(الصفحة 452)
الإتيان به لم يكن ناشئاً عن قصد التبرّع والمجانية ، بل أتى به وفاءً بالعقد المعاوضي . غاية الأمر وقوع التخلّف بالنسبة إلى البعض ; وهو لا يوجب خلوّ ما عمل عن العوض .
ويمكن استظهار الوجه الأوّل من صاحب العروة ـ حيث إنّه استند فيما إذا عمل الأجير للغير تبرّعاً ; لعدم جواز رجوع المستأجر على فرض عدم الفسخ إلى الغير المتبرّع له بالعوض ، سواء كان جاهلاً أو عالماً بالحال ـ بأنّ المؤجر هو الذي أتلف المنفعة عليه دون ذلك الغير ، وإن كان ذلك الغير آمراً له بالعمل ، إلاّ إذا فرض على وجه يتحقّق معه صدق الغرور(1) ، فإنّه يستفاد منه أنّ الملاك في جواز الرجوع إلى غير المتلف هو صدق الغرور المفروض عدمه في المقام ; لأنّه لم يتحقّق هنا غرور من ناحية المستأجر أصلاً كما لا يخفى ، فلا يرجع الأجير عليه بشيء .
نعم، اعترض عليه بعض المحقّقين من محشّي العروة(2) بأنّ مجرّد الاستيفاء يكفي في جواز الرجوع ، وإن لم يتحقّق معه غرور كما سيجيء تحقيقه ، هذا ما يتعلّق باحتمال البطلان الذي عرفت أنّه بلا وجه .
وأمّا احتمال الانفساخ من حين ترك العمل الذي يترتّب عليه استحقاق الأجير ما يقع بإزاء المقدار الذي عمل من الاُجرة المسمّـاة لو لم يفسخ المستأجر أصل العقد لأجل التبعّض ، فلابدّ وأن يكون مستنداً إلى جريان دليل التلف قبل القبض هنا أيضاً ، نظراً إلى عدم تحقّق القبض بالنسبة إلى ما لم يعمل ، وقد عرفت(3) الإشكال في أصل دلالة القاعدة على الانفساخ في
- (1) العروة الوثقى : 5 / 83 مسألة 4 .(2) العروة الوثقى : 5 / 83 ، التعليقة 1 .(3) في ص442ـ 444.
(الصفحة 453)
باب الإجارة ، فضلاً عن مثل المقام الذي لا ينبغي الإشكال في تحقّق التسليم في الجملة .
وبالجملة : فهذا الاحتمال أيضاً خال عن الوجه الوجيه ، مضافاً إلى أنّ تقسيط الاُجرة المسمّـاة ربما ينافي ما ذكروه من توقّف استحقاق الأجير للاُجرة على الفراغ عن العمل وتماميّته ، فتدبّر .
وأمّا احتمال اللزوم وعدم ثبوت الخيار بوجه فهو ينافي ما ذكرناه من الحكم بثبوت الخيار في موارد التخلّف عن العقد ; لعدم الفرق بين كون التخلّف بنحو الكليّة أو في الجملة ، فلا محيص عن الحكم بثبوت الخيار للمستأجر ، ولكن يقع الكلام حينئذ في أنّ الثابت له هل هو الخيار واحد أو أزيد ، صرّح المحقّق الرشتي (قدس سره)بأنّ الثابت له خياران ، أحدهما : خيار التلف والإتلاف بالنسبة إلى ما بقي من المدّة ، والثاني : خيار التبعّض بالنسبة إلى الماضي ، وذكر أنّ ثبوت خيار التبعّض يتوقّف على اختيار الفسخ بمقتضى الخيار الأوّل ; لأنّ التبعّض لا يتحقّق بدونه ، وعليه فرجوع جميع الاُجرة المسمّـاة إلى المستأجر يتوقّف على إعمال الخيارين معاً كما صرّح به نفسه(1) .
