(الصفحة 350)
ولكن مع وجود الروايات الكثيرة في المسألة وظهور كونها المستند لهم لا مجال للاتّكال على الإجماع فضلاً عن الشهرة ، فلابدّ من التكلّم أوّلاً فيما هو مقتضى القاعدة ، ثمّ فيما تقتضيه الروايات الواردة في المقام ، وأنّها هل تقتضي الجواز والكراهة ، أو الحرمة الوضعيّة أو التكليفيّة ، أو كلتيهما مطلقاً أو في بعض الموارد ؟ فنقول :
أمّا القاعدة فلا ريب في أنّ مقتضاها الجواز ; لعدم وجود ما يقتضي المنع ، والتعليل باستلزام الزيادة للربا واضح المنع بعد ظهور أنّه يكون هنا معاملتان لا ارتباط لإحداهما بالاُخرى ، وإن كان المستأجر في الإجارة الثانية هو المؤجر في الإجارة الاُولى كما في البيع .
وأمّا الروايات ، فاعلم أنّ العناوين الواردة فيها المحكومة بالجواز أو الكراهة أو الحرمة ستّة أو سبعة ، بناءً على اختلاف معنى الدار والبيت كما هو الظاهر من اللغة . ولابدّ من البحث في كلّ واحد من هذه العناوين مستقلاًّ ، فنقول :
منها : الأرض ، وقد وردت فيها طوائف من الأخبار :
الاُولى : ما يدلّ بظاهرها على جواز إجارة الأرض المستأجرة بأكثر ممّا استؤجرت مطلقاً ، من دون فرق بين ما إذا أحدث فيها شيئاً ، وما إذا لم يحدث ، مثل رواية أبي الربيع الشامي ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : سألته عن الرجل يتقبّل الأرض من الدهاقين ثمّ يؤاجرها بأكثر ممّا تقبّلها به ويقوم فيها بحظ السلطان ؟ فقال : لابأس به ، إنّ الأرض ليست مثل الأجير ولا مثل البيت ، إنّ فضل الأجير والبيت حرام . ورواه الصدوق مع زيادة : ولو أنّ رجلاً استأجر داراً بعشرة دراهم فسكن ثلثيها وآجر ثلثها بعشرة دراهم لم يكن به بأس ، ولكن لا يؤاجرها باكثر
(الصفحة 351)
ممّا استأجرها(1) . وقد احتمل أن تكون هذه الزيادة فتوى الصدوق مذكورة بعد الرواية ، كما هو دأبه في كتاب الفقيه ، وعليه فهي مأخوذة من رواية الحلبي الآتية لعدم الاختلاف بينهما أصلاً ، كما لا يخفى .
وكيف كان ، يحتمل في الرواية أن يكون المراد من التقبّل فيها هو التقبّل بنحو المزارعة لا الإجارة ، ولا يكون ترك الاستفصال دليلاً على الإطلاق بعد احتمال تعارف استعمال لغة التقبّل في المزارعة ، خصوصاً بعد كون المتعارف ظاهراً في الأراضي التي يتقبّلها الدهاقين من السلاطين هي المعاملة بنحو المزارعة ، وهذا ممّا يوجب الظنّ الغالب بكون المراد من المؤاجرة الواقعة بأكثر ممّا تقبّل الأرض به هي المزارعة أيضاً ، لاستعمال مثل هذه الكلمة فيها في بعض الروايات الآتية ، خصوصاً مع ملاحظة كونها بصيغة المفاعلة ، كما لا يخفى .
ودعوى أنّ قوله (عليه السلام) في ذيل الرواية : «إنّ الأرض ليست مثل الأجير . . .» ظاهر في كون المراد نفي المماثلة بين الأرض المستأجرة والأجير والبيت ، لا بينها إذا تقبّلها بنحو المزارعة وبينهما .
