(الصفحة 423)
ظاهر الأصحاب عدم لزوم المباشرة في هذا النحو من الإجارة إلاّ مع التصريح بها من طريق الاشتراط ونحوه .
قلت : كما أنّه يمكن أن تكون العين المستأجرة في إجارة الأعيان أمراً كليّاً موصوفاً بأوصاف مقصودة ، كالدار الكذائية كذلك يمكن أن تكون النفس المأخوذة هنا عيناً ملحوظة بعنوان أعم من كون الفعل صادراً عنها ، ومن كونها السبب في صدوره من الغير .
وبعبارة اُخرى : كانت النفس ملحوظة باعتبار كونها العلّة في تحقّق الفعل في الخارج أعمّ من أن يكون قائماً به بالقيام الصدوري أو بالغير ، اللّهم إلاّ أن يقال : إنّ لحاظها كذلك وإن كان ممّا لا ينبغي الارتياب فيه إلاّ أنّه خلاف ظاهر قوله : «آجرتك نفسي» مع أنّ ظاهر الأصحاب أنّ لزوم المباشرة يفتقر إلى مؤنة زائدة ، فتدبّر جيّداً .
ومنها : انّه لا إشكال في أنّه كما أنّ العبد يكون مملوكاً بالذات كذلك منافعه مملوكة لمالكه بالتبع ، وباعتبار ملكيّتها يصحّ للمالك إجارته من الغير بجميع المنافع أو ببعضها ، وأمّا الحرّ الذي هو العمدة في محلّ الكلام في المقام ، فحيث لا يكون بعينه مملوك كذلك لا تكون منافعها مملوكة ولو بالتبع ، ولأجل ذلك ربما يقع الإشكال في إجارة الحرّ نفسه ; من جهة عدم اتّصافه بكونه مالكاً لمنافعه ، فكيف يملّكها الغير بالإجارة .
وقد وقع دفع هذه الشبهة في كلام المحقّق الإصفهاني (قدس سره) المتقدّم(1) في اعتبار مملوكية المنفعة ، وملخّصه : إنّ معنى كون الإجارة معاوضة ليس لزوم قيام كلّ من
(الصفحة 424)
العوضين مقام الآخر فيما له من إضافة الملكيّة حتّى يلزم كون كلّ منهما مملوكاً قبلاً ، بل معناها صيرورة كلّ من العوضين ملكاً للآخر بإزاء صيرورته ملكاً له ، وعليه فالحرّ لمكان سلطنته على نفسه له أن يتعهّد بعمل في ذمّته ويملّكه الغير ، وإن كان غير مملوك له قبل التعهّد(1) ، وقد عرفت سابقاً(2) عدم اعتبار الملكيّة في المنفعة ، بل اللاّزم هو أن تكون مرتبطة بالمؤجر بحيث تكون خارجة عن حدّ التساوي وعدم وجود المرجّح ، كما في المباحات الأصلية التي ليس لها ارتباط بالمؤجر أصلاً .
ومنها : أنّه ذكر المحقّق الإصفهاني (قدس سره) في هذا المقام مقدّمة وصفها بأنّها مهمّة ، ولا بأس بإيرادها على نحو التلخيص ، وهي : إنّ المنفعة على ما تقدّم هي حيثيّة العين وشأنها القائمة بها بالقوّة ، ونحو وجودها وجود المقبول بوجود القابل ، وحيث إنّها بالقوّة ولها قبول تعيّنات كثيرة ، فهي لا متعيّنة في نفسها ، فملك جميع تلك الموجودات بالقوّة وإن لم يكن له مانع ، لما مرّ من أنّ التماثل والتضادّ من عوارض الوجودات الخارجيّة ، إلاّ أنّ تعلّق الملك باللامتعيّن لا لمحذور التماثل والتضادّ بل لخروج تلك التعيّنات عن حدود الموجودات بالقوّة .
