(الصفحة 355)
ثمّ لا يخفى أنّ الظاهر اتّحاد هذه الرواية مع ما رواه الصدوق بإسناده عن إسحاق ابن عمّار ، عن أبي بصير ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : إذا تقبلت أرضاً بذهب أو فضّة فلا تقبلها بأكثر ممّا قبلتها به ; لأنّ الذهب والفضّة مصمتان (مضمنان خ ل) أي لا يزيدان(1) .
الثالثة : ما يدلّ بظاهرها على التفصيل في إجارة الأرض بين ما إذا أحدث شيئاً وما إذا لم يحدث ، مثل رواية إسماعيل بن الفضل الهاشمي ، عن أبي عبد الله (عليه السلام)قال : سألته عن الرجل استأجر من السلطان من أرض الخراج بدراهم مسمّـاة أو بطعام مسمّى ، ثمّ آجرها وشرط لمن يزرعها أن يقاسمه النصف أو أقلّ من ذلك أو أكثر ، وله في الأرض بعد ذلك فضل ، أيصلح له ذلك ؟ قال : نعم إذا حفر لهم نهراً ، أو عمل لهم شيئاً يعينهم بذلك فله ذلك .
قال : وسألته عن الرجل استأجر أرضاً من أرض الخراج بدراهم مسمّـاة أو بطعام معلوم ، فيؤاجرها قطعة قطعة أو جريباً جريباً بشيء معلوم ، فيكون له فضل فيما استأجر من السلطان ولا ينفق شيئاً ، أو يؤاجر تلك الأرض قطعاً على أن يعطيهم البذر والنفقة ، فيكون له في ذلك فضل على إجارته ، وله تربة الأرض أو ليست له ؟ فقال له : إذا استأجرت أرضاً فأنفقت فيها شيئاً أو رممت فيها فلا بأس بما ذكرت . ورواه الصدوق مرسلاً ، واقتصر على المسألة الثانية وزاد : ولا بأس أن يستكري الرجل أرضاً بمائة دينار فيكري بعضها بخمسة وتسعين ديناراً ويعمر بقيّتها(2) .
- (1) الفقيه : 3 / 149 ح654 ، وسائل الشيعة : 19 / 128 ، كتاب الإجارة ب21 ح6 .(2) الكافي : 5 / 272 ح2 ، الفقيه : 3 / 157 ح689 ، المقنع : 391 ، وسائل الشيعة : 19 / 127 ، كتاب الإجارة ب21 ح3و4 .
(الصفحة 356)
ولا إشكال في أنّ المراد بالمعاملة الثانية في السؤال الأوّل هي المزارعة وإن عبّر عنها بالإجارة ، وأمّا السؤال الثاني فظاهر في أنّ المعاملتين إنّما هما بعنوان الإجارة دون المزارعة ، وكذلك السؤال الثالث ، واشتراط إعطاء البذر والنفقة لا ينافي الإجارة كما هو غير خفيّ ، وعليه فالجواب ظاهر في التفصيل في إجارة الأرض بين ما إذا أنفق أو رمّم فلا بأس ، وبين غيره ففيه بأس ، كما أنّ زيادة الصدوق واردة في الإجارة ، ونظيرها ما رواه علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر (عليه السلام) >قال : وسألته عن رجل استأجر أرضاً أو سفينة بدرهمين فآجر بعضها بدرهم ونصف وسكن هو فيما بقي أيصلح ذلك ؟ قال : لابأس(1) .
هذه هي الروايات المختلفة الواردة في إجارة الأرض بأكثر ممّا استُؤجرت به ، وقد جمع بينها بوجوه :
أحدها : جعل الرواية المفصّلة شاهدة للجمع بين الطائفة الدالّة على الجواز مطلقاً ، والطائفة الدالّة على المنع كذلك ; بحمل الاُولى على ما إذا أحدث وأنفق والثانية على ما إذا لم ينفق .
ويرد عليه : أنّ إجارة البيت والحانوت وأمثالهما مع الإحداث أيضاً جائزة ، فلاوجه حينئذ لنفي المماثلة بين الأرض وبين مثلهما في الروايات المجوِّزة ، إذ مقتضى هذا الوجه من الجمع جواز الإجارة في الجميع مع الإحداث .
