( الصفحه 537 )
كلّ ربع من دورة رأسه محاذياً لربع الدائرة الكبيرة ولا محالة إذا وقف محاذياً للربع المشتمل على الكعبة تقع إحدى الخطوط الخارجة من أجزاء وجهه على نفس الكعبة لما عرفت من عدم كون الفصل بين الخطوط الخارجة من ربع الدائرة الصغيرة أزيد من ربع الدائرة الكبيرة فلا محالة تقع إحدى خطوط الوجه على عين الكعبة ، غاية الأمر الفرق بين القريب والبعيد إنّما هو في أنّ القريب يلزم عليه أن يكون الخط الخارج من وسط وجهه واقعاً على الكعبة ، وامّا البعيد فيكفي له وقوع إحدى الخطوط الخارجة من أجزاء وجهه ولو كان من طرف اليمين أو اليسار .
وبالجملة فالمراد من الجهة هو القدام الذي يكون إحدى الجهات الأربع وهو الربع من الدائرة المحيطة بالمصلّي المارّة على عين الكعبة ومرجع الاكتفاء بالجهة إلى الاكتفاء بالتوجّه نحو ذلك الربع لوقوع إحدى الخطوط على الكعبة لا محالة كما عرفت .
ويدلّ على ذلك ـ مضافاً إلى لزوم الحرج الشديد والعسر الأكيد لو أوجبنا خروج ذلك الخطّ من وسط الوجه بالإضافة إلى البعيد أيضاً وهو منفي في الشريعة ـ اُمور :
الأوّل : الآيات الشريفة الآمرة بتولية الوجه شطر المسجد الحرام فإنّ الشطر بمعنى الناحية والجانب ، ومن المعلوم انحصار الجوانب في الأربع كما عرفت ، فجانب الكعبة هو الربع المشتمل عليها وليس المراد وقوع الكعبة في وسطه فإنّه مع إحراز ذلك لا يبقى مجال للتوجّه إلى الجانب ضرورة انّ التوجّه ـ حينئذ ـ إلى نفس الكعبة فالمراد هو الربع الذي وقعت الكعبة في جزء منه ، وعليه فمفاد الآيات الاكتفاء بالتوجّه نحو ذلك الربع .
الثاني : الروايات الدالّة على وجوب الصلاة إلى أربع جهات مع اشتباه القبلة
( الصفحه 538 )
وتعذّر الترجيح نظراً إلى أنّ ظاهرها انّه مع الإتيان بالصلوات الأربع والصلاة إلى أربع جهات يكون المصلّي مدركاً للصلاة إلى القبلة الواقعية وتصير صلاته واجدة لشرط الاستقبال وهذا إنّما يتمّ بناء على ما ذكرنا من أنّ القبلة هو الربع المشتمل على الكعبة وانّه يكفي وقوع الخط الخارج من جزء من أجزاء الوجه عليها وإن لم يكن ذلك الجزء وسط الوجه ، وامّا بناء على كون القبلة أضيق من الربع وأقلّ من ذلك المقدار يلزم الإتيان بأكثر من الصلوات الأربع كما لا يخفى ، فهذه الروايات شاهدة على ما ذكرنا .
الثالث : الروايات الدالّة على أنّ ما بين المشرق والمغرب قبلة كصحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) انّه قال : لا صلاة إلاّ إلى القبلة قال : قلت : أين حدّ القبلة؟ قال : ما بين المشرق والمغرب قبلة كلّه قال : قلت : فمن صلّى لغير القبلة أو في يوم غيم في غير الوقت؟ قال : يعيد .
وصحيحة معاوية بن عمّار انّه سأل الصادق (عليه السلام) عن الرجل يقوم في الصلاة ثمّ ينظر بعدما فرغ فيرى انّه قد انحرف عن القبلة يميناً أو شمالا؟ فقال له : قد مضت صلاته وما بين المشرق والمغرب قبلة .
