(الصفحة 329)
أنّ الظاهر عدم كونها قاعدة مستقلّة في مقابل تلك القواعد ، بل هي قاعدة اصطيادية مستفادة من القواعد الاُخر ، الحاكمة بثبوت الضمان في موارد العقود الفاسدة .
وكيف كان ، فمع غمض النظر عن هذه الجهة نقول : قد كثر الكلام حول هذه القاعدة ووقع النقض والإبرام بالنسبة إليها ، ولكن الذي يرتبط منها بباب الإجارة بالخصوص هو الذي ينبغي التكلّم فيه هنا ; وهو أنّه هل يكون عقد الإجارة من صغريات هذه القاعدة أم لا ؟ وبعبارة اُخرى هل يكون في صحيح الإجارة ضمان حتّى يكون في فاسدها أيضاً ذلك أم لا ؟
ومنشأ الإشكال ، الاختلاف في حقيقة الإجارة وماهيّتها ، فإن كان الطرفان فيها هما الاُجرة والمنفعة بحيث كان العقد وارداً عليهما ، كما هو ظاهر تعريفها بأنّها تمليك المنفعة بعوض ، لكانت المنفعة التي هي طرف العقد أيضاً مضمونة بالمسمّى في الإجارة الصحيحة ، فيلزم أن تكون في فاسدها أيضاً كذلك .
وأمّا لو كان الطرف الآخر هي نفس العين المستأجرة دون المنفعة ـ كما يظهر من تحديدها بأنّها إضافة في العين تستتبع ملكيّة المنفعة على ما مرّ سابقاً(1) من ترجيح هذا التعريف ـ لكانت الإجارة بلحاظ المنفعة خارجة عن هذه القاعدة ; لعدم ثبوت الضمان حينئذ في صحيحها فضلاً عن فاسدها ; لأنّ المنفعة على هذا التقدير خارجة عن مورد العقد .
ومن الواضح أنّ القاعدة ـ أصلاً وكذا عكساً ـ ناظرة إلى ماهو طرف للعقد وهو واقع عليه ، اللّهمَّ إلاّ أن يقال : بأنّ كون الإجارة إضافة في العين لا يقتضي عدم كون
(الصفحة 330)
المنفعة مورداً للعقد ومضمونة في صحيحه ; لظهور أنّ الاُجرة عند العقلاء إنّما تقع بإزاء المنفعة وفي مقابلها ، والمصحّح لصدق الضمان هو هذا التقابل الذي مرجعه إلى عدم كونها مفوّضة إلى المستأجر مجّاناً وبلا عوض ، فالظاهر حينئذ بمقتضى ما ذكر كون الإجارة من مصاديق هذه القاعدة ، فاللازم ثبوت اُجرة المثل في فاسدها ، ولكنّك عرفت عدم كون هذه القاعدة قاعدة مستقلّة بحيث يتّكل عليها كذلك .
الثالث : قاعدة الإقدام التي استند إليها في المقام المحقّق الإصفهاني (قدس سره)(1) ، نظراً إلى أنّ مثلها هو المدرك لثبوت الضمان لا نفس قاعدة ما يضمن ، وأوّل من استند إلى هذه القاعدة ـ على ما حكي(2) ـ شيخ الطائفة الإماميّة في المبسوط(3) ، ثمّ تبعه فيه بعض من أجلاّء الفقهاء ، كالمحقّق والشهيد الثانيين (قدس سرهما)(4) .
وقد اعترض عليهم بعدم إجدائها في موارد العقود الفاسدة ; لعدم تحقّق موضوع الإقدام ، فإنّ ما أقدم عليه المتعاقدان هو الضمان الخاصّ ; وهو كون ما انتقل إليه مضموناً بإزاء خصوص الطرف الآخر المنتقل عنه ، فإنّ المشتري مثلاً إنّما أقدم على ضمان المبيع بخصوص الثمن الواقع بإزائه ، والمستأجر في المقام إنّما أقدم على ضمان المنفعة قبال الاُجرة المسمّـاة ، والمفروض أنّه مع فساد العقد ينتفي هذا الضمان ، والضمان الآخر ليس ممّا أقدم عليه المتعاقدان ، فما أقدما عليه غير واقع لفرض الفساد ، والضمان الآخر لا يكون مقدماً عليه بوجه .