ثانيها : حمل الروايات المانعة على الكراهة بقرينة الروايات المجوِّزة الصريحة في نفي الحرمة ، والحكم بالكراهة فيما إذا لم يحدث وبعدم البأس مع الإحداث ، نظراً إلى الرواية الدالّة على التفصيل .
- (1) مسائل علي بن جعفر : 124 ح86 ، وسائل الشيعة : 19 / 131 ، كتاب الإجارة ب22 ح8 .
(الصفحة 357)
ويرد عليه : أنّ هذا الجمع إنّما يبتني على أن تكون الطوائف الثلاث واردة في الإجارة ، وقد عرفت الإشكال فيه .
ثالثها : حمل الروايات المجوّزة على المزارعة والمانعة على الإجارة .
ويرد عليه ـ مضافاً إلى ما أوردناه على الوجه الثاني ـ : إنّه لا شاهد لهذا الجمع بعد ورود كلتا الطائفتين ، كالرواية المفصّلة في الإجارة على ما هو المفروض .
والتحقيق أن يقال : إنّه على فرض ورود الطوائف الثلاث في الإجارة لا محيص عن الجمع بالوجه الثاني ، وعلى تقدير ورود ما عدا الطائفة الثانية المانعة فيها لا تعارض بين الطائفة المجوّزة والرواية المفصّلة ، بالنظر إلى منطوقهما لكونهما موجبتين ، وأمّا بالنظر إلى مفهوم الرواية المفصّلة فالقاعدة تقتضي حمل المطلق على المقيّد ، والحكم بثبوت البأس فيما إذا لم ينفق ولم يرمّم ، ومن الواضح أنّ الحكم بثبوت البأس لا دلالة له على أزيد من الكراهة .
ومنه يظهر أنّ مقتضى القاعدة الكراهة أيضاً فيما إذا قلنا بورود الطائفتين المطلقتين في المزارعة كما نفينا البعد عنه ، وأمّا إذا قلنا بورود ما عدا الطائفة الاُولى في الإجارة فيقع التعارض بين الطائفة المانعة والرواية المفصّلة ، بالنظر إلى المنطوق لكونها دالّة على عدم الجواز مطلقاً ، وهي تدلّ على نفي البأس مع الإنفاق ومثله، فيقيّد إطلاقها بها ويحكم بالجواز معه ، وأمّا مع عدم الإنفاق فمنطوق المطلقة النهي عنه ومفهوم المفصّلة ثبوت البأس ، ومن الواضح أنّه لا منافاة بينهما إلاّ أن يقال : بأنّ النواهي ليس لها ظهور في الحرمة ، بل غايتها كونها حجّة يجب الخروج عن عهدتها ما لم تقم حجّة على الخلاف ، والمفهوم هنا بما أنّه لا دلالة له على أزيد من الكراهة قابل لأن يكون حجّة على الخلاف ، فلا يبقى حينئذ للحكم بالحرمة مجال ، ولكن هذا الكلام لا يخلو من النظر بل المنع .
(الصفحة 358)
وقد ظهر من جميع ما ذكرنا أنّه بناءً على ما اخترناه من ورود الطائفتين الأوليين في غير الإجارة تكون الرواية المفصّلة الواردة في الإجارة على طبق القاعدة . غاية الأمر أنّ مفهومها يدلّ على الكراهة كما عرفت ، فيصير الحكم الجواز في الأرض المستأجرة مع الإنفاق وشبهه ، والكراهة مع عدمه . نعم ، فيما إذا آجر بعض الأرض المستأجرة بأكثر ممّا يقع بإزائه من الاُجرة في الإجارة الاُولى على فرض التقسيط يكون مقتضى إطلاق زيادة الصدوق ورواية قرب الإسناد الجواز وعدم البأس ، ولو احتمل كون الزيادة من الصدوق يكفي في الحكم بالجواز رواية قرب الإسناد ، خصوصاً مع كونها مطابقة للقاعدة .