والبحث في هاتين الروايتين يقع من جهات :
الاُولى : في المراد من المشرق والمغرب المذكورين فيهما والظاهر انّه ليس المراد منهما منتهى الخطّ الذي يقع من طرف اليمين واليسار بالإضافة إلى الشخص الذي وقع في مركز الدائرة متوجّهاً إلى جانب القبلة وإن كان هو المفهوم منهما عند العرف فإنّ المتفاهم عندهم من المشرق والمغرب هما الطرفان اللّذان يتقاطع الخط الخارج منهما مع الخطّ الذي يخرج من نقطة الشمال إلى الجنوب ، وعليه فيكون ما بينهما عبارة عن نصف الدائرة تقريباً ، بل الظاهر انّ المراد منهما كلّ ما يصدق عليه انّه
( الصفحه 539 )
مشرق للشمس أو مغرب لها ، ومن المعلوم انّ لها مشارق مختلفة ومغارب متفاوتة تطلع كلّ يوم من إحدى الاُولى وتغرب في إحدى الثانية ، فالمراد ممّا بينهما هو المقدار الذي لا يصدق على جزء منه انّه مشرق للشمس أو مغرب لها . وبعبارة اُخرى : المراد من المشرق هو ربع الدائرة الذي يكون مشرقاً ومن المغرب كذلك ، فالمراد ممّا بينهما هو الربع الواقع بين الربعين الذي لا يصدق على جزء منه شيء من العنوانين .
ويدلّ على تعدّد المشارق والمغارب ـ مضافاً إلى كونه محسوساً لا ريب فيه ـ قوله تعالى : (فلا أقسم بربّ المشارق والمغارب اننا لقادرون)(1) بناء على ما حكي عن بعض المفسِّرين من كون المراد مطالع الشمس ومغاربها باختلاف أيّام السنة وتعدّد الفصول وإن كان في حمل الآية على ذلك تأمّل إلاّ انّ التعدّد غير قابل للإنكار ، وعليه فالظاهر انّ المراد ممّا بينهما هو المقدار الخارج عن العنوانين وهو لا ينطبق إلاّ على ربع الدائرة المفروضة كما لا يخفى .
الثانية : في أنّ مفاد الروايتين هل هو كون ما بين المشرق والمغرب قبلة مطلقاً في جميع الحالات وعلى جميع لمكلّفين بمعنى انّ الحكم الأوّلي الثابت على الجميع هو أنّ القبلة ما بين المشرق والمغرب فهو قبلة واقعية لا يختلف فيها الحالات أو انّ المراد كونه قبلة في الجملة؟ ربّما يقال بالثاني; نظراً إلى أنّ مفاد الروايتين مجرّد صدق عنوان الصلاة على الصلاة الواقعة إلى ما بين المشرق والمغرب ، وامّا كون ذلك الصدق ثابتاً بنحو الإطلاق وفي جميع الموارد فلا يستفاد منهما أصلا ويمكن أن يختصّ ذلك بحال الاشتباه أو خطأ المجتهد في اجتهاده أو غيرهما من الأعذار .
( الصفحه 540 )
وبالجملة فالعبارة الواقعة في الروايتين قضية مجملة لا دلالة لها على أنّها قبلة لجميع المصلّين في جميع الحالات ، هذا والظاهر انّ المراد هو المعنى الأوّل وتوضيحه :
انّ الإمام (عليه السلام) ذكر في رواية زرارة انّه لا صلاة إلاّ إلى القبلة وقد مرّ معناه وانّ مفاده توقّف انطباق عنوان الصلاة على كلّ فرد يؤتى به في الخارج بهذا العنوان على وقوعها إلى القبلة وظاهره هو الوقوع إلى القبلة الواقعية ثم سأل زرارة عن حدّ القبلة المذكورة في الكلام .