نعم ، في كلّ منفعة جهة وحدة لوحدة القوّة مع قبولها للتعدّد ، إلاّ أنّ مجموعها لايندرج تحت قوّة اُخرى بحيث تكون قوّة القوى ، فلابدّ في فرض ملك جميع المنافع عند من يرى التضادّ فيها من فرض جامع انتزاعي من تلك الموجودات بوجود القوى ، ويكفي في خارجيّته خارجية مناشئ انتزاعه .
وأمّا نحن ففي سعة من ذلك ، لعدم التماثل والتضادّ عندنا كما عرفت ، هذا على ما
- (1) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 106 ـ 107.(2) في ص60 ـ 63.
(الصفحة 425)
نراه في حقيقة المنافع ، وأمّا عند من يرى المنافع عبارة عن الخياطة الفعلية التي تكون قبل وجودها معدومة ، ولذا قيل بعدم قبولها للملكية ، فلابدّ من أن تجعل المنافع مقدرة الوجود عرفاً ، وأنّها المملوكة ، وحيث يرون التضادّ بين تلك الأفراد فلذا يقولون بأنّ المملوك هو القدر المشترك بينها ، وحينئذ نقول : إنّ الكلّي بما هو حيث إنّه غير قابل للملك إلاّ باعتباره في الذمة أو بملاحظته في الخارج فلابدّ من فرض وجود ذلك القدر المشترك في الخارج ، ومن البيّن أنّ الكلّي لا يكون خارجياً إلاّ بخارجية فرده ، وإذا تكثّرت الأفراد تكثّرت وجودات الكلّي ، وكما أنّ الأفراد متضادّة غير قابلة للملك ، فكذا الوجودات من الكلّي المتّحد مع فرده ، ولا يعقل ملكيّة أحد وجوداته بنحو الترديد ; لأنّ المردّد لا ثبوت له ، ولا بنحو التعيين فإنّه خلف في المقام ، فلا محيص عن فرض الكلّي في المعيّن ، إذ كما يتصوّر هذا المعنى في الأفرادالمحقّقة الوجود، كالصاع المضاف إلى مجموع الصيعان، كذلك يتصوّر بالإضافة إلى الأفراد المقدّرة الوجود ، فيكون قابلاً للانطباق على كلّ واحد منها ، وسيتّضح الفرق بين مسلكنا وهذا المسلك بعد إرجاعه إلى الكلّي في المعيّن تصحيحاً له(1) .
أقول : إنّ المنافع التي لا يكاد يمكن اجتماعها في الخارج لثبوت التعاند والتنافي بينها ، تارةً يشكل في اتّصافها بالمملوكية لنفس المالك ، واُخرى في إمكان تمليكها من الغير بسبب الإجارة ونحوها ، وإن كان أصل الملكيّة محفوظاً للمالك .
أمّا الأوّل : فتقريب الشبهة أنّ اعتبار الملكيّة عند العقلاء إنّما هو بلحاظ الآثار المترتّبة عليها ، إذ بدون ترتّب تلك الآثار يصير الاعتبار لغواً عندهم ، وفي المنافع المتنافرة غير المتعانقة في الوجود ، حيث لا يمكن للمالك الانتفاع بها واستيفاؤها
- (1) بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 129 ـ 130 .
(الصفحة 426)
لفرض التعاند ، فلا يعقل اتّصاف كلّ واحدة منها بالملكيّة ، ويصير اعتبارها بالإضافة إليها لغواً ، لا يترتّب عليه أثر .
والجواب : إنّه يكفي في ترتّب الأثر المصحّح لاعتبار الملكيّة عند العقلاء إمكان الاستيفاء والسلطنة على الانتفاع بكلّ واحدة منها ، ومجرّد عدم إمكان الاجتماع في الخارج لا يوجب الخلوّ عن الأثر ، فإنّ استحالة الاجتماع لا أثر لها إلاّ في قطع يد المالك عن الانتفاع في تلك الحالة فقط ، وهذا لايكون دخيلاً في اعتبار الملكيّة ، بل المصحّح له مجرّد إمكان الاستيفاء والانتفاع ولو مشروطاً بحال الانفراد وعدم ثبوت المعاند .