نعم ، روى هذه الزيادة مستقلّة الشيخ (قدس سره)في الصحيح عن محمد بن مسلم ، عن أحدهما (عليهما السلام) قال : سألته عن الرجل يستكري الأرض بمائة دينار فيكري نصفها بخمسة وتسعين ديناراً ويعمر هو بقيتها ؟ قال : لا بأس(1) . وعليه فتدلّ الرواية بالصراحة على الجواز في الفرض المزبور لا بالإطلاق كما في الروايتين . هذا تمام الكلام فيما يتعلّق بالأرض .
وأمّا الدار والبيت:ـ بناءً على اتّحادهما كما هو كذلك عند العرف ، وإن كان مخالفاً لما يظهر من اللغة ـ فقد ورد فيهما أيضاً روايات :
منها : رواية أبي الربيع الشامي المتقدّمة الدالّة على أنّ فضل الأجير والبيت حرام ، وقد عرفت أنّ الصدوق (قدس سره) رواها مع الزيادة ، وقد احتمل في الزيادة أن تكون فتوى الصدوق لا جزءاً من الرواية ، ولكن لا يخفى أنّ الكليني رواها مستقلّة
- (1) التهذيب : 7 / 205 ح902 ، الاستبصار : 3 / 131 ، ح469 ، وسائل الشيعة : 19 / 129 ، كتاب الإجارة ب22 ح1 .
(الصفحة 359)
بسند ملحق بالصحيح عن الحلبي ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : لو أنّ رجلاً استأجر داراً بعشرة دراهم فسكن ثلثيها وآجر ثلثها بعشرة دراهم لم يكن به بأس ، ولا يؤاجرها بأكثر ممّا استأجرها به إلاّ أن يحدث فيها شيئاً(1) .
ومنها : رواية ابن ميمون المتقدّمة أيضاً الدالّة على أنّ فضل البيت حرام .
ومنها : ما رواه الكليني عن الحلبي ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الرجل يستأجر الدار ثمّ يؤاجرها بأكثر ممّا استأجرها به ، قال : لا يصلح ذلك إلاّ أن يحدث فيها شيئاً(2) .
ومنها : رواية إسحاق بن عمّار ، عن جعفر ، عن أبيه (عليهما السلام) ، أنّ أباه كان يقول : لا بأس أن يستأجر الرجل الدار أو الأرض أو السفينة ثمّ يؤاجرها بأكثر ممّا استأجرها به إذا أصلح فيها شيئاً(3) .
ومنها : ما رواه في قرب الإسناد عن عبد الله بن الحسن ، عن جدّه علي بن جعفر ، عن أخيه موسى بن جعفر (عليهما السلام) قال : سألته عن رجل استأجر بيتاً بعشرة دراهم ، فأتاه الخيّاط أو غير ذلك فقال : أعمل فيه والأجر بيني وبينك وما ربحت فلي ولك ، فربح أكثر من أجر البيت أيحلّ ذلك ؟ قال : نعم، لا بأس(4) .
هذه هي الروايات الواردة في الدار والبيت ، وقد ظهر لك اختلافها من حيث المفاد ; لأنّها بين ما ظاهره كون الفضل حراماً ، وبين ما ظاهره النهي عن المؤاجرة بالأكثر ، وبين ما يدلّ على أنّ المؤاجرة بالأكثر لا يصلح ، ومن الواضح اختلاف هذه التعابير ، فاللاّزم حينئذ الجمع بينها ، فإن قلنا باختلاف معنى الدار والبيت
- (1) الكافي : 5 / 272 ح4 ، وسائل الشيعة : 19 / 129 ، كتاب الإجارة ب22 ح3 .(2) الكافي : 5 / 273 ح8 ، وسائل الشيعة : 19 / 130 ، كتاب الإجارة ب22 ح4 .(3) التهذيب : 7 / 223 ح979 ، وسائل الشيعة : 19 / 129 ، كتاب الإجارة ب22 ح2 .(4) قرب الإسناد : 265 ح1054 ، مسائل عليّ بن جعفر: 125 ح 88 ، وسائل الشيعة : 19 / 131 ، كتاب الإجارة ب22 ح7 .