(الصفحة 388)
في الحمل أنّ ظهور المطلق حيث كان مستفاداً من فعل المتكلّم العالم المختار الحكيم ، نظراً إلى أنّه إذا كان في مقام البيان ولم يأت بما هو الزائد على المطلق مع كونه مختاراً في ذلك ، لكان هذا دليلاً على عدم مدخلية شيء آخر في موضوع حكمه ، وإلاّ كان عليه أن يأتي به ، وأمّا ظهور دليل القيد في المدخلية فهو ظهور لفظي مستفاد من مثل أخذ القيد في موضوع الحكم ، وهذا الظهور عند العقلاء مقدّم على ظهور المطلق ، لكن هذا فيما لو لم يكن المطلق مسوقاً لإفادة نفي ذلك القيد ـ بأن كان إجمال الحكم معلوماً مع قطع النظر عنه ـ وسيق الإطلاق لإفادة عدم دخالة القيد الذي تحتمل دخالته كما في المقام ، فإنّ ذكر الكليّة في الذيل مع الحكم بنفي البأس قبلها بالنسبة إلى مورد السؤال إنّما هو لإفادة عدم دخالة قيد العمل المأخوذ في السؤال ، وأنّ الحكم مطلق وإلاّ يلزم التكرار مع إيهام الخلاف من جهة عدم التعرّض لبعض خصوصيّات مورد السؤال ، كما لا يخفى .
ومعه كيف يمكن رفع اليد عن هذا الإطلاق بالحمل على المقيّد ، بل لابدّ من إبقائه على حاله وجعله قرينة على أنّ المراد بالنهي الوارد في الروايات المتقدّمة ليس هو الحرمة بل الكراهة ; لأنّ ظهور النهي في الحرمة معلّق على عدم الحجّة على خلافها ، ومثل هذا الإطلاق الآبي عن التقييد من أقوى الحجج على خلافها ، ويؤيّد ذلك التعبير بقوله (عليه السلام) : «لا يصلح» في رواية عليّ الصائغ بناءً على عدم ظهوره في شيء من الكراهة والحرمة بخصوصهما ، ومفهوم قوله (عليه السلام) : «لابأس» في رواية أبي محمّد الخيّاط ، عن مُجَمِّع المتقدّمة ، ورواية محمّد بن مسلم الأخيرة ، حيث إنّه لا ظهور فيها أيضاً في الحرمة .
وقد ظهر من جميع ما ذكرنا أنّه مع قطع النظر عن رواية الحكم لكان مفاد الروايات ومقتضى الجمع بينها هي الحرمة ، وأمّا مع ملاحظتها فلا محيص من
(الصفحة 389)
الحمل على الكراهة ، ولعلّ ما ذكرنا هو الوجه في تفكيك الشيخ الأعظم الأنصاري (قدس سره) ـ على ما حكاه تلميذه المحقّق الرشتي (قدس سره)(1) ـ بين المقام وبين الدار والحانوت ، حيث اختار هناك الحرمة وهنا الكراهة ، وليس الوجه فيه هو دعوى ظهور نفي الصلاحية في الكراهة ، وخبر الحلّي والعلاّمة المتقدّم(2) حتّى يرد عليه اعتراض التلميذ بأنّ التفكيك مع بُعده في نفسه يكون فاسد المستند ، فتدبّر .
ثمّ إنّ الروايات الواردة في الأجير بالنسبة إلى المقام الأوّل الدالّة على حرمة فضله خالية عن استثناء صورة الإحداث رأساً كما عرفت ، وأمّا النصوص الواردة في الأجير بالنسبة إلى المقام الثاني فهي مشتملة على استثناء صورة العمل ، فترتفع الحرمة أو الكراهة بالعمل ، وهل يكتفى في تحقّق العمل في الثوب الذي تسلّمه للخياطة بمثل اشتراء الخيط والإبرة كما اختاره صاحب العروة(3) أم لا ؟ الظاهر هو الوجه الثاني ; لأنّ ما يدلّ على أنّ اشتراء الخيوط عمل قد ضمّ إليه القطع والفصل ، ومن الواضح أنّ العمدة في تحقّق العمل هو القطع لا اشتراء الخيوط ، فهو بمجرّده لا دليل على الاكتفاء به . نعم ، قد صرّح في رواية عليّ الصائغ بأنّ إذابة الذهب والفضّة عمل .
وأمّا اختلاف جنس الاُجرة ، فقال صاحب الجواهر (قدس سره) : إنّه لم يذكر أحد هنا ـ أي الأجير بالمعنى الثاني ـ الجواز باختلاف الجنس . نعم ، عن التذكرة(4) أنّه حكى
- (1) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي : 327 .(2) في ص384.(3) العروة الوثقى : 5 / 79 مسألة 2 .(4) تذكرة الفقهاء : 2 / 291 .
(الصفحة 390)
عن الشيخ (قدس سره) عدم الجواز مع اتّحاد الجنس إلاّ أن يعمل فيه شيئاً ، ولم نتحققه(1) .
أقول : الوجه في عدم ذكر الجواز مع الاختلاف هنا أنّ الروايات الواردة في هذه المسألة الدالّة على النهي تحريماً أو تنزيهاً يكون موضوعها عنوان الربح ، ومن المعلوم أنّ تحقّقه لا يتوقّف على اتّحاد الجنس كما في أرباح التجارات المتعلّقة للخمس . نعم ، في إحدى روايتي محمّد بن مسلم المتقدمتين وقع عنوان الاستفضال مورداً للسؤال ، وعليه فيمكن أن يتوهّم أنّ الجواب بنفي البأس بضميمة قوله (عليه السلام) : «قد عمل فيه» ما يدلّ بمفهومه على أنّ البأس الثابت مع عدم العمل مورده الاستفضال الظاهر في اتّحاد الجنس ، لعدم الفرق بينه وبين عنوان الأكثرية كما عرفت ، ولعلّ هذا هو الوجه فيما حكي عن الشيخ (قدس سره) ، ولكن تجاوز هذا عن حدّ التوهّم ممنوع .
