(الصفحة 261)
الاحتمالين المتقدمين في كلام الشيخ ، وعليه فما يمكن أن يقال عليه منع هذا البناء ; لعدم الفرق عند العقلاء بين الموارد أصلاً ، لأنّ المناط عندهم في ثبوت حقّ المطالبة مجرّد الفراغ من العمل المستأجر عليه ، من دون فرق بين الموارد ، ويؤيّد ما ذكرنا ما أفاده المحقّق الرشتي (قدس سره)بعنوان التأييد أو الدليل ; من أنّه لو استؤجر على خياطة ثوب مغصوب مثلاً غير مقدور على تسليمه صحّ بلا إشكال ، مع أنّ إمكان الإقباض الذي هو شرط صحّة العقد مفقود هنا ، وعلى مذهب الشيخ لا تصح هذه الإجارة(1) .
هذا ، مضافاً إلى ما يمكن أن يقال من أنّ يد الأجير يد أمانيّة بمنزلة يد المستأجر ، وعليه فوقوعه في يده بمنزلة التسليم إلى المستأجر ، فالتسليم في جميع الموارد متحقّق ، كما إذا أمر المستأجر بالتسليم إلى شخص آخر .
ثمّ إنّه حكى في المفتاح عن الحواشي أنّ المنقول وجوب تسليم الأُجرة في الحجّ ـ أي قبل الشروع فيه ـ وإن لم يعط الأُجرة وتعذّر الحجّ إلاّ بها كان له الفسخ ، وما عدا الحجّ يجوز حبس الأُجرة إلى بعد العمل ، وحكى عن مجمع البرهان(2) أنّه نقل قولاً بأنّه لايجوز للوصي تسليم الأُجرة للأجير في العبادات إلاّ مع إذن الموصي صريحاً أو فحوى ، إلاّ أن يكون العمل موقوفاً عليه كالحجّ ، فلو امتنع كان للأجير فسخه بل هو يفسخ بنفسه(3) .
واستشكل في الجواهر(4) في جواز الفسخ للأجير ، نظراً إلى إقدامه على الإجارة
- (1) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي : 112 .(2) مجمع الفائدة والبرهان : 10 / 17 .(3) مفتاح الكرامة : 7 / 116 .(4) جواهر الكلام: 27 / 245.
(الصفحة 262)
التي مقتضاها ذلك .
هذا ، والظاهر أنّه لافرق بين الحجّ وبين غيره ، ومجرّد توقّف مثله على المؤونة لا يوجب ثبوت الاستحقاق قبل العمل ، وتعارف التسليم قبله منقوض بعدم تعارف تسليم تمام الأُجرة في إجارة الأعيان مطلقاً ، بل ربما تكون مطالبتها مورداً لتقبيح أهل العرف والعقلاء ، كما لايخفى .
ثمّ إنّه يترتّب على ماذكرنا من كون التسليم في مثل خياطة الثوب إنّما هو بإتمام العمل لا بتسليم مورده ، أنّه لو تلف الثوب بعد تمام العمل على نحو لا ضمان عليه ، كما إذا لم يكن هناك تعدّ ولا تفريط ولم يكن شرط الضمان بناءً على صحّته ، لا شيء عليه ، بل تستحق مطالبة الأُجرة لفرض تماميّة العمل .
نعم ، لو تلف مضموناً عليه ضمنه بوصف المخيطية لا بقيمته قبلها على كلا الوجهين حتى الوجه الثاني ; لأنّ الوصف مملوك لمالك العين تبعاً لها ، وبعد الخروج عن عهدة الموصوف مع وصفه تكون له المطالبة بالأُجرة المسمّـاة لتسليم العمل ببدله ، كما هو ظاهر .
(الصفحة 263)
[امتناع المؤجر من تسليم العين المستأجرة]
مسألة : لو بذل المستأجر الأُجرة، أو كان له حقّ أن يؤخّرها بموجب الشرط وامتنع المؤجر من تسليم العين المستأجرة يجبر عليه ، وإن لم يمكن إجباره فللمستأجر فسخ الإجارة والرجوع إلى الأُجرة ، وله إبقاء الإجارة ومطالبة عوض المنفعة الفائتة من المؤجر . وكذا إن أخذها منه بعد التسليم بلا فصل أو في أثناء المدّة ، لكن في الثاني لو فسخها تنفسخ بالنسبة إلى ما بقي من المدّة فيرجع إلى ما يقابله من الأُجرة1 .
1 ـ قد تعرّض لهذه المسألة المحقّق في الشرائع بعنوان منع المؤجر المستأجر من استيفاء المنفعة ، وقال في حكمها : «سقطت الأُجرة ، وهل له أن يلتزم ويطالب المؤجر بالتفاوت ؟ فيه تردّد والأظهر نعم»(1) .
وكيف كان ، فللمسألة صور ; فإنّ المنع تارةً يكون قبل إقباض العين المستأجرة واُخرى بعده ، كما أنّه في الصورة الاُولى تارةً لا يكون المستأجر متمكِّناً من الإجبار حتّى تمضي المدّة بأسرها ، واُخرى يكون ولكن لم يفعل ، كما أنّه تارةً يستوفي المؤجر المنفعة ، واُخرى لا يستوفي هو أيضاً بل تتلف تحت يده .
