(الصفحة 135)
والظاهر ـ كما قيل ـ عدم امكان شمول تلك الأدلّة للإقالة وإن كانت عقداً ; لأنّه ـ مضافاً إلى أنّ تلك الأدلّة واردة في مورد العقود المشروعة ; لأنّ الحكم باللزوم متفرّع على ثبوت المشروعية أوّلاً ، ضرورة أنّه لا معنى للزوم العقد غير المشروع، وتلك الأدلّة لا تفيد إلاّ اللزوم مع ثبوتها ، فلا مجال للتمسّك بها مع الشكّ في أصلها.نعم،لوكان موضوع الحكم باللزوم عقداًواحداًومعاهدةواحدة يستكشف من ذلك مفروغية الشرعية ، وهذا بخلاف مالو كان بنحو العموم ، فإنّه يوجب تضيّق دائرة الموضوع واختصاصها بخصوص المشروع ـ يرد عليه: أنّ عقد الإقالة ليس كسائر العقود ، فإنّه أُعتبر في حقيقته مسبوقية عقد آخر لا طبيعة العقد ، بل عقد حكم عليه باللزوم ، ضرورة أنّه لامعنى للتقايل في شيء من العقود الجائزة .
وحينئذ فشمول أدلّة اللزوم الدالّة عليه بالإطلاق الأزماني مرجعه إلى رفع اليد عن مقتضى الإطلاق ، والحكم بجواز نقض العقد بسبب الإقالة ، ومن الواضح استحالة تصدّي دليل واحد لإفادة الإطلاق وبيان المقيّد للتعارض ، فإنّ الحكم بإطلاق وجوب الوفاء وبجواز عقد الإقالة الذي مرجعه إلى رفع اليد عن ذلك الإطلاق لايمكن إعلامه بدليل واحد ، هذا غاية ما يمكن أن يقال في هذا المقام .
ويمكن التفصّي عن كلا الأمرين :
أمّا الفرق بين ما كان الموضوع عقداً واحداً ، وبين ما كان بنحو العموم من حيث استكشاف المشروعية وعدمه(1) فمّما لايتصوّر له وجه ; لأنّه كما أنّ الحكم بلزوم معاهدة واحدة لايجتمع مع عدم مشروعيّتها ، كذلك الحكم بلزوم كلّ عقد لايجتمع مع عدم مشروعية الجميع ، ولا يوجب تفرّع اللزوم على المشروعية
(الصفحة 136)
تضيّقاً في ناحية الموضوع ، بحيث كان مرجع «أوفوا بالعقود» إلى الوفاء بالعقود المشروعة .
وأمّا الأمر الثاني: فنقول : إنّ اعتبار المسبوقية بالعقد اللاّزم في حقيقة الإقالة يعطي أنّه لامنافاة بين الإقالة ، وبين الإطلاق الذي يفيد اللزوم بل هو مقوّم لها ، وحينئذ فالحكم بالوفاء بالإقالة على ماهو مقتضى العموم الأفرادي في آية وجوب الوفاء بالعقود لا ينافي الحكم بإطلاق وجوب الوفاء الذي هو مقتضى الإطلاق الأزماني في الآية الشريفة .
فانقدح من ذلك أنّه لا مانع من شمول الأدلّة للإقالة بناءً على كونها عقداً ولكن الشأن فيه .
المقام الثالث : فيما يدخل من الخيارات في الإجارة وفيما لايدخل ، ونقول : تقدّم في المقام الأوّل أنّ الإجارة من العقود اللاّزمة ، ومقتضى ذلك أنّ دخول الخيار فيها يتوقّف على وجود دليل مثبت لذلك ، حتّى يمكن الاتّكال عليه في مقابل قاعدة اللزوم الثابتة بأدلّتها ، فمع عدم وجود ذلك الدليل يكون مقتضى القاعدة عدم دخول الخيار ، بل يمكن أن يقال : إنّه بناءً على القول بعدم كون الإجارة من العقود اللاّزمة لاوجه لدخول الخيار مع عدم الدليل عليه ; لأنّ الخيار يغاير الجواز الثابت في تلك العقود ; لكون الجواز هناك من الأحكام ولا يعقل فيه الانتقال ، وهذا بخلاف الخيار الذي هو من جملة الحقوق القابلة للإسقاط وللانتقال بالموت ونحوه .
وكيف كان ، فمع عدم الدليل على مشروعية الخيار ودخوله في عقد الإجارة لا مجال لتوهّم ثبوته ، سواء قلنا بكون الإجارة من العقود اللاّزمة ـ كما عرفت ـ أنّه الذي يقتضيه التحقيق ، أو من العقود الجائزة ،
(الصفحة 137)
فلابدّ حينئذ من ملاحظة أدلّة الخيارات الثابتة في البيع ، وأنّه هل تجري في الإجارة أم لا ؟ فنقول :
أمّا خيار المجلس فقد صرّح المحقّق في الشرائع(1) والعلاّمة في القواعد(2) بعدم دخوله في عقد الإجارة ، بل حكي الاجماع عن الغنية(3) والتذكرة(4) ، وظاهر تعليق الإرشاد(5) والمسالك(6) ومجمع البرهان(7) على أنّه لايثبت في غير البيع هذا ، ولكن حكى الشيخ (قدس سره) في كتاب الخلاف عن بعض العامّة دخول هذا الخيار في عقد الإجارة ، حيث إنّه بعد تقسيم الإجارة إلى ضربين : معيّنة ، وفي الذمة، والحكم بعدم دخول خيار المجلس في كليهما ، وبعدم امتناع دخول خيار الشرط قال : وقال الشافعي : الإجارة المعيّنة لا يدخلها خيار الشرط قولاً واحداً ، وأمّا خيار المجلس فعلى وجهين : أحدهما لايدخلها ، والآخر يدخلها . والإجارة في الذمة فيها ثلاثة أوجه ، فقال أبو إسحاق وابن خيران : لايدخلها الخياران ، وقال الإصطخري : يدخلها الخياران معاً ، والمذهب أنّه يدخلها خيار المجلس دون خيار الشرط ، عكس ما قلناه(8) .