وبعبارة اُخرى سأل عن حدّ القبلة الواقعية وأجابه الإمام (عليه السلام) بأنّ ما بين المشرق والمغرب قبلة مع تأكيده بكلمة «كلّه» ومن الواضح ظهور الجواب عن ذلك السؤال في كونه بياناً للقبلة الواقعية بحيث لو حمل على كونه قبلة في بعض الحالات ولبعض المصلّين خصوصاً مع ندرة تلك الحالة وقلّة ذلك الفرد لا يلائم وقوعه جواباً لذلك السؤال أصلا فلابدّ من أن يكون المراد هو كون ما بينهما قبلة واقعية ويؤيّده السؤال بعد ذلك عن الصلاة إلى غير القبلة والجواب بوجوب الإعادة فتدبّر . وبالجملة لا مجال لإنكار ظهور صحيحة زرارة في كون المراد منها بيان القبلة الواقعية مطلقاً .
وامّا صحيحة معاوية بن عمّار فيمكن أن يقال : إنّ هذا التعبير بلحاظ وقوعه جواباً عن سؤال الانحراف عن القبلة يميناً أو شمالا ظاهر في أنّ القبلة أخصّ ممّا بين المشرق والمغرب ، غاية الأمر انّ الانحراف اليسير اشتباهاً لا يقدح في صحّة الصلاة ومضيها ، وعليه فلا دلالة لهذه الصحيحة على كون ما بينهما قبلة مطلقاً ، بل لها دلالة على عدمه وانّ القبلة أخصّ من ذلك العنوان .
ولكن الظاهر انّ المفروض في السؤال وإن كان هو الانحراف عن القبلة يميناً أو شمالا إلاّ انّ جواب الإمام (عليه السلام) ردع للسائل عمّا توهّمه من كون صلاته وقعت على
( الصفحه 541 )
غير القبلة ومفيد انّ ما بين المشرق والمغرب قبلة فلا يكون الانحراف المتوهّم متحقّقاً أصلا .
ويدلّ عليه ظهورها في كون الجملة بمنزلة التعليل للحكم بمضيّ الصلاة وما يصلح أن يكون تعليلا ليس إلاّ كون ما بينهما قبلة مطلقاً لا لخصوص المعذور فتدبّر .
فالإنصاف انّ دلالة الصحيحتين على كون ما بينهما قبلة واقعية مطلقاً ممّا لا مجال للمناقشة فيه أصلا .
الثالثة : في معارضة بعض الروايات للصحيحتين كرواية عمّار عن أبي عبدالله (عليه السلام)قال في رجل صلّى على غير القبلة فيعلم وهو في الصلاة قبل أن يفرغ من صلاته قال : إن كان متوجّهاً فيما بين المشرق والمغرب فليحوّل وجهه إلى القبلة ساعة يعلم وإن كان متوجّهاً إلى دبر القبلة فليقطع الصلاة ثمّ يحوّل وجهه إلى القبلة ثمّ يفتتح الصلاة . ورواية حسين بن علوان عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي (عليهم السلام) انّه كان يقول : من صلّى على غير القبلة وهو يرى انّه على القبلة ثمّ عرف بعد ذلك فلا إعادة عليه إذا كان فيما بين المشرق والمغرب .
فإنّ ظهور الروايتين في أنّ القبلة أخصّ ممّا بين المشرق والمغرب وانّ الانحراف عنها قد يكون إلى ما بينهما وقد يكون إلى غيرهما ممّا لا يكاد ينكر فتعارضان مع الصحيحتين المتقدّمتين .
وهل الجمع بينهما يقتضي جعل هاتين الروايتين شاهدتين على أنّ قضية كون ما بين المشرق والمغرب قبلة قضية مجملة لا دلالة لها على أنّه قبلة لجميع المكلّفين وفي جميع الحالات ، بل مفادها انّه قبلة في الجملة كما يظهر ذلك من سيّدنا العلاّمة الاستاذ (قدس سره) أو انّ مقتضى التأمّل بلحاظ ما عرفت من كون صحيحة زرارة