(الصفحة 359)
بسند ملحق بالصحيح عن الحلبي ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : لو أنّ رجلاً استأجر داراً بعشرة دراهم فسكن ثلثيها وآجر ثلثها بعشرة دراهم لم يكن به بأس ، ولا يؤاجرها بأكثر ممّا استأجرها به إلاّ أن يحدث فيها شيئاً(1) .
ومنها : رواية ابن ميمون المتقدّمة أيضاً الدالّة على أنّ فضل البيت حرام .
ومنها : ما رواه الكليني عن الحلبي ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الرجل يستأجر الدار ثمّ يؤاجرها بأكثر ممّا استأجرها به ، قال : لا يصلح ذلك إلاّ أن يحدث فيها شيئاً(2) .
ومنها : رواية إسحاق بن عمّار ، عن جعفر ، عن أبيه (عليهما السلام) ، أنّ أباه كان يقول : لا بأس أن يستأجر الرجل الدار أو الأرض أو السفينة ثمّ يؤاجرها بأكثر ممّا استأجرها به إذا أصلح فيها شيئاً(3) .
ومنها : ما رواه في قرب الإسناد عن عبد الله بن الحسن ، عن جدّه علي بن جعفر ، عن أخيه موسى بن جعفر (عليهما السلام) قال : سألته عن رجل استأجر بيتاً بعشرة دراهم ، فأتاه الخيّاط أو غير ذلك فقال : أعمل فيه والأجر بيني وبينك وما ربحت فلي ولك ، فربح أكثر من أجر البيت أيحلّ ذلك ؟ قال : نعم، لا بأس(4) .
هذه هي الروايات الواردة في الدار والبيت ، وقد ظهر لك اختلافها من حيث المفاد ; لأنّها بين ما ظاهره كون الفضل حراماً ، وبين ما ظاهره النهي عن المؤاجرة بالأكثر ، وبين ما يدلّ على أنّ المؤاجرة بالأكثر لا يصلح ، ومن الواضح اختلاف هذه التعابير ، فاللاّزم حينئذ الجمع بينها ، فإن قلنا باختلاف معنى الدار والبيت
- (1) الكافي : 5 / 272 ح4 ، وسائل الشيعة : 19 / 129 ، كتاب الإجارة ب22 ح3 .(2) الكافي : 5 / 273 ح8 ، وسائل الشيعة : 19 / 130 ، كتاب الإجارة ب22 ح4 .(3) التهذيب : 7 / 223 ح979 ، وسائل الشيعة : 19 / 129 ، كتاب الإجارة ب22 ح2 .(4) قرب الإسناد : 265 ح1054 ، مسائل عليّ بن جعفر: 125 ح 88 ، وسائل الشيعة : 19 / 131 ، كتاب الإجارة ب22 ح7 .
(الصفحة 360)
فاللاّزم ملاحظة دليل كلّ واحد منهما مستقلاًّ ، فنقول :
إنّ ما ورد من هذه الروايات في خصوص البيت ممّا يدلّ على أنّ فضله حرام لا يكون له معارض أصلاً ، غاية الأمر أنّه يقع الكلام في معنى حرمة الفضل وأنّ متعلّق الحرمة هل هو الفضل الذي تشتمل عليه المعاملة الثانية دون نفس المعاملة ، أو أنّ متعلّقها هي المعاملة المشتملة على الفضل ؟ ظاهر العبارة هو الأوّل، ولكن لا يبعد دعوى كون المتفاهم منها عند العرف ـ خصوصاً بقرينة المورد ونفي البأس عن إجارة الأرض بأكثر ممّا تقبلها به ـ هو الثاني ، وعليه فالظاهر أنّ المراد بالحرمة هي الحرمة التكليفية لا الوضعية ، وسيأتي البحث عن هذه الجهة في آخر المسألة إن شاء الله تعالى .
