(الصفحة 369)
أحدهما : ما إذا أحدث شيئاً ، وقد وقع التصريح باستثنائه وبعدم البأس معه في النصوص الواردة في الدار والسفينة والرحى ، وأمّا الروايات الواردة في الأرض فقد عرفت أنّ جُلّها أجنبيّ عن المقام ، وبعض ماورد منها في باب الإجارة قد صرّح فيها بعدم البأس فيما إذا أصلح فيها شيئاً كما تقدّم ، فلم يبق إلاّ الروايات الواردة في البيت والحانوت ، وهذه الروايات الدالّة على حرمة فضل هذين العنوانين كالأجير خالية عن استثناء صورة الإحداث ، مع أنّ الظاهر من العبارات استثناء هذه الصورة في جميع العناوين .
وربما يقال في وجهه : تارةً بأنّ هذه الروايات وإن لم يقع فيها التعرّض للاستثناء ، إلاّ أنّه لا إطلاق لها حتّى يكون مقتضاها الحرمة مطلقاً ; لأنّها مسوقة لبيان جواز إجارة الأرض وأنّها ليست مماثلة لهذه العناوين في الحرمة ، فلا إطلاق لها بالنسبة إلى الحرمة وشمولها لصورة الإحداث .
واُخرى بأنّ هذه العناوين الثلاثة عبارة عن الأجير الذي لا موقع للاستثناء فيه، والبيت الذي هو متّحد مع الدار الذي نصّ على الاستثناء فيه في دليله ، والحانوت الذي لم يرد فيه نصّ ، والمظنون قويّاً كونه كرديفه : الدار في رفع الحرمة بإحداث الحدث .
وثالثة بأنّ مقتضى التعدّي عن العناوين المأخوذة في الروايات وإلغاء الخصوصية عنها إسراء حكم المستثنى أيضاً إلى جميع الموارد ، وإن أبيت عن ذلك فيمكن أن يقال بإلغاء الخصوصية من الاستثناء فيه ، والحكم بعدم اختصاصه بخصوص ما وقع فيه التصريح به ، بل يعم مثل البيت والحانوت أيضاً .
وأنت خبير بعدم تماميّة شيء من هذه الوجوه :
أمّا الوجه الأوّل : فلأن الظاهر من تلك الروايات إفادة كون الموضوع للحرمة
(الصفحة 370)
هو مجرّد الفضل في العناوين الثلاثة ، وليس الغرض مجرّد إفادة نفي المماثلة بين الأرض وبينها ، وإلاّ لكان اللاّزم الاقتصار على الحكم بنفي البأس في الأرض وأنّها ليست مثلها ، فيصير قوله (عليه السلام) : «إنّ فضل البيت حرام»(1) ، بعد ذلك بمنزلة التكرار الذي هو خلاف الظاهر ، فالظاهر كونه مسوقاً لبيان الحكم وأنّ تمام الموضوع هو مجرّد الفضل ، فلا مجال لإنكار الإطلاق .
وأمّا الوجه الثاني : فعدم كون الأجير موقعاً للاستثناء ممنوع ; لأنّه يمكن فيه أيضاً تصوّر الإحداث ، بأن يجهزه للعمل مثلاً زائداً على تجهيزاته ونحو ذلك ، والبيت لم يعلم اتّحاده مع الدار كما عرفت .
وأمّا الوجه الثالث : فدعوى إلغاء الخصوصية مطلقاً من المستثنى منه والمستثنى معاً قد عرفت أنّ دون إثباتها خرط القتاد ، ودعوى إلغاء الخصوصية من خصوص المستثنى وإن كان يمكن توجيهها ; بأنّ الظاهر أنّ استثناء صورة الإحداث إنّما هو للخروج بذلك عن الربا التي هي الحكمة في أصل الحكم ، إلاّ أنّ رفع اليد عن الإطلاقات بمجرّدهذه الدعوى مع عدم ثبوتها بالبيّنة أو البرهان في غاية الإشكال .
