(الصفحة 475)
اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن الضدّ الخاصّ وهو ممنوع ، بل الاقتضاء إنّما هو بالنسبة إلى الضد العامّ ، مع أنّ النهي الغيري لا يقتضي فساد المعاملة فافهم . نعم ، لا مضايقة في حرمة السبب أي الإجارة الثانية لتفويتها حقّ المستأجر الأوّل ، وأمّا حرمة العمل فلا(1) .
وقد حقّقنا في الاُصول أنّ الاقتضاء ممنوع مطلقاً حتّى بالنسبة إلى الضدّ العامّ، ويمكن أن يقال في المقام : إنّ الأمر أيضاً غيريّ ; لأنّ المنافاة إنّما هو بين العملين في الخارج ، ومتعلّق الأمر إنّما هو المفهوم الكلّي الذي يكون الموجود في الخارج مصداقاً له ، وعليه فالعمل للمستأجر الأوّل في الخارج لا يكون مأموراً به إلاّ لكونه محقّقاً لما هو المأمور به ; وهو الوفاء بعقد الإجارة، فالأمر المتعلّق به غيريّ فضلاً عن النهي الذي هو مقتضاه على تقدير القول بالاقتضاء . هذا ، ولا يخفى أنّ مقتضى هذا الكلام عدم تحقّق الصغرى لهذه المسألة الاُصولية أصلاً ; لأنّ الأوامر كلّها متعلّقة بالطبائع والمفاهيم ، والمضادّة بنحو العموم إنّما هي بين الأمرين الوجوديّين ، فما هو ظرف تعلّق الأمر لا يكون محلاًّ لثبوت التضادّ وبالعكس .
هذا ، مضافاً إلى أنّ الفرق بين النهي الغيري والنفسي من حيث اقتضاء الفساد ممّا لم يعلم له وجه ، مع أنّه لم يكن الكلام في اقتضاء النهي للفساد ، بل في كون الحرمة منافية لتحقّق ماهو الشرط في الصحّة الإجارة من كون المنفعة مباحة ، فالحقّ في الجواب على تقدير تسليم صحّة هذا الشرط في الإجارة منع الاقتضاء فتدبّر ، مع أنّ ماهو المضادّ للعمل للمستأجر الأوّل ليس إلاّ العمل للمستأجر الثاني ، والمنفعة المملوكة في الإجارة الثانية ليست هي العمل ، بل منفعة الأجير أو
- (1) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي : 223 .
(الصفحة 476)
جميع منافعه ، وهو لا يكون مضادّاً للأوّل ; لإمكان عدم مراجعة المستأجر الثاني إليه للعمل أصلاً ; لأنّ المفروض كونه أجيراً خاصّاً ، فالتضادّ غير متحقّق كما لايخفى .
ومنها : أنّه غير متمكّن من العمل الثاني شرعاً ، والقدرة على التسليم شرط لصحّة الإجارة مطلقاً .
وأجاب عنه المحقّق الرشتي (قدس سره) بأنّ هذا أيضاً مبنيّ على مسألة الضدّ وقد ظهر جوابه(1) . وأورد عليه المحقّق الإصفهاني (قدس سره) بأنّه لا يبتني على تلك المسألة قال : لأنّه مع فساده من وجوه أشرنا إليها خلاف ما فرضه في الجواهر(2) من عدم ابتنائه على مسألة الضدّ ، بل بناه على فوريّة الأمر بالوفاء ، ثمّ قال في تقريبه ما حاصله : إنّ العمل بالإجارة الثانية بعد فرض فوريّة الوفاء بالإجارة الاُولى غير مقدور عليه فعلا شرعاً ، ولا يقاس بما تقدّم من استواء نسبة القدرة إلى الوفاء بالعقدين المستلزم للتخيير ، وذلك لأنّ المفروض هناك صحّة الإجارتين ، فلم يكن إلاّ عدم القدرة على الوفاء بالعقدين ، وأمّا هنا فالمفروض عدم الفراغ عن صحّة الإجارة الثانية وأنّ القدرة شرط صحّتها ، فكيف تتساوى نسبة القدرة إليهما ، بل الإجارة الاُولى حيث كانت حال وقوعها بلا مزاحم فهي واجدة للقدرة الجالبة لها دون الثانية ، لا يقال : كما أنّ القدرة شرط في الاُولى حدوثاً فكذا بقاءً والإجارة الثانية تزاحمها حينئذ ، لأنّا نقول : زوال القدرة بقاءً متوقّف على صحّة الإجارة ووجوب الوفاء بها ، والمفروض توقّف الصحّة على وجود القدرة ، فكيف تزول القدرة بقاءً
- (1) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي : 223 .(2) جواهر الكلام : 27 / 270 .