ففيما إذا كان المنع قبل الإقباض ولم يتمكّن المستأجر من الإجبار وكان هو المستوفي للمنفعة وجوه ، بل أقوال :
أحدها : انفساخ الإجارة قهراً ، الذي عبّر عنه في العبارة المتقدّمة بسقوط الأُجرة ، وقد حكي هذا القول عن الشيخ(2) والفاضل في محكي التذكرة(3) .
- (1) شرائع الإسلام : 2 / 186 .(2) النهاية : 444 .(3) تذكرة الفقهاء : 2 / 326 .
(الصفحة 264)
ثانيها : لزوم العقد وبقاؤه على حاله واستحقاق المستأجر اُجرة مثل المنفعة وكون المؤجر ضامناً لها .
ثالثها : تخيير المستأجر بين الفسخ وإرجاع الأُجرة المسمّـاة ، وبين الإمضاء والرجوع بالتفاوت ; وهو الذي استظهره المحقّق في عبارته المتقدّمة . وإن كان الجمع بين الجزم بالانفساخ كما هو ظاهر العبارة وبين احتمال التخيير ثمّ استظهاره ممّا لا يناسب كما هو غير خفي ، ولكنّ صريح المتن اختيار هذا الوجه .
وكيف كان ، فقد استدلّ للقول الأوّل بأنّ ذلك بمنزلة التلف قبل القبض المقتضي للانفساخ ; لتعذر تحقّق المعاوضة حينئذ .
وبعبارة اُخرى : قاعدة التلف قبل القبض عامّة شاملة للتلف الاختياري أيضاً ، من دون فرق بين ما إذا كان مستنداً إلى الأجنبي أو إلى البائع أو المؤجر .
ويرد عليه : أنّ هذه القاعدة وإن لم تكن مختصّة بباب البيع ، بل تجري في مثل الإجارة أيضاً لإلغاء الخصوصية عن دليلها الوارد في مورد البيع(1) ، وإن ناقشنا سابقاً(2) في إلغاء الخصوصية بعد كون الحكم مخالفاً للقاعدة ، إلاّ أنّ الظاهر إختصاصها بالتلف القهري ، ولا يشمل التلف الاختياري الصادر من البائع أو المؤجر . نعم ، رواية عقبة بن خالد المعروفة الواردة في مورد سرقة المتاع من البائع(3) وإن كان موردها السرقة التي هي أمر اختياريّ ، إلاّ أنّ الحكم بالانفساخ فيها إنّما هو لأجل حصول التلف من البائع قهراً ، لا لأجل حصول السرقة من
- (1) عوالي اللئالي : 3 / 212 ح59 ، مستدرك الوسائل : 13 / 303 ، كتاب التجارة، أبواب الخيار ب9 ح1 .(2) في ص223 ـ 228.(3) الكافي : 5 / 171 ح12 ، التهذيب : 7 / 21 ح89 وص230 ح1003 ، وسائل الشيعة : 18 / 23 ، كتاب التجارة، أبواب الخيار ب10 ح1 .
(الصفحة 265)
السارق اختياراً .
وبالجملة : لا ينبغي الإشكال في اختصاص القاعدة بالتلف القهري ، وعدم شمولها للتلف الاختياري من البائع أو المؤجر في المقام .
واستدلّ للقول الثاني بعموم قاعدة الإتلاف ، فإنّ المنفعة التي استوفاها المؤجر مال للمستأجر قد أتلفه عليه ، فلا محيص من أن يكون ضامناً له يجب عليه الخروج عن العهدة بأداء أُجرة المثل مع قبض الأُجرة ، أو التفاوت مع عدم القبض والاتّحاد من حيث الجنس وكونها كليّة لا شخصيّة . نعم ، كون المنفعة مالاً للمستأجر دون المؤجر يتوقّف على عدم جريان قاعدة التلف قبل القبض ، الحاكمة بالانفساخ هنا ; لما مرّ من اختصاصها بالتلف القهري من البائع أو المؤجر ، ضرورة أنّه مع جريانها لامجال للرجوع إلى قاعدة الإتلاف ، التي يكون موضوعها مال الغير .
وبالجملة : فأدلّة لزوم العقد بضميمة كون مقتضى القاعدة عدم الانفساخ ، وبضميمة قاعدة الإتلاف أيضاًتحكم ببقاء الإجارة على حالها واستحقاق المستأجر أُجرة مثل المنفعة المستوفاة على المؤجر .
وأمّا القول الثالث ، فقد استدلّ له بوجهين :
أحدهما : أنّه اجتمع في المقام قاعدتان : قاعدة التلف قبل القبض ـ بناءً على عدم اختصاصها بالتلف القهري وشمولها لمثل المقام ـ وقاعدة الإتلاف ، ومقتضى الاُولى كون المؤجر ضامناً بالضمان المعاوضي ، ومرجعه إلى رجوع الأُجرة المسمّـاة إلى المستأجر ، ومقتضى الثانية كونه ضامناً بالضمان الواقعي، ومرجعه إلى ثبوت اُجرة المثل عليه ، وحيث إنّه لا يمكن للمستأجر إعمال القاعدتين لتضادّ المقتضيين ، ولا مرجّح في البين ، ولا موجب لرفع اليد عن كلا الأمرين ، فلا محالة يكون مخيّراً