ولا يذهب عليك أنّه بناءً على اختلاف الدار والبيت ولحاظ دليل كلّ منهما مستقلاًّ يكون مقتضى إطلاق دليل حرمة فضل البيت عدم الفرق بين ما إذا أحدث فيه شيئاً ، وبين ما إذا لم يحدث لعدم ما يدلّ على الفرق في باب البيت ، وحينئذ يظهر الخلل فيما أوردنا على الوجه الأوّل من الوجوه الثلاثة المتقدّمة ، للجمع بين الروايات المختلفة الواردة في الأرض ; وذلك لابتناء الإيراد على ثبوت الفرق بين الصورتين في البيت والأجير والحانوت أيضاً ، مع أنّه لا دليل على ثبوته في هذه العناوين ، وقيام الدليل على الفرق في الدار لا ينافي عدم ثبوته فيها . فظهر من جميع ما ذكرنا أنّ ما ورد في البيت لا معارض له أصلاً .
وأمّا ما ورد في الدار فإحدى روايتي الحلبي المتقدّمتين تدلّ على النهي عن الإيجار بالأكثر مع عدم الإحداث ، والاُخرى على عدم صلاحيّته كذلك . ومن المعلوم أنّ قوله (عليه السلام) : «لا يصلح» لا ينافي مع النهي الظاهر في الحرمة ; لأنّ مقتضاه ثبوت المفسدة في ذلك ، من دون دلالة على أنّ المفسدة هل تبلغ حدّ الحرمة
(الصفحة 361)
أو لا تتجاوز عن حد الكراهة ؟ والنهي إنّما يبيّن حدّ تلك المفسدة وأنّها مفسدة ملزمة يجب الاجتناب عنها ، ومنه يظهر أنّ مفهوم رواية إسحاق بن عمّار الدالّة على نفي البأس إذا أصلح فيها شيئاً لا ينافي دليل الحرمة ; لأنّ ثبوت البأس ليس ظاهراً في الكراهة حتّى يكون مقتضياً لعدم الحرمة ، بل هو غير مقتض لشيء من الكراهة والحرمة ، ولا ينافي ثبوت واحد منهما . وبذلك يظهر أنّ مقتضى الجمع بين الروايات الواردة في الدار هو الحكم بالحرمة مع عدم الإحداث ، وبالجواز من دون كراهة معه .
ودعوى أنّه كيف يمكن الفتوى بالحرمة مستنداً إلى رواية واحدة مع بعدها عن الأذهان وكون غيرها مغروساً فيها ، وبعبارة اُخرى : كيف يمكن رفع اليد عن السيرة العقلائية بمجرّد رواية واحدة ، خصوصاً مع اشتمالها على النهي الذي يكون استعماله في الكراهة كثيراً جدّاً ، مدفوعة بعدم جواز رفع اليد عن الرواية التامّة من حيث السند والدلالة بمجرّد كون مفادها بعيداً عن أذهان العقلاء ، خصوصاً مع كون السؤال فيها وفي مثلها دليلاً على أنّ أذهان السائلين كانت غير بعيدة عن الحكم بالحرمة ، وبالجملة لا محيص بناءً على ما ذكرنا من الحكم بالحرمة . هذا كلّه بناءً على اختلاف الدار والبيت .
وأمّا بناءً على اتّحادهما وكونهما بمعنى المسكن كما يظهر من بعض كتب اللغة(1) ، ويستفاد من المحقّق في الشرائع(2) ، حيث أورد لفظ المسكن مع عدم وروده في شيء من الروايات ; نظراً إلى أنّه معنى الدار والبيت الواردين فيها ، فيصير الحكم
- (1) لسان العرب : 1 / 275 .(2) شرائع الإسلام : 2 / 181 .
(الصفحة 362)
بالحرمة أوضح . غاية الأمر أنّه لابدّ حينئذ من تقييد ما ورد في البيت ممّا يدلّ على أنّ فضله حرام ، الذي عرفت أنّ المتفاهم عند العرف منه كون المعاملة المشتملة على الفضل محرّمة بما إذا لم يحدث فيه شيئاً ، نظراً إلى نفي البأس في رواية إسحاق ، والاستثناء من قوله : «لا يصلح» ومن النهي في روايتي الحلبي .