- (1) شرائع الإسلام : 2 / 180 .(2) قواعد الأحكام : 2 / 282 .(3) غنية النزوع : 220 .(4) تذكرة الفقهاء : 11 / 12، طبعة جديدة .(5) حكى عنه في مفتاح الكرامة : 4 / 538 ـ 539 وج7 / 81 .(6) مسالك الأفهام : 5 / 177 .(7) مجمع الفائدة والبرهان : 8 / 388 .(8) الخلاف : 3 / 15 مسألة 15 ، وراجع المجموع للنووي : 9 / 169 و182 وج15 / 365 ، والعزيز شرح الوجيز : 4 / 173 و193 .
(الصفحة 138)
وكيف كان ، الحكم بعدم دخول خيار المجلس في عقد الإجارة إمّا أن يكون مستنداً إلى الإجماع المنقول مستفيضاً ، أو متواتراً كما في الجواهر(1) ، وإمّا أن يكون لأجل عدم الدليل على ثبوته في غير البيع ، مع أنّ الدخول يحتاج إلى الدليل كما عرفت في صدر المسألة .
أمّا لو كان المستند هو الإجماع فيرد على التمسّك به أنّ حجية الإجماع منحصرة بما إذا لم يحتمل استناده إلى الأدلّة الموجودة بأيدينا ، وأمّا مع احتمال الاستناد فلا يبقى له قيمة في نفسه ، بل لابدّ من النظر في مستنده ، والمقام من هذا القبيل كما هو غير خفيّ .
وأمّا لو كان الوجه عدم الدليل على ثبوته في غير البيع فنقول : وإن كان ظاهر كثير من الروايات الواردة في خيار المجلس الورود في مورد البيع ، ولا مجال لدعوى إلغاء الخصوصية والحكم بعدم مدخلية البيع عند العرف في ثبوت خيار المجلس ، وأنّ التعبير به لكونه من أظهر مصاديق التجارة والمعاملة ، كما أنّه لامجال لدعوى كون خيار المجلس أمراً ثابتاً عند العقلاء جارياً في غير البيع أيضاً ، بعد ماعرفت من أنّ العقود عند العقلاء كلّها مبنية على اللزوم ، إلاّ أنّ هنا بعض الروايات التي يمكن الاستدلال بإطلاقها على الجريان في الإجارة أيضاً ، وهي رواية عمر بن يزيد ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) ، التي رواها المشايخ الثلاثة ، قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : إذا التاجران صدقا بورك لهما ، فإذا كذبا وخانا لم يبارك لهما ، وهما بالخيار ما لم يفترقا ، فإن اختلفا فالقول قول ربّ السلعة أو يتتاركا (يتشاركا خل)(2) . بناءً على عدم
- (1) جواهر الكلام : 27 / 217 .(2) الكافي : 5 / 174 ح2 ، التهذيب : 7 / 26 ح110 ، الخصال : 45 ح43 ، وسائل الشيعة : 18 /7 ، كتاب التجارة، أبواب الخيار ب1 ح6 .
(الصفحة 139)
اختصاص التجارة بالبيع ، كما يدلّ عليه قوله تعالى :
{رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ . . .}(1). ويؤيّده استدلال الأصحاب بآية التجارة عن تراض في غير البيع ، فالمسألة محلّ إشكال .
ثمّ إنّه هل يجوز اشتراط خيار المجلس في عقد الإجارة ؟ حكى الشهيد (قدس سره) عن المبسوط أنّه جوّز اشتراطه(2)، وقال ـ أي الشهيد ـ : إنّه إن أراد به مع تعيين المدّة فمسلّم ، وإلاّ فمشكل(3) .
وقال في محكي جامع المقاصد : لك أن تقول : إنّه إذا سلم جواز اشتراط خيار المجلس فلا وجه لاشتراط تعيين المدّة ; لأنّه حينئذ لايكون خيار مجلس بل خيار شرط . نعم ، في جواز اشتراطه تردّد من حيث إنّه على خلاف الأصل ; لجهالة مدّته فيقتصر فيه على مورد النص ، ولأنّه من توابع البيع فلا يكون ثبوته موجباً للجهالة في شيء من العوضين بخلاف ما إذا لم يثبت إلاّ بالاشتراط ، فانّ اشتراط المجهول يجهل العوض(4) .
أقول : يمكن المنع عن قدح الجهالة في المقام ; لأنّ الجهالة القادحة ما كانت مؤثِّرة في اختلاف الرغبات ، كجهالة أصل المبيع ، أو خصوصيّاته ، أو مدّة الخيار رأساً ، وأمّا مثل المقام فلم يعلم ذلك ، فتأمّل .
وأمّا خيار الحيوان فلم يحك عن أحد من الإمامية رضوان الله عليهم ـ المتفرّدين بثبوت هذا الخيار قبال باقي الفقهاء ، حيث لم يفرّقوا بين الحيوان وبين
- (1) سورة النور 24 : 37 .(2) المبسوط 3 : 226 .(3) حكى عنه في جامع المقاصد : 7 / 86 .(4) جامع المقاصد : 7 / 86 .