فظهر من جميع ما ذكرنا أنّه لا وجه للاستثناء في العناوين الثلاثة المحكومة بالحرمة لعدم الدليل عليه ، اللّهم إلاّ أن يقال : إنّ الموضوع للحرمة في هذه الروايات هو عنوان الفضل ، وتحقّق هذا العنوان في صورة الإحداث غير معلوم ، وهذا بخلاف سائر الروايات الدالّة على النهي عن الإيجار بأكثر ممّا استأجر العين به ، فإنّ عنوان الأكثرية متحقّق في كلتا الصورتين كما هو ظاهر ، وعليه فلا موقع في المقام للاستثناء ، بل يصير على تقديره كالاستثناء المنقطع .
(الصفحة 371)
ثمّ إنّه قد وقع في الروايتين المتقدّمتين الواردتين في الرحى استثناء صورة الغرامة أيضاً ، وليس له في كلام الأصحاب ذكر ، والظاهر أنّ المراد بها ما غرّمه بإزاء عمل في الرحى في مقابل الإحداث الظاهر في عمله فيه بنفسه ، فتدبّر .
ثمّ إنّ إحداث الحدث في العين المستأجرة هل يشمل مثل الكنس والتنظيف ونظائرهما أم لا ؟ وجهان ، والظاهر هو الوجه الثاني .
ثانيهما : ما إذا كانت الاُجرة مغايرة لجنس الاُجرة في الإجارة الاُولى ، وقد حكي عن الإيضاح أنّه قال : وقال الشيخان(1) والمرتضى(2) وسلاّر(3) والصدوق في المقنع(4) وأبو الصلاح وابن البراج في المهذّب(5) بالمنع مع اتّحاد الجنس(6) ، وهو أيضاً ظاهر المتأخّرين(7) بل صريحهم ، ولكن الروايات المتقدّمة ليس في شيء منها الإشعار بهذا الاستثناء ، وغاية ما قيل أو يمكن أن يقال في توجيهه : إنّ المتبادر من لفظ «الأكثر» لزوم التماثل واتّحاد الجنس ; لأنّه لا يقال في المختلفين : إنّ هذا أكثر من الآخر ، ولكنّه اُجيب عنه بالمنع طرداً وعكساً ; إذ يصحّ أن يقال : هذه الحنطة أكثر من هذا الزبيب مع اختلافهما ، ولا يصحّ أن يقال : هذا الحمار أكثر من هذا الحمار .
ويمكن التوجيه بوجه آخر يستفاد من كلام المحقّق الرشتي (قدس سره) ، حيث قال : إنّ الأكثرية من الاُمور الإضافية المبهمة المحتاجة إلى ذكر التميّز في الاستعمالات ، وإلاّ
- (1) النهاية : 439 ، المقنعة : 636 ، لكنّه قائل بالكراهة دون التحريم.(2) الانتصار : 475 .(3) المراسم : 198 ، لكنّه قال بالكراهة.(4) اُنظر المقنع : 391 ـ 392 .(5) المهذّب : 1 / 474 و 486.(6) إيضاح الفوائد : 2 / 250 .(7) كصاحب جامع المقاصد : 7 / 119 ، ومسالك الأفهام : 5 / 180 ، وجواهر الكلام : 27 / 222 .
(الصفحة 372)
كان مجملاً خارجاً عن حدّ الإفادة لا أن تكون حرمة الكثرة بقرينة المقام معلومة ، فيصحّ استعمالها بدون ذكر التميّز ، وحيث لم يذكر الراوي تميّزاً فلابدّ أن يُحمل كلامه على صورة تكون حرمة الكثرة فيها معلومة ، وليست إلاّ بعض أقسام متّحد الجنس(1) ، وحاصله الأخذ بالقدر المتيقّن بعد الإجمال وعدم وضوح المراد منها .