ثمّ إنّه بناءً على الاتّحاد لا مجال إلاّ للحكم بالحرمة التكليفية . ودعوى احتمال ثبوت الحرمة الوضعية أيضاً لظهور رواية الدار فيها ، مدفوعة بوضوح عدم ثبوت الحرمتين في المقام كما في الربا ، كما أنّ دعوى احتمال ثبوت خصوص الحرمة الوضعية للرواية الواردة في الدار ، مدفوعة بأقوائية ظهور كلمة «الحرام» في الحرمة التكليفيّة من ظهور النهي في الإرشاد إلى الفساد كما لايخفى ، وأمّا بناءً على الاختلاف فيمكن أن يقال : بأنّ النهي الوارد في رواية الدار إرشاد إلى فساد المعاملة وعدم ترتّب الأثر عليها ، فيقع الاختلاف بين الدار والبيت من هذه الجهة أيضاً بمقتضى ظاهر دليلهما ، فتدبّر .
ثمّ إنّ الظاهر أنّ رواية قرب الإسناد المتقدّمة الواردة في البيت أجنبيّة عن المقام ; لعدم دلالتها على وقوع معاملة ثانوية بين مستأجر البيت والخيّاط أو غيره ، بل ظاهره تشريك الخيّاط مع نفسه في الإجارة الأوّلية . غاية الأمر حصول إضافة على أجر البيت الذي كان بينهما لأجل الربح ، وهذا غير ماهو المفروض في المقام .
نعم ، لو فرض كون المراد وقوع معاملة ثانويّة بينهما بنحو الإجارة لكانت الرواية مرتبطة بما نحن فيه ، وعليه فيحتمل أن يكون المراد من قوله : «وما ربحت فلي ولك» أن تكون الاُجرة التي بينهما مدفوعة من الربح الحاصل ، ويحتمل ـ كما هو ظاهر ـ أن يكون المراد منه البناء على تقسيط الربح ، مضافاً إلى البناء على كون
(الصفحة 363)
الأجر بينهما، ففي الحقيقة تكون الإجارة الثانية واقعة على طبق الإجارة الاُولى على فرض التقسيط . غاية الأمر أنّه اشترط فيها كون الربح الذي يحصل للخيّاط منقسماً بينهما ، فعلى الاحتمال الأوّل لا دلالة للرواية إلاّ على جواز كون اُجرة البعض زائدة على ما وقع بإزائه من الاُجرة في الإجارة الاُولى على فرض التقسيط ، ومقتضى إطلاقه عدم الفرق بين كون الزائد أكثر من أجر المجموع ، وبين كونه مساوياً أو أقلّ . ولا يخفى أنّه بناءً على هذا الاحتمال يقع الإشكال في صحّة الإجارة الثانية للجهالة التي تنشأ من الجهل بمقدار الربح حين الإجارة .
وعلى الاحتمال الثاني تدلّ الرواية على جواز كون اُجرة البعض بضميمة الاشتراط زائدة على اُجرة المجموع ، نظراً إلى قوله : «فربح أكثر من أجر البيت» ، وحينئذ لابدّ إمّا من الالتزام بكون الزيادة إذا حصلت من طريق الاشتراط فهي غير مضرّة ، فلا منافاة بين هذه الرواية وبين ما ورد من أنّ فضل البيت حرام ; لظهوره في الفضل مع قطع النظر عن الاشتراط ، وإمّا من الالتزام بكون ما يدلّ على أنّ فضل البيت حرام وارداً فيما إذا آجر البيت الذي استأجره بتمامه ، وأمّا هذه الرواية فموردها ما إذا آجر بعض البيت ، ولا منافاة بين كون الفضل في المجموع حراماً ، وبين عدم كونه في البعض كذلك وان كان زائداً على أجر المجموع . والظاهر أنّ شيئاً من الالتزامين ـ خصوصاً الثاني ـ ممّا لا يقبله الذوق السليم والطبع المستقيم ، والذي يسهل الخطب ما عرفت من كون الرواية أجنبيّة عن المقام .
وأمّا الحانوت: الذي عبّر عنه المحقّق في الشرائع بالخان(1) نظراً إلى أنّه بمعناه
- (1) شرائع الإسلام : 2 / 181 .