(الصفحة 446)
الأوّل ودلالته على الانفساخ هنا على الاُمور الثلاثة التي عرفت المناقشة في بعضها ، بل في جميعها ، وابتناء شمول الثاني على صدق الإتلاف بالنسبة إلى المنافع الفائتة وهو غير معلومـ : أنّه على تقدير الشمول لا وجه لتوهّم المنافاة بينهما ; لأنّ موضوع قاعدة الإتلاف هو الإتلاف المتعلّق بمال الغير ، وتحقّق هذا الموضوع فرع عدم جريان دليل التلف ، إذ مع جريانه ينفسخ العقد ، وليس المال حينئذ مالاً للغير ، فجريان قاعدة الإتلاف موقوف على عدم جريان قاعدة التلف ، وجريانها لا يتوقّف على شيء ; لأنّ موضوعها تلف المبيع ، فهي لا مانع من جريانها ، ومعه لا مجال لقاعدة الإتلاف لعدم انحفاظ موضوعها .
اللّهم إلاّ أن يقال : إنّ جريان قاعدة التلف أيضاً فرع اتّصاف المال بعنوان المبيعية الذي هو ملازم لكون المال متعلّقاً بالغير ، وعليه فكلا الدليلين واردان في موضوع مال الغير .
ولكن يدفع ذلك أنّ فرض دلالة قاعدة التلف على الانفساخ ينافي مع كون موضوعها هو تلف المال المتصف بعنوان المبيعية حين التلف ; لعدم اجتماع هذا الاتّصاف المأخوذ في الموضوع مع الانفساخ الذي هو الحكم . نعم ، لا ضير فيه بناء على كون مفاد قاعدة التلف هو الضمان بالمثل أو القيمة ، كما حكي عن المسالك(1) ، وعلى هذا التقدير أيضاً لا منافاة بين القاعدتين ، لدلالة كلّ منهما على الضمان بالبدل الواقعي في مورد مال الغير ، فافهم واغتنم .
وأمّا الوجه على التقدير الثاني ; وهو التخيير بين إعمال سبب رجوع المسمّى وإعمال سبب ضمان البدل الواقعي ، فهو ما حكاه المحقّق الإصفهاني (قدس سره) عن الشيخ
- (1) مسالك الأفهام : 3 / 216 ، والحاكي هو الشيخ الأنصاري (قدس سره) في كتاب المكاسب : 6 / 271 .
(الصفحة 447)
الأعظم الأنصاري (قدس سره)(1) من أنّ تعذّر التسليم يوجب الخيار ، فإذا فسخ العقد رجع إليه المسمّى ، وإلاّ كان الإتلاف وارداً على ماله ، فله تضمين المتلف بالبدل .
ولكنّه أورد عليه بأنّ التعذّر الموجب للخيار ما لا يكون ملحقاً بالتلف من حيث امتناعه عادةً ، وإلاّ فهو موجب للانفساخ دون الخيار ، ولأجل ذلك اختار كون الحكم في المقام هو تعيّن الرجوع باُجرة المثل ، لقاعدة الإتلاف وعدم كون هذا التعذّر موجباً للخيار لما ذكر ، ولا للانفساخ لاختصاص دليله بالتلف وعدم شموله للإتلاف (2).
أقول : أمّا جريان قاعدة الإتلاف في مثل المقام فقد عرفت النظر فيه ، وأمّا المناقشة في أصل ثبوت الخيار بين الفسخ والإمضاء مجّاناً فلا وجه لها ، لعدم توقّف ثبوته على صدق تعذّر التسليم هنا حتّى يناقش فيه بما ذكر ، وذلك لأنّ الغرض إثبات أصل الخيار لا الخيار الناشئ عن تعذّر التسليم ، وقد قرّر في محلّه عدم انحصار الخيار بالعناوين المذكورة له في كتاب البيع ، لعدم دليل على الانحصار .