ولكنّه يرد عليه : أنّ الظاهر كون الأكثر في المعاملات ملحوظاً بالنظر إلى القيمة ، فتعمّ الروايات للاُجرتين المختلفتين إذا كانت الثانية أكثر من الاُولى من حيث الماليّة .
وربما يتوهّم في توجيه الاستثناء أنّ الوجه فيه صدق الربا في المتجانسين دون المختلفين .
ويرد عليه ـ مضافاً إلى أنّه لم يعلم كون المراد بالجنس في هذا المقام في كلام المشهور هو الجنس في باب الربا ، بحيث كانت الحنطة والشعير مثلاً من جنس واحد ، بل الظاهر أنّهما في هذا المقام متغايران ، وإلى أنّ الربا إنّما تجري في خصوص مثل المكيل والموزون ، وظاهرهم هنا المغايرة مطلقاً كما لا يخفى ـ : أنّ تحقّق الربا في المقام ولو على القول بصدقه على مطلق الزيادة ممنوع جدّاً بعد تعدّد المعاملة وعدم الارتباط بينهما ، فالإنصاف أنّه لا يمكن توجيه الاستثناء الواقع في كلام المشهور بوجه خال عن المناقشة .
والتحقيق أنّ المراد بالأكثرية في الروايات هو الأكثرية في المالية ; وهي غير منوطة بالتماثل ، لا فيما كانت الاُجرة متمحّضة في المالية كالنقود ، فإنّ اتّصاف عشرة دنانير بكونها أكثر من عشرة دراهم واضح ، ولا في غير هذه الصورة كغير
- (1) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي : 98 .
(الصفحة 373)
النقود ، فإنّ مقام الثمنية والاُجرة كما أفاده المحقّق الإصفهاني (قدس سره)(1) مقام النقدين في التمحّض في المالية ; لأنّه لم يلاحظ في مقام عوضية شيء إلاّ انحفاظ مالية المعوّض به ، والرغبات النوعية متوجّهة نحو المعوّض من حيث كونه حنطة أو شعيراً ، أو منفعة الدار الكذائية والعمل الكذائي . نعم ، لو كان الغرض في بعض الموارد متعلّقاً بالعوض بعنوانه لا من حيث المالية ـ كما في الأماكن التي تتعارف فيها المعاملة بين الأجناس بعضها ببعض ، لا بينها وبين النقود ـ لا يبعد أن يقال : بأنّ الأكثرية حينئذ تلاحظ في كلّ جنس بحسبه ، ففي الاُمور التي يلاحظ مقدارها تعتبر من حيث المقدار ، وفي المعدودات من حيث العدد وهكذا .
هذا ، ولكنّ الظاهر ندرة هذا الأمر ، والحكم في الروايات إنّما هو بلحاظ النوع الذي يكون العوض عندهم ملحوظاً من حيث المالية فقط ، فإذا زادت قيمة منّ من الحنطة الواقعة اُجرة في الإجارة الثانية على قيمة منّين منها الواقعة اُجرة في الإجارة الاُولى تصدق الأكثرية ، وإن كانت أقلّ من حيث المقدار . هذا كلّه فيما يتعلّق بكلمة «الأكثر» الواقعة في كثير من الروايات .
وأمّا كلمة «الفضل» الواقعة في روايات الأجير والبيت والحانوت فالظاهر أنّ المراد بها هو الفضل في المالية أيضاً ، وأمّا ما أفاده المحقّق الإصفهاني(2) تبعاً للمحقّق الرشتي(3) من الفرق بين عنوان الأكثرية وبين عنوان الفضل ، وأنّه يمكن استفادة لزوم التماثل من الأوّل دون الثاني ففيه : أنّه لم يعلم وجه للفرق بينهما من هذه الجهة أصلاً ; لأنّه كما تكون الأكثرية من الاُمور الإضافية المبهمة المحتاجة إلى التميّز ،
- (1) بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 64 .(2) بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 64 ـ 65 .(3) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي : 98 .