(الصفحة 477)
بما يتوقّف على ثبوت القدرة التي لا ثبوت لها إلاّ مع فرض زوال القدرة بقاءً(1) .
أقول : لم يعلم الفرق بين المقام وبين ما تقدّم ، فإنّ الغرض في المقامين الحكم ببطلان الإجارة الثانية ، إمّا من طريق الأمر بالوفاء بالعقد الثاني فوراً ; لعدم اجتماعه مع الأمر بالوفاء بالعقد الأوّل كذلك كما هناك ، وإمّا من طريق عدم القدرة على التسليم شرعاً كما هنا . وكما اُجيب عن الأوّل بأنّه لا مانع من اجتماع الأمرين . ـ غاية الأمر ثبوت التخيير ـ يمكن الجواب هنا بعدم المانع من ثبوت كون الأمرين على الفوريّة والحكم بأنّ المكلّف مخيّر في الامتثال ، ضرورة أنّ مجرّد وجوب الوفاء بالأوّل فوراً لا يسلب القدرة عن الثاني إلاّ مع فرض وجوب الوفاء به أيضاً كذلك ، وإلاّ فلا منافاة بينهما ، و حينئذ نقول : إنّ مجرّد وجوب الوفاء بالثاني فوراً أيضاً لا يمنع إلاّ بعد كونه على نحو التعيين وكون الأوّل أيضاً كذلك ، فلا مانع حينئذ من الجمع بنحو التخيير وإن كان كلاهما بنحو الفور ، ضرورة أنّ الجمع بين التكليفين كذلك ليس كالجمع بين الوضعيّين بنحو التخيير ، فإنّه لا يعقل الحكم بصحّة أحد العقدين على سبيل التخيير ، وأمّا الحكم بوجوب الوفاء بأحدهما تخييراً فلا مانع منه أصلاً ، وإن كان الوجوب فوريّاً فلا فرق بين المقامين .
ثمّ إنّ الجواب عن أصل الوجه بطلان المبنى ، سواء كان هي مسألة الضدّ أو فورية الأمر بالوفاء ، فإنّه مع كون الوقت موسّعاً لا دليل عى الفورية إلاّ أن يفرض ضيق الوقت ، كما هو إحدى صور المسألة . هذا ، مضافاً إلى أنّ ماهو الشرط في صحّة الإجارة هي القدرة الخارجية على ذات العمل الواقع متعلّقاً للعقد ، وهي حاصلة في المقام ، والأمر بالوفاء وإن كان فوريّاً لا يوجب سلب هذه القدرة أصلاً .
- (1) بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 154 ـ 155 .
(الصفحة 478)
ودعوى أنّ القدرة الشرعية على التسليم منتفية ، مدفوعة بأنّ المراد من القدرة الشرعية المنتفية في المقام إن كان هو حكم الشارع بثبوت القدرة ; بمعنى أنّ الشارع حكم في المقام بعدم ثبوت القدرة له في عالم التشريع ، فيرد عليه أنّ مجرّد إيجاب الوفاء فوراً إذا لم يكن دليلاً على ثبوت القدرة لا شتراط التكليف بها لا يكون دليلاً على عدم ثبوتها ، كما لا يخفى .