وأمّا الثاني : فتقريبه على ما حكي عن سيّدنا العلاّمة الاُستاذ (قدس سره) في مسألة إجارة العين بجميع منافعها، أنّ المؤجر لا يكون قادراً على التسليم لفرض عدم إمكان الاجتماع ، وإن كان هذا الفرض لا يقدح في اعتبار أصل الملكيّة ; لأنّه لا يعتبر فيها القدرة والسلطنة ، ألا ترى أنّ وقوع المال في البحر وخروجه عن حيطة سلطنة المالك لا يوجب خروجه عن الاتّصاف بالملكية ، إلاّ أنّه يقدح في التمليك من الغير لاعتبار القدرة على التسليم فيه ، والمفروض في المقام عدمها لعدم قابليّة المحلّ .
واُورد على هذا التقريب بأنّ التسليم الذي تكون القدرة عليه شرطاً في التمليك هو تسليم العين التي تعلّق بها الإجارة لغرض المنافع ، وهو مقدور عليه في المقام ; لأنّ منشأ تخيّل سلب القدرة عدم إمكان اجتماع المنافع في الوجود ، وهذا لا ارتباط له بتسليم العين المستأجرة، الذي تكون القدرة عليه شرطاً في صحّة الإجارة ، وعليه فما هو الشرط يكون مقدوراً عليه ، وماهو خارج عن القدرة ليس بشرط .
أقول : هذا الإيراد بالنسبة إلى ما هو المفروض في كلام سيّدنا الاستاذ (قدس سره)من
(الصفحة 427)
إجارة العين بجميع المنافع متوجّه ; لأنّ التسليم المعتبر هناك هو تسليم العين ، وأمّا في المقام وهي الإجارة على الأعمال فربما يشكل توجّهه ; لأنّ التسليم فيها هو تسليم العمل لاتسليم الأجير نفسه وإن لم يعمل ، ولذا ذكرنا سابقاً(1) أنّ استحقاق الاُجرة في الإجارة على الأعمال يتوقّف على الفراغ عن العمل ، وحينئذ فلابدّ من أن يقال في مقام دفع الشبهة : بأنّه لايعتبر في صحّة التمليك من الغير أزيد ممّا يعتبر في أصل الملكيّة ، فكما أنّ مجرّد إمكان الانتفاع يكفي في اعتبار الملكيّة وتصحيحها ، كذلك يكفي في صحّة التمليك والنقل إلى الغير ، لعدم الدليل على اعتبار أزيد منه .
وقد ظهر من الاُمور التي قدّمناها أنّ الشبهة في أصل الإجارة على الأعمال مطلقاً ، وكذا في خصوص إجارة الحرّ نفسه ، وكذا في تمليك المنافع غير القابلة للاجتماع كلّها ، مندفعة لامجال لشيء منها .
إذا عرفت ذلك يقع الكلام في الأجير الخاصّ الذي ربما يعبّر عنه بالمنفرد أو بالمقيّد ، وفي مقابله العامّ ، أو المشترك ، أو المطلق . وقد عرّف في كلامهم بأنّه الذي يستأجر مدّة معيّنة . نعم ، حكي عن التذكرة(2) وجامع المقاصد(3) زيادة : ليعمل بنفسه ، ولكن ذكر في المفتاح أنّه لابدّ من إرادة ذلك في عبارة الجميع لما ستعرف ، على أنّه يعلم من قولهم في المشترك هو الذي يستأجر لعمل مجرّد عن المباشرة(4) .
وكيف كان ، فالظاهر بملاحظة ما ذكروه في تعريف الأجير المشترك ، وبملاحظة ما رتّبوه على الأجير الخاصّ من الأحكام التي من جملتها عدم جواز العمل لغير
- (1) في ص256 ـ 257.(2) تذكرة الفقهاء : 2 / 301 .(3) جامع المقاصد : 7 / 157 .(4) مفتاح الكرامة : 7 / 172 .