(الصفحة 129)
وقد تقدّم البحث في هذا فراجع(1) .
ثمّ إنّه قد ظهر ممّا ذكرنا أنّ مراد الشيخ (قدس سره) من الإطلاق الذي حكم ببطلانه هو الإطلاق بمعنى عدم لحاظ المدّة ، لا متّصلة ولا منفصلة ; وهو الذي تكلّمنا فيه في هذا المقام ، وأمر هذا الإطلاق يدور بين الصحّة والبطلان . ولا مجال لدعوى اقتضائه الاتصال ـ كما ربما يظهر من عبارة الشرائع(2) ـ فإنّه مع وضوح المراد وظهور الغرض كيف يمكن الحمل على أمر آخر يعلم بعدم تعلّق الغرض إليه ؟ وأصالة إرادة المسلم الوجه الصحيح إنّما تجدي في خصوص صورة الشكّ ، ولا مجال لها مع العلم بالمراد كما هو واضح ، فالنزاع في هذا الإطلاق إنّما هو في صحّته كما اخترناه ، أو بطلانه كما هو ظاهر كلام الشيخ بل صريحه .
نعم ، الإطلاق بالمعنى الآخر وهو الإطلاق الذي يكون مقسماً للأقسام الثلاثة : الاتّصال ، والانفصال ، وعدم لحاظ شيء منهما ، يمكن البحث فيه في أنّه هل يقتضي الاتصال أم لا ؟ ولكنّه خارج عن كلام الشيخ (قدس سره) . ودعوى أنّه كيف يعقل أن يكون المقسم مقتضياً لواحد معين من الأقسام ، مع اشتمال كلّ واحد منها على قيد زائد على المطلق ، الذي تشترك الأقسام فيه فلا معنى لاقتضائه لخصوص واحد من التعيّنات ، مدفوعة بأنّ الأمر وإن كان كذلك إلاّ أنّه ربما يكون بعض الأقسام وبعض القيود المأخوذ فيه كأنّه ليس بقيد عند العرف ، ولايحتاج إلى مؤونة زائدة ، كما هو كذلك في الواجب النفسي والغيري عند دوران الأمر بينهما ، حيث إنّ الإطلاق يقتضي الوجوب النفسي مع أنّه قسم من الوجوب في مقابل الغيري ،
- (1) في ص117 ـ 118 .(2) شرائع الإسلام : 2 / 183 .
(الصفحة 130)
وكذلك التعييني في مقابل التخييري ، والعيني في مقابل الكفائي ، وأشباه ذلك من الموارد .
والسرّ في ذلك أنّ الإطلاق الذي يحمل على بعض القيود ليس هو الإطلاق المقابل للمقيّد ، حتّى لا يعقل اقتضاؤه بوصف الإطلاق لشيء من القيود ، بل المراد به هو خلوّ الكلام عن القرينة المعيّنة مع كون المراد واحداً من التعيّنات ، لا نفس المطلق بوصف كونه كذلك ، وحينئذ فالكلام يحمل على مالا يحتاج من القيود إلى مؤونة زائدة عند العرف ، كما في الأمثلة المذكورة .
والإنصاف وقوع الخلط بين الإطلاق بهذا المعنى ، وبين الإطلاق الذي هو المقسم المأخوذ بنحو اللابشرط في كلمات جماعة حتّى بعض المحقّقين .
وقد انقدح ممّا ذكرنا صحّة الإجارة بنحو الإطلاق المقسمي ، وأنّ الكلام الخارج عن القرينة المعيّنة لواحد من التعيّنات يحمل على الاتّصال ; لعدم احتياجه عرفاً إلى مؤونة زائدة ، بخلاف الانفصال والإطلاق القسمي ، فإنّ كلاًّ منهما يفتقر إلى إقامة قرينة واضحة ، وبدونها لايكاد يلتفت إليه العرف كما لا يخفى .
(الصفحة 131)
[عقد الإجارة من العقود اللاّزمة]
مسألة : عقد الإجارة لازم من الطرفين لاينفسخ إلاّ بالتقايل أو بالفسخ مع الخيار ، والظاهر أنّه يجري فيه جميع الخيارات إلاّ خيار المجلس وخيار الحيوان وخيار التأخير ، فيجري فيها خيار الشرط وتخلّف الشرط والعيب والغبن والرؤية وغيرها ، والإجارة المعاطاتية كالبيع المعاطاتي لازمة على الأقوى ، وينبغي فيها الاحتياط المذكور هناك 1 .
1 ـ يقع الكلام في هذه المسألة بعد ملاحظة تقدّم البحث عن جريان المعاطاة في الإجارة في مقامات :
المقام الأوّل : في لزوم عقد الإجارة ، ونقول : لا ينبغي الإشكال في أنّ الإجارة من العقود اللاّزمة ، ويدلّ عليه ـ مضافاً إلى العمومات التي تستفاد منها أصالة اللزوم في كلّ عقد شك في لزومه وجوازه ، وكذا غير العمومات من سائر أدلّة أصالة اللزوم ـ النصوص الخاصّة الواردة في المقام ; مثل صحيحة علي بن يقطين قال : سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن الرجل يتكارى من الرجل البيت أو السفينة سنة أو أكثر من ذلك أو أقلّ ؟ قال : الكراء لازم له إلى الوقت الذي تكارى إليه ، والخيار في أخذ الكراء إلى ربّها ، إن شاء أخذ وإن شاء ترك(1) .