وإن كان المراد أنّ إيجاب الوفاء بالعقد فوراً ، حيث إنّه يمنع عن صرف القدرة فيما عداه فكأنّه مسلوب القدرة في عالم التشريع ، فيرد عليه أنّه لا دليل على اعتبار القدرة بهذا المعنى في صحّة الإجارة ، إذ الدليل على اعتبار القدرة على التسليم هو حديث النهي عن الغرر(1) ، ومع ثبوت القدرة التكوينية لايلزم غرر أصلاً .
وقد ظهر من جميع ما ذكرنا أنّه لم ينهض شيء من الوجوه الخمسة لإثبات بطلان الإجارة الثانية إذا كانت خاصّة بالمعنى الأوّل أو الثاني ، فعدم نهوضها لإثبات البطلان فيما إذا كانت خاصّة بالمعنى الثالث أو الرابع إن كان ، أو كانت عامّة كالإجارة الاُولى بطريق أولى .
ويمكن أن يقال : إنّه كما لا دليل على بطلان الإجارة الثانية كذلك لا دليل على صحّتها ، بناءً على عدم جواز التمسّك بعموم «أوفوا بالعقود»(2) لإثبات صحّة العقد المشكوك ، لا من حيث النوع بل من حيث الصنف أو مطلقاً كما أشرنا إليها مراراً ، وذلك لعدم ثبوت إطلاق أو عموم في خصوص باب الإجارة حتّى يتمسك به في المورد المشكوك ، وليس المورد من الموارد التي كان الابتلاء بها كثيراً عند العقلاء
- (1) تقدّم في ص22 .(2) سورة المائدة 5 : 1 .
(الصفحة 479)
حتّى يكون عدم الردع كاشفاً عن الإمضاء ، فتدبّر .
ثمّ إنّه ذكر المحقّق الإصفهاني (قدس سره) في حكم ما إذا صار الأجير المشترك أجيراً خاصّاً في الإجارة الثانية أنّه إذا كان مورد الإجارة الاُولى كليّاً ذمّياً ، فلا مانع من صحّة الإجارة الثانية بنحو الأجير الخاصّ في تمام المدّة إلاّ من حيث كونها مفوّتة بنفسها للعمل على طبق الاُولى ، حيث لا يعقل تطبيق الكلّي الذمّي على المنفعة المملوكة بالإجارة الثانية للغير ، وغايته حرمة الإجارة الثانية ، وحرمة المعاملة مولوياً لا توجب الفساد ، بل لو عمل للأوّل كان الأجير ضامناً للثاني ; لأنّه سلّم ماله إلى الغير ، والأوّل أيضاً ضامن للثاني لاستيفاء ماله ، وأمّا إذا كان مورد الإجارة الاُولى بنحو الكلّي في المعيّن فالإجارة الثانية لتضمّنها تمليك مال الغير غير صحيحة ، فإنّه نظير بيع تمام الصبرة بعد بيع صاع كلّي منها ، وعليه فإذا عمل للثاني في تمام المدّة كان من تسليم مال الغير المعدود إتلافاً ، ومن تسلّم الثاني لمال الغير المعدود استيفاءً منه ، فللأوّل الرجوع على من شاء من الأجير والمستأجر الثاني(1) .
أقول : ويمكن أن يورد عليه بوجوه :
أحدها : أنّ الإجارة الثانية في الفرض الأوّل لا تكون مفوّتة بنفسها للعمل على طبق الاُولى ، فإنّ مجرّد إيقاع العقد مع المستأجر الثاني بالنحو المفروض لا يوجب اتّصافه بوصف التفويت ، ضرورة أنّه يمكن الاستئذان منه للعمل على طبق الاُولى أو المعاوضة معه بالنسبة إلى هذا المقدار أو الإقالة ونظائرها ، فالإجارة الثانية لا تكون بنفسها مفوّتة ، والمفروض عدم ثبوت المنافاة بين الإجارتين ; لأنّ مورد
- (1) بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 157 .