(الصفحة 525)
بالأعمّ من الفعل ومن الرضا بما يؤتى به عنه، بحيث يكون الرضا أحد فردي الواجب التخييري ، وأيضاً ليس غرضه تعلّق التكليف بالأعم من الفعل المباشري والفعل المرضيّ به ; لاستحالة تعلّق التكليف بما ليس من إيجادات المكلّف ، كما أنّه ليس المراد أنّ صدور الفعل مع الرضا به كاف في المقرّبية ، بل الغرض أنّ الفعل المنسوب إليه بالنيابة المشروعة إذا رضي به المنوب عنه بما هو موافق لأمره وبما هو دين الله عليه قربيّ منه ، بحيث لو صدر منه مباشرة من حيث كونه كذلك لكان مقرّباً له بلا شبهة .
ومحصّل الإيراد أنّه لا يتم في النيابة عن الميّت ، فإنّ المكلّف به هو العمل مع قصد الامتثال ، فلابدّ في سقوط التكليف من حصول هذا المقيّد في هذه النشأة ، فكون العمل في هذه النشأة وقيده في نشأة الآخرة ليس امتثالاً للتكليف الذي لا موقع له إلاّ في النشأة الدنيوية .
وإلى ما أورد على الثاني بأنّه مناف لظاهر النصوص والفتاوى ، فإنّ الحجّ الذي يستنيب فيه الحيّ العاجز لا يراد منه إلاّ إسقاط التكليف المتوجّه إليه بالاستنابة لا مجرّد تحصيل ثوابه ، مضافاً إلى أنّ تقرّب النائب وإيصال الثواب إنّما يتصوّر فيما كان مستحباً في حقّ النائب كالحجّ والزيارة المندوبين ، وأمّا القضاء عن الميّت وجوباً أو تبرّعاً فلا أمر للنائب إلاّ الأمر الوجوبي أو الندبي بالنيابة لا بالمنوب فيه ، وأوامر النيابة توصّلية(1) .
فانقدح من جميع ما ذكرنا أنّ الجواب الصحيح عن الوجه الأوّل ما ذكر ، فتدبّر .
بقي الكلام في الواجبات النظامية التي قام الإجماع بل الضرورة على جواز أخذ
- (1) بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 234 ـ 235 .
(الصفحة 526)
الاُجرة فيها(1) ، فإن قلنا بعدم استلزام القول بالجواز في غيرها بشيء من الإيرادات العقلية المتقدّمة ـ كما هو الحقّ وقد عرفت ـ فلا يكون الحكم بالجواز فيها مخالفاً لحكم العقل وللقاعدة . وأمّا إن قلنا بالاستلزام فلابدّ من أن يكون خروج الواجبات النظامية والحكم بالجواز فيها مستنداً إلى دليل ، وفي الحقيقة يرد على المشهور(2) القائلين بالمنع النقض بالواجبات النظامية ولابدّ لهم من الجواب، وقد اُجيب عن ذلك بوجوه :
منها : خروجها بالإجماع والسيرة القائمين على الجواز في خصوصها .
ويرد عليه أنّه إنّما يجدي إذا كان المنع لدليل تعبّدي ، فإنّه على هذا التقدير يخصّص عمومه بالإجماع والسيرة المذكورين ، وأمّا إذا كان المنع لأمر عقليّ كما عرفت فلا موقع لتخصيصه بما عدا الواجبات النظامية كما هو ظاهر .
ومنها : ما عن جامع المقاصد من تخصيص الجواز بصورة سبق قيام من به الكفاية بالعمل(3) .
ويرد عليه أنّه مناف لإطلاق كلام الأصحاب ، فإنّ ظاهرهم ثبوت الجواز بالإضافة إلى السابق أيضاً . وبعبارة اُخرى مرجعه إلى تسليم الإشكال ; لأنّه مع سبق قيام من به الكفاية يسقط الوجوب ، ولا يكون أخذ الأُجرة حينئذ في مقابل الواجب .
ومنها : ما نسب إلى صاحب الرياض (قدس سره) من اختصاص المنع بالواجبات الذاتية
- (1) مجمع الفائدة والبرهان : 8 / 89 ، رياض المسائل : 5 / 37 ـ 38 ، كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري : 2 / 137 .(2) مسالك الافهام : 3 / 130 ، الحدائق الناضرة : 18 / 211 ، مفاتيح الشرائع : 3 / 11 .(3) جامع المقاصد : 7 / 181 .
(الصفحة 527)
النفسية ـ كدفن الميّت وتعليم الأحكام ـ لا الواجبات المقدّمية كالصناعات التي هي مقدّمة لحفظ النظام الواجب(1) .
