(الصفحة 246)
اشتراط التعجيل بالمعنى الأوّل الذي مرجعه إلى اشتراط كون دفع الاُجرة مقدّماً على قبض العين أو تسلّم العمل يكون حكمه حكم اشتراط التأجيل الذي هو عكسه ; لأنّ مرجع كليهما إلى اشتراط عدم التقارن في التقابض ، إمّا لأجل تقدّم دفع الاُجرة ، أو لأجل تأخّره ، وحينئذ يقع الكلام في صحّة هذا الاشتراط وعدمها .
فنقول : منشأ الإشكال في صحّة هذا الشرط إمّا دعوى كونه مخالفاً لكتاب الله ، نظراً إلى أنّ وجوب التقارن في مقام التسليم والتسلّم حكم إلهيّ مكتوب ، وإمّا دعوى كونه مخالفاً لمقتضيات العقد ، كما نفى البُعد عن وهمها المحقّق الرشتي (رحمه الله)(1) ، لولا الإجماع المحكي عن الغنية(2)والتذكرة(3) ، المعتضد بنفي الخلاف في محكي المبسوط(4) والتنقيح(5) ، نظراً إلى مبناه من أنّ أمثال هذا من منافيات مقتضيات ماهية العقد ، والظاهر عدم تماميّة كلتا الدعويين .
أمّا الاُولى : فلأنّه لم يقم دليل شرعي على وجوب التقارن في مقام القبض ، وقد عرفت أنّ دليل سلطنة الناس على أموالهم(6) لا يدلّ على أزيد من حرمة منع المالك عن ماله والامتناع عن تسليم ماله إليه، وهذا يقتضي وجوب الدفع إليه ، وإن امتنع هو عن التسليم ; لأنّ عصيانه لا يسوّغ عصيانه ، فدليل السلطنة أجنبيّ عن إفادة لزوم المقارنة ، فشرط الخلاف لا
- (1) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي : 85 .(2) غنية النزوع : 286 .(3) تذكرة الفقهاء : 2 / 294 .(4) المبسوط : 3 / 223 .(5) لم نعثر عليه فيه ، لكن نفى الخلاف في التذكرة : 2 / 292 ورياض المسائل : 6 / 22ـ23 .(6) عوالي اللئالي : 1 / 222 ح9 ، بحار الأنوار : 2 / 272 ح7 ، نهج الحق وكشف الصدق : 494 ـ 495 .
(الصفحة 247)
يكون مخالفاً لكتاب الله .
وأمّا الثانية : فلأنّ مقتضى العقد بملاحظة أنّ بناء العقلاء في باب المعاوضات على التسليم والتسلّم المتقارنين وإن كان هو التقارن ، إلاّ أنّ الظاهر أنّ هذا الاقتضاء إنّما هو في صورة الإطلاق وعدم اشتراط الخلاف .
وبعبارة اُخرى مقتضى الإطلاق ذلك ، لا أنّه مقتضى نفس العقد وماهيّته مطلقاً ، ولذا ترى أنّ اشتراط تأجيل الثمن في البيع ممّا لا ريب فيه ، مع أنّ دعوى خروجه بنحو التخصيص يدفعها إباء مثل ذلك عن التخصيص .
وكيف يمكن أن يدّعى أنّ الإجماع مثلاً انعقد على جواز اشتراط ما يخالف مقتضى العقل في بعض الموارد ، كما هو ظاهر .
هذا ، ويمكن المناقشة فيما ذكرنا أيضاً من كون التقارن مقتضى إطلاق العقد نظراً إلى أنّ التقارن لا يرتبط بالعقد ، بل غاية مقتضاه هو التسليم حين التسلّم وعدم الفصل بينهما ، وأمّا التقارن بينهما الموجب لنفي تحقّق عنوان الابتداء وصدقه على عمل واحد منهما فلا يكون من مقتضيات العقد ، بل هو مقتضى قاعدة بطلان الترجيح من غير مرجّح ، فاشتراط عدمه لا يكون مخالفاً لما يقتضيه العقد أصلاً . اللّهم إلاّ أن يقال : إنّ مرجع اشتراط التعجيل أو التأجيل ليس إلى اشتراط عدم التقارن بعنوانه ، بل مرجعهما إلى اشتراط الفصل بين التسليم والتسلّم ، وقد عرفت أنّ ذلك مخالف لمقتضى إطلاق العقد .
نعم ، لو تعلّق الغرض إلى نفي عنوان التقارن وحصول الابتداء من طرف المشترط عليه من دون تحقّق الفصل لكان ذلك أجنبيّاً عن باب
(الصفحة 248)
المخالفة لمقتضى العقد رأساً .
وقد انقدح من جميع ما ذكرنا أنّ اشتراط التعجيل أو التأجيل مشمول لعموم دليل الشرط(1) ويجب الوفاء به .
ثمّ إنّه لا إشكال في اعتبار كون الأجل المشترط مضبوطاً ، والكلام يقع تارةً في مانعيّة الجهالة عن نفوذالشرط ، واُخرى في فساد الإجارة باشتراط الأجل المجهول.