ثمّ إنّ المنساق من النصوص والفتاوى الواردة في الأجير بالمعنى الثاني أنّ محلّ البحث هو العمل في العين ، كخياطة الثوب وصياغة الخاتم ونحوهما ، أمّا لو تقبّل العمل الصرف غير المتعلّق بالعين كالصوم والصلاة بناءً على صحّة الاستئجار لمثلهما ، فهل يجري فيه ذلك الحكم تحريماً أو تنزيهاً ، أو يكون حكمه على وفق القاعدة المقتضية للجواز كما عرفت في صدر المسألة السابقة؟ وجهان ، قال في الجواهر بعد اختيار الوجه الثاني : اللّهم إلاّ أن يقال : إنّ ذكر بعض لوازم العمل في العين لا يقتضي تقييد ذلك به ، وحينئذ يعتبر في جواز تقبيله بالأقلّ عمل شيء منه(2) .
- (1) جواهر الكلام : 27 / 319 .(2) جواهر الكلام : 27 / 319 .
(الصفحة 391)
أقول : إن كان المراد أنّ ذكر بعض تلك اللوازم لا يقتضي تقييد ما ورد مطلقاً ففيه : أنّه ليس في روايات المسألة ما يدلّ بإطلاقه على ذلك كما يظهر بملاحظتها ، وإن كان المراد أنّه لا يرى العرف للمورد خصوصية ففيه : منع ذلك في مثل المقام من الأحكام التعبّدية المخالفة للقاعدة ، فالأقوى هو الوجه الثاني ، وإن استشكل فيه صاحب العروة(1) أيضاً .
ثمّ إنّ التقبيل في العمل في العين وإن كان حكمه ما ذكرنا ، إلاّ أنّ جواز تسليم العين إلى الأجير الثاني وكذا العين المستأجرة في المسألة السابقة محلّ إشكال ، وإن كان يمكن أن يقال : بأنّ عدم اشتراط المباشرة ولا ثبوت انصراف بالإضافة إليها مرجعه إلى جواز التسليم لثبوت الإذن في ضمن الإجارة الاُولى ، كما لا يخفى .
***
[قال المؤلّف دام ظلّه في كتاب الإجارة الثاني]:
وقد جرت عادتهم هنا على التعرّض لحال إجارة المستأجر العين المستأجرة من مستأجر آخر مؤجراً كان أو غيره ، ونحن أيضاً نتعرّض لها ونقول : في هذه المسألة جهات من الكلام :
الجهة الاُولى : في أنّه هل يجوز للمستأجر أن يؤجر العين من المؤجر أو غيره أو لا يجوز ؟ وقد نفى الخلاف في الجواز صاحب الجواهر ، بل قال : إنّ الإجماع بقسميه عليه(2) ، ونفى الإشكال في الجواز المحقّق الإصفهاني (رحمه الله)(3) ، واُضيف في الجواهر إلى هذا عموم الوفاء
- (1) العروة الوثقى : 5 / 80 مسألة 2 .(2) جواهر الكلام : 27 / 257 .(3) بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 108 .
(الصفحة 392)
بالعقود ، وعمومات الإجارة ، وقاعدة التسلّط ، والنصوص المستفيضة بل المتواترة الواردة في الأرض والدابّة والسفينة وغيرها ، الدالّة على عدم جواز إجارتها بأكثر ممّا استأجرها به .
أقول : أمّا عموم الوفاء بالعقود فالتمسّك به مبنيّ على كون مفاده صحّة كلّ عقد أو مع اللزوم أيضاً ، وأمّا لو كان مفاده اللزوم فيما ثبتت صحّته من دليل آخر فلا مجال للتمسّك به في مثل المقام ، وأمّا عمومات الإجارة فلم نقف على عموم واحد في باب الإجارة فضلاً عن العمومات ، وأمّا قاعدة التسلّط فالظاهر أنّه ليس مفادها بيان ثبوت التسلّط للناس في أموالهم بالنسبة إلى جميع التصرّفات ، حتّى يصحّ التمسّك بها في الموارد المشكوكة كالمقام ونظائره ; لأنّ اللاّزم على هذا أن تكون أدلّة التصرّفات الممنوعة شرعاً مخصّصة لدليل القاعدة كما لا يخفى ، بل الظاهر أنّ مفادها مجرّد عدم جواز مزاحمة الغير مع المالك ، مضافاً إلى أنّ اعتبار دليلها غير معلوم .
وأمّا النصوص ، فاستفادة صحّة الإجارة الثانية منها بنحو المفروغيّة ممّا لا ينبغي الارتياب فيها ، إلاّ أنّ غاية مفادها الصحّة بنحو الإجمال ، فلو احتمل مدخليّة شيء في الصحّة كإذن المالك مثلاً لا مجال لنفي احتمال دخالته بهذه النصوص ، كما هو غير خفيّ ، وحينئذ فاللاّزم الرجوع إلى أصالة الفساد مع عدم وجود ذلك الشيء ، إلاّ أن يتمسّك لنفي اعتباره بأدلّة البراءة كما ذكرناه سابقاً ; نظراً إلى تقدّمها على الاستصحاب هنا ، لجريانها في الشكّ السببي ، وكون الشكّ الذي هو مجرى الاستصحاب مسبّبيّاً.