ويرد عليه ـ مضافاً إلى أنّه لم يعلم المراد من خيار التلف والإتلاف ، فإنّه إن كان المراد بالتلف هو التلف الوارد في دليل التلف قبل القبض ، وبالإتلاف هو الإتلاف الواقع في قاعدته فمن الواضح عدم دلالة شيء من القاعدتين على ثبوت الخيار ، بل مفاد الاُولى على ما هو المشهور(2) الانفساخ ، ومفاد الثانية ثبوت العقد في المقام والرجوع إلى اُجرة المثل ، فليس من الخيار عين ولا أثر ، وإن كان المراد بهما هو
- (1) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي : 215 .(2) رياض المسائل : 5 / 127 ، مفتاح الكرامة : 4 / 596 ، كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري : 6 / 270 .
(الصفحة 454)
تعذّر التسليم كما هو الظاهر ، فالتعبير عنه بهما ليس بوجيه كما هو غير خفي ، وإلى أنّ الخيار الثابت في مثل المقام كما عرفت هو الخيارالناشئ عن التخلّف لا تعذّر التسليم ، لما مرّ من المناقشة فيه ، وإلى أنّ إعمال خيار التبعّض لا يتوقّف على إعمال الخيار الأوّل ; لأنّ المراد بالتبعض الموجب للخيار ليس خصوص التبعّض في الملك ، كما في بيع ما يملك وما لا يملك حتّى يتوقّف تحقّق موضوعه على فسخ العقد بالنسبة إلى بعض أجزاء الزمان في المقام ، بل يمكن أن يقال : بأنّه على هذا التقدير أيضاً ليس له خيار التبعّض ; لأنّ التبعّض الناشئ من قبل المستأجر نفسه لا يوجب الخيار ، بل المراد بالتبعّض هو الأعمّ من التبعّض في الملك أو في الانتفاع ، ومن الواضح تحقّق التبعّض في الانتفاع في المقام بنفس إهمال الأجير في بعض المدّة ، من دون أن يتوقّف على فسخ المستأجر فيه ـ أنّه ليس في المقام إلاّ خيار واحد وهو خيار التبعّض ; وذلك لأنّ التخلّف الموجب للخيار لم يتحقّق في جميع المدّة ; لأنّ المفروض عمل الأجير في البعض الأوّل من المدّة ، فالتخلّف إنّما هو بالنسبة إلى البعض الآخر ، غاية الأمر عدم انحصار الخيار بخصوص التخلّف في الجميع ، بل الحقّ كما عرفت أنّ التخلّف في البعض أيضاً كذلك وعليه فلا موجب للخيار في المقام إلاّ التخلّف في البعض ، ومن الواضح أنّه عبارة اُخرى عن تبعّض الصفقة المعروف إيجابه للخيار .
نعم ، يترتّب على إعمال هذا الخيار فسخ العقد بالنسبة إلى الجميع الموجب لرجوع جميع الاُجرة المسمّـاة إلى المستأجر ، لا كما تشعر به عبارة المحقّق الرشتي (قدس سره)من كون أثر هذا الخيار عند الإعمال فسخ العقد بالنسبة إلى الماضي فقط ، إلاّ أن يقال : إنّ المفروض في كلامه فسخه بالنسبة إلى الباقي أوّلاً فلا معنى له ثانياً ، فتدبّر جيّداً .
(الصفحة 455)
وقد ظهر أنّ الأقوى في هذا الفرض ثبوت خيار التبعّض في المجموع فقط ، كما صحّحه المحقّق الإصفهاني (قدس سره)(1) ، ولا فرق فيما ذكرنا من حكم هذا الفرض ـ وهي صورة الإعمال ـ بين أنواع الأجير الخاصّ ; وهي من كانت جميع منافعه للمستأجر في مدّة معيّنة أو منفعته الخاصّة فيها ، أو استؤجر لعمل كلّي في الذمّة مباشرة مدّة معيّنة ; لعدم الفرق في الملاك بين هذه الأنواع الثلاثة ، هذا كلّه فيما لو أهمل الأجير في البعض الأوّل من المدّة .
