصلاة إلى أربع جهات مع اشتباه القبلة
( الصفحه 538 )
وتعذّر الترجيح نظراً إلى أنّ ظاهرها انّه مع الإتيان بالصلوات الأربع والصلاة إلى أربع جهات يكون المصلّي مدركاً للصلاة إلى القبلة الواقعية وتصير صلاته واجدة لشرط الاستقبال وهذا إنّما يتمّ بناء على ما ذكرنا من أنّ القبلة هو الربع المشتمل على الكعبة وانّه يكفي وقوع الخط الخارج من جزء من أجزاء الوجه عليها وإن لم يكن ذلك الجزء وسط الوجه ، وامّا بناء على كون القبلة أضيق من الربع وأقلّ من ذلك المقدار يلزم الإتيان بأكثر من الصلوات الأربع كما لا يخفى ، فهذه الروايات شاهدة على ما ذكرنا .
الثالث : الروايات الدالّة على أنّ ما بين المشرق والمغرب قبلة كصحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) انّه قال : لا صلاة إلاّ إلى القبلة قال : قلت : أين حدّ القبلة؟ قال : ما بين المشرق والمغرب قبلة كلّه قال : قلت : فمن صلّى لغير القبلة أو في يوم غيم في غير الوقت؟ قال : يعيد .
وصحيحة معاوية بن عمّار انّه سأل الصادق (عليه السلام) عن الرجل يقوم في الصلاة ثمّ ينظر بعدما فرغ فيرى انّه قد انحرف عن القبلة يميناً أو شمالا؟ فقال له : قد مضت صلاته وما بين المشرق والمغرب قبلة .
والبحث في هاتين الروايتين يقع من جهات :
الاُولى : في المراد من المشرق والمغرب المذكورين فيهما والظاهر انّه ليس المراد منهما منتهى الخطّ الذي يقع من طرف اليمين واليسار بالإضافة إلى الشخص الذي وقع في مركز الدائرة متوجّهاً إلى جانب القبلة وإن كان هو المفهوم منهما عند العرف فإنّ المتفاهم عندهم من المشرق والمغرب هما الطرفان اللّذان يتقاطع الخط الخارج منهما مع الخطّ الذي يخرج من نقطة الشمال إلى الجنوب ، وعليه فيكون ما بينهما عبارة عن نصف الدائرة تقريباً ، بل الظاهر انّ المراد منهما كلّ ما يصدق عليه انّه
( الصفحه 539 )
مشرق للشمس أو مغرب لها ، ومن المعلوم انّ لها مشارق مختلفة ومغارب متفاوتة تطلع كلّ يوم من إحدى الاُولى وتغرب في إحدى الثانية ، فالمراد ممّا بينهما هو المقدار الذي لا يصدق على جزء منه انّه مشرق للشمس أو مغرب لها . وبعبارة اُخرى : المراد من المشرق هو ربع الدائرة الذي يكون مشرقاً ومن المغرب كذلك ، فالمراد ممّا بينهما هو الربع الواقع بين الربعين الذي لا يصدق على جزء منه شيء من العنوانين .
ويدلّ على تعدّد المشارق والمغارب ـ مضافاً إلى كونه محسوساً لا ريب فيه ـ قوله تعالى : (فلا أقسم بربّ المشارق والمغارب اننا لقادرون)(1) بناء على ما حكي عن بعض المفسِّرين من كون المراد مطالع الشمس ومغاربها باختلاف أيّام السنة وتعدّد الفصول وإن كان في حمل الآية على ذلك تأمّل إلاّ انّ التعدّد غير قابل للإنكار ، وعليه فالظاهر انّ المراد ممّا بينهما هو المقدار الخارج عن العنوانين وهو لا ينطبق إلاّ على ربع الدائرة المفروضة كما لا يخفى .
الثانية : في أنّ مفاد الروايتين هل هو كون ما بين المشرق والمغرب قبلة مطلقاً في جميع الحالات وعلى جميع لمكلّفين بمعنى انّ الحكم الأوّلي الثابت على الجميع هو أنّ القبلة ما بين المشرق والمغرب فهو قبلة واقعية لا يختلف فيها الحالات أو انّ المراد كونه قبلة في الجملة؟ ربّما يقال بالثاني; نظراً إلى أنّ مفاد الروايتين مجرّد صدق عنوان الصلاة على الصلاة الواقعة إلى ما بين المشرق والمغرب ، وامّا كون ذلك الصدق ثابتاً بنحو الإطلاق وفي جميع الموارد فلا يستفاد منهما أصلا ويمكن أن يختصّ ذلك بحال الاشتباه أو خطأ المجتهد في اجتهاده أو غيرهما من الأعذار .