وأُورد عليه بأنّ المنع ليس لدليل لبّي حتّى يؤخذ فيه بالمتيقّن ، ولا لفظيّ ليدّعى انصرافه عن الواجب الغيري ، بل المانع أمر عقلي ينافي طبيعة الوجوب نفسياً كان أم غيرياً(2) .
ويمكن الجواب عنه بأنّ القدر المسلّم من حفظ النظام الواجب هو حفظه بنحو لايوجب الهرج والمرج ، والاُجرة لاتقع في مقابل ماتعلّق به التكليف ، بل هي واقعة في مقابل المقدّمات ، ضرورة أنّها تقع في مقابل الطبابة والخياطة ونحوهما ، وهذه الاُمور مقدّمة لتحقّق الواجب ، وقد حقّق في محلّه أنّه لا يسري الوجوب من ذي المقدّمة إليها ، فلا يستلزم القول بالجواز فيها شيئاً من الإيرادات العقلية المتقدّمة ، ولكنّ مقتضاه التصرّف في كلام الرياض ; لأنّ لازمه جواز أخذ الاُجرة مع حفظ الوجوب الغيري وثبوته ، كما لا يخفى .
ومنه يظهر بطلان ما عن بعض الأعلام في مقام الجواب عن صاحب الرياض ; من أنّ تلك الصناعات مع انحفاظ النظام متّحدان في الوجود ، كالإلقاء والإحراق والضرب والتأديب ، والمقدّمة المتّحدة الوجود مع ذيها لاتجب بوجوب مقدّمي ، لاستحالة التوصّل بشيء إلى نفسه(3) .
وجه البطلان أنّ الفعل التوليدي يستحيل أن يكون متّحد الوجود مع المتولّد
- (1) رياض المسائل : 5 / 37 ـ 38 .(2) بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 210 .(3) راجع حاشية المكاسب للميرزا محمّد تقي الشيرازي : 153 ، والحاكي هو المحقّق الإصفهاني في بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 210 .
(الصفحة 528)
منه ، ومن الواضح مغايرة الخياطة وانحفاظ النظام وكذا غيرها ، فهذا الوجه خال عن الإشكال ، وإن كان لا يلائم التعبير عن مثل الخياطة حينئذ بالواجب النظامي ، فإنّ الواجب هو ذو المقدّمة والخياطة لاتكون واجبة أصلاً ، وفي الحقيقة يخرج ذلك عن محلّ البحث ; وهو أخذ الاُجرة على الواجب كما هو ظاهر .
ومنها: غير ذلك من الوجوه المذكورة التي تظهر مع ما يمكن أن يجري فيها من المناقشة للمتتبّع المتأمِّل .
(الصفحة 529)
[الإجارة لحفظ المتاع وضمانه]
مسألة : يجوز الإجارة لحفظ المتاع عن الضياع وحراسة الدور والبساتين عن السرقة مدّة معيّنة ، ويجوز اشتراط الضمان عليه لو حصل الضياع أو السرقة ولو من غير تقصير منه ; بأن يلتزم في ضمن عقد الإجارة بأنّه لو ضاع المتاع أو سرق من البستان أو الدار شيء خسره ، فتضمين الناطور إذا ضاع أمر مشروع لو التزم به على نحو مشروع 1 .
1 ـ أمّا جواز الإجارة لحفظ المتاع عن الضياع وحراسة الدور والبساتين عن السرقة ، فلأنّ الحفظ والحراسة منفعة عقلائيّة محلّلة مقصودة للعقلاء ، ولايكون أكل المال في مقابله أكلاً للمال بالباطل ، فمقتضى العمومات والقواعد الأوّلية هي الصحّة والمشروعية ، ويدلّ عليه بالخصوص مفهوم رواية إسحاق بن عمّار ، عن جعفر ، عن أبيه (عليهما السلام) أنّ علياً (عليه السلام) كان يقول : لا ضمان على صاحب الحمّام فيما ذهب من الثياب ; لأنّه إنّما أخذ الجعل على الحمّام ولم يأخذ على الثياب(1) . فإنّ مدلولها جواز أخذ الاُجرة والجعل على الثياب وحفظها من الضياع والسرقة ، فأصل الجواز ممّا لا إشكال فيه .
وأمّا جواز اشتراط الضمان عليه ولو من غير تقصير ، فإن كان بنحو شرط الفعل بمعنى تدارك الخسارة وجبرها فلا إشكال فيه أيضاً . وأمّا إذا كان بنحو شرط النتيجة فربما يقال بعدم الصحّة ; لأنّ شرط ضمان الأمين مخالف للكتاب(2) الدالّ على عدم ضمانه ، وعبارة المتن مشعرة بل دالّة على ذلك أيضاً .
- (1) التهذيب : 6 / 314 ح869 ، وسائل الشيعة : 19 / 140 ، كتاب الإجارة ب28 ح3 .(2) سورة التوبة 9 : 91 .