وأجاب عن هذا الاعتراض المحقّق الخراساني (قدس سره) في تعليقته على متاجر الشيخ
- (1) بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 93 ـ 94 .(2) الحاكي هو الشيخ الأنصاري في كتاب المكاسب : 3 / 182 و188.(3) المبسوط : 3 / 58 ، 65 ، 68 ، 85 و 89 .(4) جامع المقاصد: 6 / 324، الروضة البهية : 3 / 236 ، مسالك الأفهام : 3 / 154 و160 وج4 / 56 .
(الصفحة 331)
الأعظم (قدس سره) بما لفظه : يمكن أن يقال : بأنّهما أقدما على أصل الضمان في ضمن الإقدام على ضمان خاصّ ، والشارع إنّما لم يمض الضمان الخاصّ لا أصله ، مع أنّ دليل فساد العقد ليس بدليل على عدم إمضائه فافهم . لكن لا دليل على كون الإقدام سبباً للضمان أصلاً(1) .
وقد أوضح مرامه تلميذه المحقّق الإصفهاني (قدس سره) في كتاب الإجارة بما حاصله يرجع إلى أنّ الإقدام على التضمين متحقّق في ضمن الإقدام على التمليك ، لأنّ الملحوظ هو العوض بما هو مال بضميمة الخصوصية ، والمعوّض بطبيعية المجامع مع وجوده ومع تلفه ، والتعويض أيضاً كذلك ، الملائم مع كونه عوضاً في حال وجود المعوّض وفي حال تلفه ، وعليه فالإقدام الضمني على التضمين الذي هو عبارة اُخرى عن شرط الضمان ثابت ، والدليل على فساد العقد إنّما يدلّ على عدم نفوذه بما هو تمليك ، ولا يستلزم عدم نفوذ الالتزام الشرطي .
ثمّ أجاب عنه :
أوّلاً : بأن هذه الطبيعيّات منتزعة ممّا أقدما عليه لا أنّها داخلة في دائرة الإقدام .
وثانياً : بأنّ شرط الضمان الذي هو مرجع الإقدام الضمني إنّما يكون له أثر إذا وقع في ضمن عقد صحيح، والمفروض في المقام فسادهوعدم صحّة الشرط الابتدائي(2).
والتحقيق أنّ التمسّك بهذه القاعدة لثبوت الضمان في موارد العقود الفاسدة المعاوضية ممنوع ; لأنّها مخدوشة صغرى وكبرى ; أمّا الصغرى فلأنّ الواضح أنّ الإقدام المتحقّق في الخارج ليس إلاّ فرداً من الإقدام متعلّقاً بالضمان الخاصّ ،
- (1) حاشية المكاسب للمحقّق الخراساني : 31 .(2) بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 94 .
(الصفحة 332)
ولا نظر للمتعاقدين إلى غيره أصلاً ، خصوصاً فيما إذا كانا جاهلين بفساد المعاملة ، الذي قد عرفت أنّه القدر المتيقّن من مفروض المقام ، فدعوى ثبوت إقدام آخر على أصل الضمان في ضمن الإقدام على الضمان الخاصّ لا شاهد لها أصلاً .