أمّا الأوّل : فذكر المحقّق الإصفهاني (رحمه الله): أنّه مبنيّ على صحّة ما أرسله الشهيد (رحمه الله)من نهي النبيّ (صلى الله عليه وآله) عن الغرر(2) ، مضافاً إلى دعوى انصرافه إلى الالتزامات المعاملية المستقلّة في التحصّل ، دون مثل الشرط الذي هو التزام ضمنيّ تبعيّ ، خصوصاً إذا لم يكن متعلّقه مالاً ، فإنّه لا غرر فيه ولا خطر من حيث عدم ذهاب ماله هدراً ، بل فيما إذا كان مالاً أيضاً لا غرر ; لأنّه غير مقابل بالمال ليذهب هدراً بذهاب مقابله ، وليس مجرّد عدم وصول المال المشترط خطراً وضرراً . نعم ، إن عمّمنا الخطر والضرر إلى نقض الغرض المعاملي فوقوعه مع الجهل في نقض غرضه الواقع موقع الالتزام وقوع في الخطر والضرر(3) ، انتهى كلامه (رحمه الله) .
ويرد عليه : أنّه على تقدير صحّة مرسلة الشهيد (رحمه الله) ، ومنع دعوى الانصراف المذكورة لا دلالة في الرواية على عدم نفوذ الشرط المتّصف
- (1) راجع وسائل الشيعة : 18 / 16 ، كتاب التجارة، أبواب الخيار ب6 وج21 / 276، كتاب النكاح، أبواب المهور ب20 ذح4 ، ومستدرك الوسائل : 13 / 300 ، كتاب التجارة، أبواب الخيار ب5 .(2) القواعد والفوائد : 2 / 61 ، كذا أرسله الشهيد الثاني في مسالك الأفهام : 5 / 178ـ 179 ، وقد تقدّم البحث فيه في ص23 .(3) بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 52 .
(الصفحة 249)
بالجهالة ; لما عرفت سابقاً(1) من أنّ الغرر ليس بمعنى الجهالة ، بل هو عبارة عن الخطر والتعرّض للمهلكة ، وحينئذ يكون النهي عنه نهياً مولويّاً مفاده حرمة التعرّض للمهلكة ، نظير قوله تعالى :
{وَلاَ تُلقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَهلُكَةِ}(2) .
نعم ، يمكن التمسّك بالنهي عن بيع الغرر(3) بناءً على دعوى إلغاء الخصوصية والحكم بكون البيع مذكوراً لأجل كونه الغالب في باب المعاوضات ، وعلى عدم كون الخصوصية الملغاة منحصرة بالالتزامات المعاملية المستقلّة في التحصّل ، بل يشمل مثل الشرط الذي هو التزام تبعي غير مستقلّ ، وذلك لأنّ دلالة النهي حينئذ على الفساد بعد تعلّقه بالمعاملة غير قابلة للخدشة ، كما لا يخفى .
وأمّا الثاني : فذكر المحقّق المذكور فيه ما ملخّصه : أنّ الشرط تارةً بمعنى التقييد ، واُخرى بمعنى الالتزام في ضمن الالتزام ، أمّا إذا كان بمعنى التقييد و ورد العقد على المقيّد فلا محالة يكون أحد العوضين غرريّاً بذاته ، وإذا ورد التقييد على أحد العوضين كما في التوصيف فلا غرر في ذات أحد العوضين ، بل في شأن من شؤونه ، وعلى أيّ تقدير فشرط الأجل ليس كذلك ; لعدم تحدّد الأعيان بالزمان ، فلا معنى للدينار المؤجّل .
وأمّا إذا كان بمعنى الالتزام فجهالة الملتزم به ليست جهالة في أحد العوضين بذاتهما ولا بوصفهما ، والبيع ليس إلاّ تمليك عين بعوض ، فمع
- (1) في ص23 .(2) سورة البقرة 2 : 195 .(3) تقدّم تخريجه مفصّلاً في ص22 .
(الصفحة 250)
انحفاظهما وعدم ذهابهما هدراً لا معنى لسراية الغرر إلى البيع بما هو بيع ، وليس الملتزم به في قبال أحد العوضين ولو لُبّاً حتّى يتحقّق الخطر بملاحظة ما يقابله . نعم ، إذا اُريد من الخطر في البيع الخطر في الإقدام المعاملي البيعي فالبيع الخاصّ المشتمل على الشرط المجهول خطريّ وإن لم يكن ذات البيع خطريّاً(1) ، انتهى ملخّصاً .
والإنصاف أنّه لابدّ من ملاحظة تحقّق الغرر والخطر عند العقلاء ; إذ ليست دائرة الغرر عند الشرع بأوسع من دائرته عند العقلاء ، وإلاّ لكان اللاّزم عدم الاقتصار على مجرّد نهي واحد عن بيع الغرر بعد كون المعاملات الغرريّة عند الشارع ـ الغير الغرريّة عند العقلاء ، بناءً على الاختلاف ـ رائجة في السوق متداولة بين الناس ، إذ في أمثال هذه الموارد لا يكاد يمكن أن يتحقّق الردع على فرضه بمجرّد صدور نهي واحد كما هو واضح ، وحينئذ فالمدار على العرف ولابدّ من الرجوع إليه .
[انتهى الكلام من كتاب الإجارة الثاني].
***
- (1) بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 52 ـ 53 .