مدفوعة بمنع هذا الظهور لو لم نقل بكونه ظاهراً في خلافه ، نظراً إلى ظهور العلّة في عدم كونها تعبّداً محضاً ، ولو كانت المماثلة المنفية هي المماثلة بين الأرض المستأجرة وبينهما لكان اللاّزم أن تكون العلّة كأصل الحكم أمراً تعبّديّاً صرفاً ، وهذا بخلاف ما لو كان المراد من نفي المماثلة هو نفيها بين المزارعة التي موضوعها الأرض وبين إجارة الأجير والبيت . وبه ينقدح الخلل فيما استظهره المحقّق
- (1) الكافي : 5 / 271 ح1 ، المقنع : 392 ، الفقيه : 3 / 157 ح688 ، التهذيب: 7 / 203 ح894 ، الاستبصار: 3 / 129 ح464، وسائل الشيعة : 19 / 125 ، كتاب الإجارة ب20 ح2 و3 .
(الصفحة 352)
الإصفهاني (قدس سره) من ذيل الرواية ، حيث قال : إنّ ظاهره أنّ الأرض ليست كالبيت في الإجارة بالأكثر، لا أنّ المزارعة ليست كالإجارة ليجوز فيها المزارعة بالأكثر(1) .
ورواية أبي المغرا ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) في الرجل يؤاجر الأرض ثمّ يؤاجرها باكثر ممّا استأجرها ، قال : لا بأس ، إنّ هذا ليس كالحانوت ولا الأجير ، إنّ فضل الحانوت والأجير حرام(2) . ويحتمل قويّاً أيضاً أن يكون المراد من المؤاجرة في هذه الرواية هي المزارعة ; نظراً إلى صيغة المفاعلة وإلى التعليل بالتقريب المذكور في الرواية السابقة ، واستعمال الاستئجار لا ينافي ذلك .
ورواية إبراهيم بن ميمون أنّ إبراهيم بن المثنّى سأل أبا عبدالله (عليه السلام) وهو يسمع عن الأرض يستأجرها الرجل ثمّ يؤاجرها بأكثر من ذلك ؟ قال : ليس به بأس ، إنّ الأرض ليست بمنزلة الأجير والبيت ، إنّ فضل البيت حرام ، وفضل الأجير حرام(3) .
الثانية : ما يدلّ بظاهرها على عدم جواز إجارة الأرض المستأجرة بأكثر ممّا استأجرها به مطلقاً ، مثل ما رواه الكليني ، عن عدّة من أصحابنا ، عن سهل بن زياد وأحمد بن محمّد ، عن عبد الكريم ، عن الحلبي قال : قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : أتقبّل الأرض بالثلث أو الربع فأقبلها بالنصف ، قال : لا بأس به ، قلت : فأتقبّلها بألف درهم وأُقبّلها بألفين ، قال : لا يجوز ، قلت : لِمَ ؟ قال : لأنّ هذا مضمون وذلك غير مضمون(4) .
- (1) بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 62 .(2) الكافي : 5 / 272 ح3 ، وسائل الشيعة : 19 / 125 ، كتاب الإجارة ب20 ح4 .(3) الكافي : 5 / 272 ح5 ، وسائل الشيعة : 19 / 126 ، كتاب الإجارة ب20 ح5 .(4) الكافي : 5 / 272 ح6 ، وسائل الشيعة : 19 / 126 ، كتاب الإجارة ب21 ح1 .
(الصفحة 353)
والظاهر ـ كما حكي عن سيّدنا العلاّمة الاُستاذ البروجردي (قدس سره) ـ أنّ أحمد بن محمّد لا يمكن له النقل عن عبد الكريم من دون واسطة ، وأنّه هو عليّ بن الحكم كما في سند الرواية على ما رواه الشيخ (قدس سره)(1).
