(الصفحة 199)
ويؤيّد ما ذكرنا من بيان محطّ نظر السائل أنّ بعض الأعلام من المعاصرين نقل العبارة في شرحه على العروة هكذا : «هل يجب على ورثتها إنفاذ الأُجرة إلى الوقت ؟»(1) فذكر الأُجرة موضع الإجارة مع التزامه في نقل هذه الرواية بذكر الاحتمالات الناشئة من اختلاف النسخ ، كما يظهر لمن راجعه ، وكيف كان ، فمورد السؤال بملاحظة ما ذكرنا عبارة عن خصوص ما يتعلّق بالأُجرة من حيث اشتراط الأنجم المضروبة له .
وأمّا الجواب ، فالظاهر أنّ المراد بالجملة الاُولى هو عدم بلوغ الوقت المضروب للاُجرة ، أو عدم بلوغ المرأة ذلك الوقت كما هو المفروض في السؤال ، وعليه فالضمير في «لها» يرجع إلى الأُجرة ، ولا مجال لإرجاعها إلى المرأة أو إلى الإجارة ، أمّا إلى المرأة فواضح ، وأمّا إلى الإجارة فلما ذكرنا من خروجها عن محط نظر السائل ، مضافاً إلى أنّ الإجارة لا يمكن أن لا يكون لها وقت مسمّى ، فلا محيص إلاّ عن كون المراد هي الأُجرة والوقت المضروب لها ، والمراد من قوله (عليه السلام) : «فلورثتها تلك الأُجرة» أنّه بمجرّد الموت ينتقل الاستحقاق من المورّث إلى الورثة ، فاللام تفيد ملكيّة الورثة للأُجرة بتمامها ، وهذه الجملة توطئة لما هو الجواب المنطبق على السؤال ; وهو ما يستفاد من الجملة الثانية ، ومحصّله أنّه مع عدم إدراك المرأة الوقت المضروب وهو انقضاء السنة ، بل بلوغها النصف أو الثلث أو شيئاً منه يجب أن تعطى الورثة من الأُجرة بمقدار ما بلغت المرأة وأدركته ، ومرجع ذلك إلى أنّ الالتزام المتحقّق من المرأة بالشرط المذكور في عقد الإجارة إنّما يؤثّر بالنسبة إلى زمان حياتها ، وأمّا بعد الموت وانتقال الاستحقاق إلى الورثة فلا تأثير للشرط
- (1) مستمسك العروة الوثقى : 12 / 34 .
(الصفحة 200)
المذكور ، بل الورثة لهم أن يطالبوا أُجرة نصف سنة أو ثلثها مثلاً .
فالرواية تدلّ على صحّة الإجارة ولزومها ، وعلى عدم لزوم مثل هذا الشرط المذكور فيها بالإضافة إلى الورثة . غاية الأمر أنّ دلالتها على الأوّل بالمفروغية وعلى الثاني بالدلالة اللفظية . هذا غاية ما يقتضيه النظر الدقيق في فهم المراد من الرواية ، والظاهر أنّ المتأمّل المنصف لا يتجاوز عن ترجيحه على سائر المعاني ترجيحاً مستلزماً للتعيين ، كما هو غير خفي .
ثمّ إنّه على تقدير استفادة الصحّة من الرواية ربما يستشكل في الاستدلال بها عليها تارة من جهة عدم اعتبار السند ، واُخرى من جهة إعراض المشهور عنها ، وهو يوجب سقوط الرواية عن الحجية ولو بلغت في الصحّة أقصاها ، وثالثة من ناحية التقية وجهة الصدور ; نظراً إلى أنّ الرواية صادرة في زمان من يقول منهم بعدم بطلان الإجارة بالموت كالشافعي ومالك وأحمد(1) ، و حينئذ فيحتمل جدّاً صدور الحكم تقية ، خصوصاً مع كونها مكاتبة ، واحتمال التقية في المكاتبات أقوى كما هو ظاهر .
ويرد على ذلك
أوّلاً : أنّك قد عرفت أنّه لا حاجة لنا في الاستدلال بهذه الرواية للصحّة بعد كونها هي مقتضى العمومات والأخبار الخاصّة .
وثانياً : أنّه على فرض انحصار الدليل بهذه الرواية لا مجال للإشكال فيها من هذه الجهات ، فإنّ المناقشة في سندها وإن وقعت من بعض الأعاظم من الفقهاء كالأردبيلي على ما عرفت(2) ، إلاّ أنّ منشأها هو إبراهيم بن محمّد ، وقد مرّ أنّه هو
- (1) راجع الخلاف : 3 / 491 مسألة 7 ، والاُمّ : 4 / 30 ، وبداية المجتهد : 2 / 230 ، والمغني لابن قدامة : 6/42 .(2) في ص192 .
(الصفحة 201)
وأبوه كانا من وكلاء الناحية وأنّ الإمام (عليه السلام) قد وثقه . وأمّا إعراض المشهور فهو يتوقّف أوّلاً على ثبوت الشهرة من القدماء على البطلان ، وثانياً على ثبوت كون الإعراض لأجل قصور وخلل في الرواية ، لا لأجل ترجيح الأخبار الدالّة على البطلان على هذه الرواية الظاهرة في الصحّة ، وهو غير ثابت .
وأمّا المناقشة فيها من حيث جهة الصدور واحتمال التقية ، فمدفوعة بأنّ مجرّد الاحتمال لا يقاوم الأصل العقلائي الجاري في أمثال هذه الموارد ; وهي أصالة تطابق الإرادة الجدّية والاستعمالية ، كما قد حرّر في محلّه ، فالرواية من هذه الجهات سالمة عن الإيراد .