وحينئذ فنقول : إنّ الوجه في ثبوت الخيار هو التخلّف عمّا وقع العقد عليه ، فإنّه موجب للخيار عند العقلاء ، ويستفاد ثبوته عند الشارع من الموارد التي ثبت الخيار فيها عنده ، فإنّه إذا كان تخلّف الشرط موجباً للخيار فكيف لا يكون التخلّف عن أصل ما وقع العقد عليه موجباً له ، وكذلك إذا كان الغبن موجباً للخيار بحيث لايكاد يسقطه جبران الضرر من قِبَل الغابن ، فكيف لا يكون التخلّف في المقام موجباً له ، وهكذا سائر الموارد ، فإنّه يستفاد من التأمّل في مثل هذه الموارد ثبوت الخيار في المقام ، وإن لم يكن الرجوع إلى اُجرة المثل موجباً لتضرّره ولا كان
- (1) راجع كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري : 6 / 276 .(2) بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 138 .
(الصفحة 448)
معسوراً ، والعمدة حكم العقلاء بالثبوت وعدم دليل على الانحصار بالعناوين المعروفة ، وممّا ذكرنا يظهر النظر فيما أفاده سيّدنا العلاّمة الاُستاذ (قدس سره) في حاشية العروة; من أنّ أخذ العوض نحو استيفاء لمنفعة الأجير ، فمع تمكّن المستأجر منه بلا عسر ولا ضرر لايبعد عدم جواز الفسخ(1) .
وقد ظهر من جميع ما ذكرنا أنّ الأقوى في المقام هو التخيير بين الفسخ والرجوع بالمسمّى والإمضاء مجاناً . نعم ، لو لم يناقش في جريان قاعدة الإتلاف إمّا بنفسها أو بتنقيح المناط كما لا يبعد الثاني ، لكان الطرف الآخر للتخيير هو الرجوع إلى أُجرة المثل لا نفس الرجوع ، بل الإمضاء الذي حكمه جواز الرجوع كما هو غير خفي .
ثمّ إنّه لا فرق في الحكم الذي ذكرنا في هذه الصورة بين ما إذا لم يسلّم الأجير نفسه حتّى يعمل ، وبين ما إذا سلّم ولم يعمل ، وإن كان يمكن الفرق بينهما بناءً على القول بالانفساخ ، وبتحقّق القبض بمجرّد التسليم وإن لم يأخذ في العمل بعد ، ومنه يظهر الخلل فيما تقدّم(2) نقله عن المفتاح من التفصيل بين الصورتين في الخيار ، فإنّ المناسب هو التفصيل بينهما في الانفساخ ; لأنّه يدور مدار القبض لا في الخيار، إلاّ أن يكون المراد هو خيار تعذّر التسليم كما هو الظاهر ، كما أنّه يمكن الفرق بينهما من جهة إمكان دعوى صدق الغرور فيما إذا سلّم نفسه ولم يعمل ، وكان المستأجر معتقداً بأنّه يعمل نظراً إلى تسليمه نفسه ، ثمّ انكشف الخلاف بعد المدّة دون غيره ، ولكن لافرق من حيث الحكم الذي ذكرنا بين الصورتين أصلاً .
كما أنّه لا فرق بين ما إذا أعلم قبل دخول مدّة الإجارة بأنّه لا يعمل فيها ، وبين ما إذا لم يُعلِم بذلك ، فإنّ الملاك في ثبوت الخيار للمستأجر ليس جهله بوفاء
- (1) العروة الوثقى : 5 / 84 ، التعليقة 2 .(2) في ص441.
(الصفحة 449)
الأجير بمقتضى عقد الإجارة حتّى لا يبقى له موقع مع الإعلام ، بل الملاك هو تخلّف الأجير وعدم وفائه ، وهذا لافرق فيه بين صورة الإعلام وعدمه . نعم ، يقع الكلام في خصوص صورة الإعلام في أنّه هل يجوز للمستأجر الفسخ وإن لم تدخل مدّة الإجارة ، أو أنّه لا يجوز له ذلك إلاّ بعد دخولها وعدم شروعه في العمل ؟ نظراً إلى أنّ ملاك الخيار هو التخلّف ، وهو يتوقّف على دخول المدّة وعدم العمل ، ومجرّد الإعلام لا يكفي في ذلك ، فإنّه يمكن أن يحصل له البداء ، بل الظاهر عدم الكفاية ولو مع العلم بعدم حصول البداء له وبقاء عزمه على التخلّف ، فإنّ الموجب لثبوت الخيار نفس التخلّف الخارجي لا العلم بتحقّقه في ظرفه ، كما هو ظاهر .