وكيف كان ، فلا إشكال في أنّ المراد بالتقبّل بالثلث أو الربع هي المزارعة ، وفي أنّ التقبل بالألف أو بالألفين لا يكون مزارعة اصطلاحاً ، وحينئذ نقول : ظاهر الرواية مع قطع النظر عن العلّة المنصوصة فيها التفصيل في الأرض بين المزارعة والإجارة بجواز الفضل في الاُولى دون الثانية ، وأمّا مع ملاحظة العلّة الظاهرة في أنّ الدرهم والدينار مضمونان ثابتان في الذمة ، ويجب على المتقبّل أداؤهما مطلقاً ، سواء حصل من الأرض فائدة أم لا ، وهذا بخلاف الثلث والربع ونحوهما ، فإنّهما تابعان لحصولها ، إذ بدونها لا يعقل الثلث والربع وأمثالهما ، فلابدّ من النظر في معنى الرواية فنقول :
ظاهر التعليل بعلّة عدم كون تلك العلّة أمراً تعبدياً خارجاً عن المتفاهم العرفي ، خصوصاً مع كونه مسبوقاً بالسؤال ، ومع قناعة السائل بالجواب المشتمل عليه ، وحينئذ يشكل الأمر ، نظراً إلى أنّ المضمونية كيف يمكن أن تقع علّة لمنع الفضل في الإجارة ، فإنّ مجرّد كون الاُجرة فيها ثابتة في الذمة ، مضمونة على المستأجر هل يقتضي المنع عن الفضل في الإجارة الثانية ، وأيّ ارتباط بين المضمونية وبين منع الفضل ؟ وعليه فلابدّ من حمل الرواية على معنى آخر ـ وإن كان مخالفاً للظاهر ، نظراً إلى العلّة الواقعة فيها ـ بأن يقال : إنّ المراد من التقبّل بالألف والتقبيل بالألفين ليس هي الإجارة ، بل المراد منهما هي المزارعة أيضاً ، والحكم بعدم الجواز إنّما هو
- (1) أي في الاستبصار : 3 / 130 ح466 .
(الصفحة 354)
في كلتا المعاملتين ـ التقبل والتقبيل ـ لا في خصوص المعاملة الثانية .
وحينئذ فمرجع الجواب مع ملاحظة العلّة الواقعة فيه إلى أنّه حيث يعتبر في المزارعة أن يكون سهم صاحب الأرض بنحو الإشاعة فيما يحصل منها ثلثاً ، أو ربعاً أو نحوهما ، فمع جعله في ذمّة المتقبل وكونه مضموناً على عهدته كما في الدرهم والدينار لاتكاد تتحقّق المزارعة ، فالتقبّل بالألف والتقبيل بالألفين كلاهما غير جائز لفقدانهما لما اشترط في المزارعة من عدم كون نصيب صاحب الأرض أمراً مضموناً ثابتاً في الذمّة ، وبذلك ظهر أنّ الرواية أجنبيّة عن باب الإجارة الذي هو محلّ الكلام في المقام .
ورواية إسحاق بن عمّار، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : إذا تقبّلت أرضاً بذهب أو فضّة فلا تقبلها بأكثر ممّا تقبّلتها به ، وإن تقبّلتها بالنصف والثلث فلك أن تقبلها بأكثر ممّا تقبلتها به ; لأنّ الذهب والفضة مضمونان(1) . وهي وإن كانت ظاهرة في أنّ التقبّل والتقبيل بالذهب والفضّة إنّما يكون بعنوان الإجارة دون المزارعة ، وذلك لظهورها في صحّة التقبل الذي هي المعاملة الأوّليّة ، وصحّته متوقّفة على أن تكون بعنوان الإجارة كما مرّ ، إلاّ أنّ تعليل النهي عن التقبيل بالأكثر بالعلّة المذكورة في الذيل قرينة على عدم كون المراد من المعاملة الثانية هي الإجارة ، بل المراد منها المزارعة ، وعليه فالمقصود أنّه إذا تقبّلت أرضاً بذهب أو فضّة بعنوان الإجارة فلا تقبلها بالأكثر بعنوان المزارعة ; لبطلان المزارعة بهذا النحو على ما عرفت من كونها فاقدة للشرط ، فهذه الرواية أيضاً تكون أجنبيّة عن المقام .
- (1) الكافي : 5 / 273 ح7 ، التهذيب : 7 / 204 ح898 ، الاستبصار : 3 / 130 ح467 ، وسائل الشيعة : 19/127 ، كتاب الإجارة ب21 ح2 .