وحيثيّة السؤال في الرواية وإن لم تكن مستفادة من نفس السؤال ، إلاّ أنّ الجواب يشهد بكون مورد السؤال هو جواز فسخ الإجارة بحيث لم يكن على الرجل جميع الكراء إلى آخر الوقت المعيّن في العقد ، وعليه فالحكم بوجوب الجميع
- (1) الكافي : 5 / 292 ح1 ، الفقيه : 3 / 159 ح697 ، التهذيب : 7 / 209 ح920 ، وسائل الشيعة : 19/110 ، كتاب الإجارة ب7 ح1 .
(الصفحة 132)
ولزومه عليه مساوق للحكم باللزوم ، كما هو ظاهر .
وأصرح من هذه الرواية في الدلالة على اللزوم ما رواه الصدوق بإسناده عن محمّد بن عيسى اليقطيني ، أنّه كتب إلى أبي الحسن علي بن محمّد العسكري (عليه السلام) في رجل دفع ابنه إلى رجل وسلّمه منه سنة باُجرة معلومة ليخيط له ، ثمّ جاء رجل فقال : سلّم ابنك منّي سنة بزيادة ، هل له الخيار في ذلك ؟ وهل يجوز له أن يفسخ ما وافق عليه الأوّل أم لا ؟ فكتب (عليه السلام) : يجب عليه الوفاء للأوّل ما لم يعرض لابنه مرض أو ضعف(1) .
وهنا روايات اُخر يستفاد منها مفروغية لزوم الإجارة(2) ، لكنّه يمكن أن يقال بعدم الحاجة في إثبات لزوم الإجارة إلى ملاحظة الدلالة ، بل الجواز إنّما يحتاج إليها ، وذلك لأنّ العهود المعامليّة المتعارفة بين العقلاء كلّها مبنية على اللزوم ، والكاشف عنه تقبيح العقلاء على ترك الوفاء بما التزمه المتعاهدان على تقدير تحقّقه من واحد منهما مع عدم رضى الآخر ، إذ لا معنى للتقبيح على فرض عدم اللزوم ، وحينئذ بعد تقرير الشارع لشيء منها المستكشف من عدم الردع يعلم لزومه عنده أيضاً ، إلاّ أن يقوم دليل على الجواز ، وعليه فمجرّد عدم قيام الدليل على الجواز يكفي في ثبوت اللزوم .
المقام الثاني : في مشروعية التقايل في الإجارة وعدمها ، فنقول : ظاهر الفقهاء ـ رضوان الله عليهم ـ أنّ مشروعية التقايل لا تختصّ بباب البيع ، بل هو مشروع في الإجارة أيضاً ، بل في كلّ عقد لازم . وقد استشكل على ذلك بعض
- (1) الفقيه : 3 / 106 ح441 ، وسائل الشيعة : 19 / 118 كتاب الإجارة ب15 ح1 .(2) وسائل الشيعة : 19 / 134 ، كتاب الإجارة ب24 .
(الصفحة 133)
المحقّقين ; بأنّ الأدلّة اللفظية قاصرة عن الشمول لما عدا البيع ، نظراً إلى أنّ الروايات الواردة في الإقالة بين ما ورد في البيع أو في التجارة الظاهرة فيه، وبين ما لا إطلاق له لكونه بصدد بيان أمر آخر ، كخبر سماعة بن مهران : أربعة ينظر الله إليهم يوم القيامة : [أحدهم] من أقال نادماً الخبر(1) ، فإنّ المراد به إقالة النادم في مورد مشروعيّتها ، فهو كما إذا قيل : من تزوّج فله ثواب كذا أي بشرائطه ، فلا يؤخذ بإطلاقه(2) .
ويمكن أن يقال : إنّ ذكر البيع في كثير من الروايات ليس لأجل اختصاص مشروعية الإقالة به ، بل لكونه أظهر أنواع المعاملات وأكثرها أفراداً ، ويؤيّده استفادة الفقهاء منه عدم الاختصاص ، وتسريتهم الحكم إلى غير البيع ، من دون أن يكون له دليل بالخصوص ، ويؤيّده أيضاً ـ مضافاً إلى أنّ المذكور في بعض الروايات عنوان التجارة ، وظهورها في البيع غير معلوم لولم يستظهر منها عدم الاختصاص ; لظهور عدم انحصار حكمة الإقالة بباب البيع ، فهو نظير قوله تعالى :
{إلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاض}(3) ـ إنّ ذكر البيع هنا إنّما هو كذكره في مورد النهي عن الغرر ، مع أنّ النهي عنه لا ينحصر بالبيع .
ويؤيّده أيضاً رواية واردة في مضاربة الأجير مع رجل آخر غير المستأجر ، الدالّة على إناطة الجواز بإذن المستأجر(4) ، فإنّه يحتمل فيها أن يكون المراد بإذنه هو الرضا بفسخ الإجارة كما لايبعد .
- (1) الخصال : 224 ح55 ، وسائل الشيعة : 17 / 387 ، كتاب التجارة، أبواب آداب التجارة ب3 ح5 .(2) بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 10 .(3) سورة النساء 4 : 29 .(4) الكافي : 5 / 287 ح1 ، التهذيب : 7 / 213 ح935 ، وسائل الشيعة : 19 / 112 ، كتاب الإجارة ب9 ح1 .