ثمّ على تقدير تسليم هذه الدعوى نقول : إنّها غير منطبقة على الغرض الأصلي وهو اثبات اُجرة المثل ; لأنّ الإقدام على أصل الضمان إن كان المراد به هو الإقدام على ماهو نتيجة الضمان في موارده ; وهو اُجرة المثل في الإجارة ، والمثل أو القيمة في البيع ونحوه ، بمعنى أنّ الإقدام الضمني إنّما هو الإقدام على خصوص اُجرة المثل مثلاً ، كما ربما يظهر من تقريب كلام المحقّق الخراساني (قدس سره) على ما عرفت ، فيردّه وضوح خلافه ، ضرورة أنّ المقدم لا يكون متوجّهاً إلى اُجرة المثل أصلاً ، فكيف يقدم عليها . وإن كان المراد به هو الإقدام على أصل الضمان الذي مرجعه إلى عدم كون المال له مجّاناً وبلا اُجرة فنقول : إنّه على تقدير تسليمه لا يكاد يثبت اُجرة المثل بخصوصها ; لأنّها بخصوصيتها لم يكن مقدماً عليها بوجه .
وأمّا الكبرى فكما أفاده المحقّق الخراساني (قدس سره) في ذيل كلامه لا دليل على كون الإقدام سبباً للضمان كاليد والإتلاف ونحوهما ، فالإقدام على تقدير ثبوته موضوعاً يحتاج إلى دليل الإمضاء ، ولم يعلم كونه بنفسه عند العقلاء كذلك حتّى يكون عدم الردع كافياً في ثبوت الإمضاء .
الرابع : قاعدة الاحترام التي يدلّ عليها رواية أبي بصير ، عن أبي جعفر (عليه السلام)قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): سباب المؤمن فسوق، وقتاله كفر، وأكل لحمه معصية، وحرمة ماله كحرمة دمه(1) . وتقريب الاستدلال بها من وجهين :
- (1) الكافي : 2 / 359 ح2 ، وسائل الشيعة : 12 / 297 ، كتاب الحج، أبواب أحكام العشرة ب158 ح3 .
(الصفحة 333)
أحدهما : أن يقال : إنّ المراد من الحرمة المتعلّقة بمال المؤمن هي الحرمة التكليفية ، نظراً إلى وقوعها في سياق الأحكام التكليفية التي يدلّ عليها الفسوق والكفر والمعصية ، وإلى ظهور التشبيه بحرمة الدم في التكليف ; لأنّ المشبه به هو ما يدلّ عليه قوله (صلى الله عليه وآله) : «وقتاله كفر» ، ويكون مدلولها حينئذ أنّ ما يترتّب على التعرّض لمال المؤمن هو الذي يترتّب عى التعرّض لقتاله ، وهي شدة المبغوضية المعبّر عنها بالكفر .
وكيف كان ، فغاية مفادها على هذا الوجه هو مجرّد الحكم التكليفي، وحينئذ فلابدّ في استفادة الضمان منها .
إمّا من أن يقال ـ كما حكي عن بعض أجلّة السادة ـ بأنّ حرمة المزاحمة وإن كانت حكماً تكليفياً إلاّ أنّه حيث تكون المزاحمة محرمة حدوثاً وبقاءً ، وعدم تدارك المال بعد تلفه إبقاء للمزاحمة ، ورفعها لا يتحقّق إلاّ بتدارك المال ، فاللاّزم من هذا هو الضمان الوضعي(1) .
وإمّا من أن يقال كما أفاده المحقّق الإصفهاني (قدس سره) : بأنّ المال المضاف إلى المسلم بإضافة الملكيّة له جهتان :
الاُولى : حيثية الملكيّة ورعايتها واحترامها عبارة عن عدم التصرّف فيما هو تحت سلطان الغير إلاّ بإذنه .
الثانية : جهة المالية ، ورعاية هذه الجهة واحترام هذا الشأن أن لا يجعله هدراً بحيث يعامل معه معاملة ما لا مالية له ، فالمال المضاف بإضافة الملكيّة له حرمتان: من حيث المضاف ، ومن حيث الإضافة .
- (1) حكى عنه المحقّق الإصفهاني في بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 95 .