وممّا ذكرنا فيه يظهر حكم سائر الفروض المتصوّرة في إهمال البعض ، كما أنّه ظهر لك أنّ المختار فيما إذا أهمل في جميع المدّة هو ثبوت الخيار بين الفسخ والإمضاء مجّاناً ، وفيما إذا أهمل في البعض أيضاً الخيار ، غاية الأمر أنّ الخيار هنا يسمّى خيار التبعّض ، أي التخلّف في البعض كما مرّ .
الصورة الثانية : ما إذا عمل الأجير لنفسه في جميع المدّة أو في البعض ، وظاهرهم ـ كما صرّح به في العروة وتبعه المحشّون ـ ثبوت الخيار للمستأجر بين الفسخ واسترجاع الاُجرة المسمّـاة كلاًّ أو بعضاً ، وبين الإمضاء والرجوع إلى العوض(2) ، من دون أن يكون هنا فرق في الأجير بين الأجير بالمعنى الأوّل الذي يكون جميع منافعه للمستأجر في مدّة معيّنة ، وبين الأجير بالمعنى الثاني الذي تكون منفعته الخاصّة فيها له ، وبين الأجير بالمعنى الثالث الذي هو عبارة عمّن استؤجر لعمل كلّي في الذمة مباشرة في مدّة معيّنة .
والظاهر أنّه لا فرق بين هذه الصورة والصورة المتقدّمة في شيء ممّا ذكرنا فيها
- (1) بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 139 .(2) العروة الوثقى : 5 / 82 مسألة 4 .
(الصفحة 456)
إلاّ في بعض الجهات ، ولابدّ من التعرّض لها :
منها : أنّه يمكن أن يقال : بأنّ الأجير بأحد المعنيين الأوّلين إذا سلّم نفسه إلى المستأجر ومهّدها لإطاعة أوامره وإنجاح أغراضه ومقاصده ، أو خصوص الغرض المذكور في عقد إجارته كالخياطة أو الكتابة ، فتارةً يعيّن عليه المستأجر عملاً في الخارج ، فيقول له مثلاً : خط هذا الثوب ، واُخرى لم يعيّن عليه . غاية الأمر أنّ الغرض من إجارته تهيّئه لرجوع المستأجر إليه في المدّة المعيّنة ، ففي الفرض الأوّل إذا تخلّف واشتغل بالعمل لنفسه ، كما لو خاط ثوب نفسه لا بأس بالحكم بثبوت الخيار لأجل التخلّف وعدم الوفاء بمقتضى عقد الإجارة ، وأمّا في الفرض الثاني إذا عمل لنفسه في تلك المدّة مع تهيّئه لرجوع المستأجر إليه ، غاية الأمر أنّه لم يرجع إليه بعد ، فلا يكون العمل لنفسه مخالفاً للوفاء بعقد الإجارة ولا يعدّ الأجير متخلِّفاً ; لأنّ التخلّف فرع تعيين عمل عليه ، أو عمل خاصّ مذكور في العقد ، وبدونه لا يكاد يتحقّق هذا العنوان الموجب للخيار ، كما لا يخفى .
نعم ، في الأجير بالمعنى الثالث الذي مرجعه إلى الاستئجار لعمل في الذمّة ـولازمه تحويل ذلك العمل إلى المستأجر ـ لا ريب في صدق التخلّف مع الاشتغال بعمل نفسه ، كما أنّه في الصورة الاُولى أي صورة الإهمال يكون فرض الإهمال مساوقاً لتعيين العمل من المستأجر وعدم اشتغال الأجير به وتركه العمل رأساً ، ففيها أيضاً يتحقّق التخلّف ، وأمّا في المقام فمع عدم تقدير عمل له لا يتحقّق التخلّف ، فلا وجه لثبوت الخيار للمستأجر ، اللّهم إلاّ أن يقال : إنّه يكفي في صدق عدم الوفاء بالعقد مجرّد إيجاد العمل لغير المستأجر في المدّة المعيّنة ، أو يقال : بأنّه لا يكاد يجتمع كون جميع المنافع للمستأجر مع وقوع العمل للأجير ، وكذا في الأجير الخاصّ بالمعنى الثاني ، فتدبّر جيّداً .