نعم ، بناءً على استفادة البطلان منها يمكن أن يقال : إنّ رواية واحدة دالّة على البطلان محتملة لغيره لأجل الاستدلال بها للصحّة أيضاً كيف يمكن أن تقاوم العمومات والروايات الخاصّة الدالّة على الصحّة ، وهل يسوغ رفع اليد عن جميعها بسبب رواية واحدة كذائية ؟
الأمر الثالث : في أنّه بعدما عرفت من كون مقتضى العمومات والروايات الخاصّة في المقام هي الصحّة ، فهل هناك شهرة معتبرة أو إجماع على البطلان حتّى يكون اللاّزم رفع اليد عن تلك والأخذ بهذه، أم لا ؟
وبعبارة اُخرى: هل يكون في البين ما يوجب الخروج عن مقتضى الأُصول أم لا ؟ وممّن أصرّ على إثبات الأوّل صاحب مفتاح الكرامة(1) ، وحكى المحقّق الرشتي (قدس سره) عن بعض مشايخه ذلك أيضاً(2) .
- (1) مفتاح الكرامة : 7 / 79 .(2) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي : 43 .
(الصفحة 202)
وملخّص ما اعتمد عليه المفتاح في هذا المقام عبارة عن الإجماع المحكي على البطلان بالموت في الخلاف(1) والغنية(2) وظاهر المبسوط(3) ، وكذا السرائر إن جرينا على ما ادّعاه من التلازم ـ ومراده أنّه نفى الخلاف في السرائر في البطلان بموت المستأجر فيما لو استأجر مرضعة ومات أبو المرتضع(4) ، مع دعوى التلازم في باب المزارعة بين موت المؤجر والمستأجر في الحكم(5) ، فيكون نافياً للخلاف في البطلان مطلقاً وإن نسب إلى الأكثرين المحصّلين القول بالصحّة ـ واعتضاد هذه الإجماعات بشهرة الشرائع(6) ، وادّعاء الشيخ (قدس سره) في موضعين من الخلاف(7) وورود الأخبار في ذلك مصرّحة به تارةً وعامة اُخرى ، ولا فرق بين ما يحكيه وبين ما يرويه ، أقصى ما هناك أنّ ما حكاه مرسل قد اعتضد بالإجماعات وانجبر بشهرة الشرائع ، بل هي بين المتقدّمين معلومة ، ونعم ما قال في التذكرة : من أنّ الشيخ (قدس سره)استدلّ بإجماع الفرقة وأخبارهم ، ولاشكّ في عدالته وقبول روايته مسندة فتقبل مرسلة(8) . هذا ، مضافاً إلى ما فهمناه من خبر إبراهيم الهمداني ، ويؤيّد ذلك أنّ المقنعة والنهاية والوسيلة والمراسم متون أخبار ، على أنّ ابن إدريس على أصله غير مخالف ، وأقصى ما قال المحقّق : إنّه أشبه باُصول
- (1) الخلاف : 3 / 491 ـ 492 مسألة 7 .(2) غنية النزوع : 287 .(3) المبسوط : 3 / 224 .(4) السرائر : 2 / 471 .(5) السرائر : 2 / 449 .(6) شرائع الإسلام : 2 / 179 .(7) الخلاف : 3 / 492 مسألة 7 وص498 مسألة 17 .(8) تذكرة الفقهاء : 2 / 325 .
(الصفحة 203)
المذهب(1) ، ولا شبهة في ذلك ، فلعلّه غير مخالف ، على أنّه في مسألة استئجار المرأة للإرضاع(2) كأنّه متردّد ، انتهى ملخّص ما أفاده في المفتاح .
ولكنّ الشهرة المعتبرة هي ما كانت متحقّقة بين القدماء ، وهي في المقام غير ثابتة ; لأنّ مجرّد فتوى المفيد والشيخ وبعض آخر بذلك لايحقّق الشهرة ، خصوصاً بعد كون ابن الجنيد والسيّد مصرّحين بعدم البطلان بموت المستأجر ، واختيار التقي أبي الصلاح أيضاً ذلك(3) ، مع كونه عظيم المنزلة في الفقاهة ، بحيث عنونه الشيخ في كتابه(4) مع كونه تلميذاً له ، ولذلك كان المحكي عن رياض العلماء : أنّ ذلك دليل على غاية جلالة الرجل وعلوّ منزلته في العلم والدين(5) . وخصوصاً بعد عدم نصّ من الصدوقين والعماني في ذلك ، بل ولا إشارة كما اعترف به صاحب المفتاح(6) .
ومع ذلك كيف يمكن دعوى الشهرة خصوصاً بعد احتمال عبارة المبسوط للتفصيل بين موت المستأجر والمؤجر بالبطلان في الأوّل دون الثاني ، وما استظهره صاحب المفتاح من عبارته من كون مراد الشيخ بالأظهر هوالأظهر عند العامّة كما هو عادته ، وقال : بذلك يرتفع الإشكال في عبارته(7) ، ففيه ـ مضافاً إلى أنّه لا إشعار في العبارة بذلك ، ولم تثبت عادة كذائية في كتاب المبسوط ـ أنّ صحّة ذلك موقوفة على ثبوت التفصيل بين العامّة مع أنّه لم يثبت ; لأنّهم بين قائل بالصحّة
- (1) شرائع الإسلام : 2 / 179 .(2) شرائع الإسلام : 2 / 185 .(3) تقدّم تخريج أقوالهم في ص183 ـ 186.(4) رجال الطوسي : 417 رقم 6034 .(5) رياض العلماء : 5 / 465 .(6) مفتاح الكرامة : 7 / 79 .(7) مفتاح الكرامة : 7 / 79 .