ثمّ إنّه لو لم يفسخ المستأجر في هذه الصورة لكان مقتضى حكمهم بأنّ الاُجرة تملك بنفس العقد أنّ الأجير مالك للاُجرة المسمّـاة ملكاً مستقرّاً غير متوقّف على شيء . غاية الأمر أنّه لا يستحقّ المطالبة ; لأنّه يتفرّع على الأخذ في العمل ، بل على الفراغ منه كما مرّ الكلام فيه مفصّلاً(1) ، وحينئذ يقع الإشكال هنا في أنّه مع مضيّ المدّة المعتبرة في الإجارة وخلوّها عن العمل لا يتحقّق هنا شيء أصلاً حتّى يستحقّ بسببه للمطالبة ; لأنّ العمل في خارج المدّة غير المستأجر عليه ، والمدّة المنقضية لا يمكن عودها ثانياً فبم يحصل له الاستحقاق ، وعليه فاعتبار ملكيّته للاُجرة مع عدم استحقاق المطالبة لها بوجه يصير كأنّه من اللغو ، مع وضوح كون حكمهم بأنّ الاُجرة تملك بنفس العقد عاماً شاملاً لأقسام الإجارة وأنواع الأجير فراجع ، هذا كلّه فيما لو لم يعمل في المدّة أصلاً .
وأمّا لو عمل للمستأجر بعض المدّة وترك العمل في البعض الآخر رأساً ; كما لو عمل له نصف النهار وترك النصف الآخر ، فتارةً يكون البعض الذي عمل فيه أوّل
(الصفحة 450)
المدّة ، واُخرى وسطها وثالثة آخرها ، وعلى التقادير تارةً يعلم بذلك المستأجر واُخرى لا يعلم به ، فهذه هي الصور المتصوّرة وإن لم يكن بين كثير منها الاختلاف في الحكم كما سيظهر .
فإن عمل له في البعض الأوّل كما في المثال على تقدير كون النصف هو الأوّل ، فتارةً يقع الكلام في الاحتمالات المتصوّرة بالنسبة إلى الأجير من حيث حكمه ، واُخرى في الاحتمالات الجارية بالإضافة إلى المستأجر كذلك ، وثالثة فيما يجري في العقد .
أمّا الأوّل : فيحتمل فيه أن لا يستحقّ شيئاً نظراً إلى أنّه لم يأت بما هو مقتضى عقد الإجارة من العمل في جميع المدّة ، فلا يستحقّ من الاُجرة المسمّـاة ، ولم يكن هذا المقدار مأموراً به من طرف المستأجر وواقعاً بإذنه ، فلا يستحقّ اُجرة المثل .
ويحتمل أن يستحقّ من الاُجرة المسمّـاة ماتقع بإزاء هذا المقدار نصفاً أو ثلثاً أو أقلّ أو أكثر ; لإتيانه ببعض العمل المستأجر عليه الواقع بإزائه مجموع الاُجرة المسمّـاة فتقسّط على الأبعاض .
ويحتمل أن يستحقّ اُجرة مثل عمله لكونه محترماً ناشئاً عن وقوع المعاوضة ولم يقصد به التبرّع والمجانيّة .
ويحتمل أن يستحقّ جميع الاُجرة المسمّـاة لصيرورته مالكاً لها بنفس العقد ، وقد استحق مطالبتها بنفس الشروع في العمل بناءً على أن يكون مجرّد الشروع كافياً في استحقاق الجميع ، كما هو أحد الاحتمالات المتقدّمة في استحقاق الأجير(1) .
ويحتمل أن يفصّل بين ما إذا كان المقدار الذي عمله ممّا يمكن أن يتعلّق به الغرض مستقلاًّ بحسب النوع ، كما إذا خاط ثوباً في نصف النهار ، وبين ما إذا لم يكن