(الصفحة 491)
وأمّا ما أفاده المحقّق الإصفهاني (قدس سره) في مقام منع دعوى كون بعض الأعيان منفعة عرفاً ; من أنّه لو صحّت هذه الدعوى لصحّ تمليك المنفعة ابتداءً ، كما يصحّ تمليك سكنى الدار . قال : ولا أظنّ أن يلتزم أحد بصحّة تمليك لبن المرأة أو الشاة إجارة ، ولا تمليك ماء البئر والحمام ابتداء بعنوان الإجارة(1) ، فيمكن الجواب عنه : بأنّه لا مانع من الالتزام بذلك فيما إذا تعلّق الغرض بهذا العنوان ، والظاهر مساعدة العرف عليه أيضاً .
وكيف كان ، فالعمدة في حلّ الإشكال ما ذكرنا ، وعليه فالحكم في مثل المقام لا يكون مخالفاً للقاعدة ، فلا حاجة إلى التمسّك للجواز بالإجماع أو بقوله تعالى :
{فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}(2) . أو بالمأثور من فعل النبيّ (صلى الله عليه وآله) حيث استرضع لولده إبراهيم(3) ، أو فعل الأئمّة (عليهم السلام) حيث استرضعوا لأولادهم(4) ، مضافاً إلى إمكان المناقشة في جميعها بل منع دلالة أكثرها ، نظراً إلى أنّه لا دلالة لشيء منها على جواز الاستئجار ، وثبوت الاُجرة أعمّ من ذلك كما هو غير خفيّ .
وهكذا الاستدلال على جواز الاستئجار ـ كما ربما عزي إلى الشهيد (قدس سره)(5)ـ بمساس الحاجة والعسر والحرج المنفيّين بالآية(6) والأخبار(7) ، فإنّ مسيس
- (1) بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 179 .(2) سورة الطلاق 65 : 6 .(3) تذكرة الفقهاء : 2 / 295 ، المغني لابن قدامة : 6 / 73 .(4) مسالك الأفهام : 5 / 210 ، جواهر الكلام : 27 / 293 .(5) حكى عنه في مفتاح الكرامة : 7 / 143 .(6) سورة الحجّ 22 : 78 .(7) وسائل الشيعة : 15 / 369 ، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس ب56 .
(الصفحة 492)
الحاجة لا يورث إلاّ مجرّد شرعية المعاملة لا خصوص عقد الإجارة لعدم الحاجة إليه ، ولا عسر ولا حرج في عدم تشريعه كما هو أظهر من أن يخفى .
إذا عرفت ما ذكرنا فاللاّزم هو التكلّم في فروع المسألة ، فنقول :
منها : أنّه لا إشكال في صحّة استئجار المرضعة إذا كانت مزوّجة وكان ذلك بإذن زوجها ، وأمّا مع عدم الإذن فالمسألة خلافية ، فالمحكي عن المبسوط(1)والخلاف(2) والسرائر(3) وبعض آخر(4) عدم الجواز مطلقاً ، والأشبه عند الفاضلين(5) والثانيين(6) هو الجواز كذلك ، والمحكي عن قواعد العلاّمة التفصيل بين منافاة العمل لحقّ الزوج فيفسد ، وغيرها فلا(7) ، وهو ظاهر المتن ، وهنا تفصيل آخر اختاره المحقّق الرشتي (قدس سره)(8) وسيجيء ، كما أنّه حكي عن بعضهم(9) التردّد وعدم اختيار شيء من الجواز والعدم .
وليعلم قبل الخوض في تحقيق حال هذا الفرع أنّ ملاكه لا يختص بما إذا كان استئجار المرأة المزوّجة للإرضاع ، بل يعمّ ما إذا كان لغيره ، كما أنّه لا يختصّ بالاستئجار ، بل يعمّ مثل المصالحة أيضاً كما هو غير خفي .
- (1) المبسوط: 3 / 239.(2) الخلاف : 3 / 498 مسألة 18 .(3) السرائر : 2 / 471 .(4) الجامع للشرائع : 296 .(5) شرائع الإسلام : 2 / 185 ، تذكرة الفقهاء : 2 / 299 .(6) جامع المقاصد : 7 / 137 ـ 138 ، مسالك الأفهام : 5 / 208 .(7) قواعد الأحكام : 2 / 288 .(8) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي : 260 .(9) تحرير الأحكام : 3 / 92 ـ 93 ، والحاكي هو المحقّق الرشتي في كتاب الإجارة : 259 .
(الصفحة 493)
ثمّ إنّ البحث في الفرع إنّما هو بعد وضوح بطلان القول بأنّ اللبن مملوك للزوج ، وكذا القول بأنّ الزوج مالك لجميع منافع المرأة ، وحينئذ فيقع الكلام في ملائمة صحّة الاستئجار لحقّ الاستمتاع الثابت للزوج على الزوجة وعدمها ، والكلام في ذلك تارة على تقدير كون حقّ الاستمتاع ثابتاً في جميع الأوقات بنحو الاستغراق ، واُخرى على تقدير عدمه ، كما ادّعى الضرورة على ذلك المحقّق الإصفهاني (قدس سره)(1) ، واختار بعد بطلان الاستغراق كون الاستمتاع الذي يملكه الزوج هو الاستمتاع في أوقاتها بنحو الكلّي في المعيّن ، وكون ولاية التعيين بيد الزوج لا الاستمتاع في زمان معيّن ، أو الاستمتاع في أحد الأزمنة لا معيّناً ، أو الاستمتاع في وقت يشاء الزوج إمّا بنحو الواجب المعلّق أو المشروط .
وكيف كان ، فعلى تقدير القول بالصحّة في الفرض الأوّل تكون الصحّة في الفرض الثاني ثابتة بطريق الأولويّة ، ولا مجال للتكلّم فيه مستقلاًّ ، وهذا بخلاف القول بالبطلان فيه ، فإنّه لا ملازمة بينه وبين البطلان في الثاني كما هو ظاهر .
إذا ظهر ذلك فاعلم أنّ الأقوى هو القول بالصحّة مطلقاً ولو مع منع الزوج ; لأنّ منشأ تخيّل البطلان إمّا ثبوت المنافاة بين الاستحقاقين : استحقاق الاستمتاع واستحقاق الإرضاع ، ومع سبق الأوّل لا مجال لثبوت الثاني ، نظير الأجير الخاصّ الذي ملّك منفعته الخياطية في تمام اليوم من المستأجر الأوّل ، فإنّه لايسعه تمليك الكتابة في ذلك اليوم من المستأجر الآخر ، لعدم كونه مالكاً للكتابة بعد تمليك الخياطة ، وإمّا عدم القدرة على التسليم ، وشيء منهما لا يصلح لذلك لكونهما ممنوعين .
- (1) بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 182 .
(الصفحة 494)
أمّا الأوّل : فلأنّ المنافاة بين الاستحقاقين إن كان منشؤها عدم ملكيّة الزوجة لمنفعة الإرضاع بعد ثبوت حقّ الاستمتاع عليها في كلّ زمان لثبوت المضادّة والمنافرة بين الأمرين ، فيرد عليه أنّه لابدّ في باب الاُمور الاعتبارية التي زمام أمرها بيد المعتبرين من العقلاء من البحث فيما يرجع الى إمكان الاعتبار وعدمه ، ولامجال للبحث عن الأوصاف والعوارض التي موصوفها الأشياء الحقيقية والموجودات الخارجية ; من التضادّ والتنافر وغيره من الأوصاف والأحكام ، ففي مثل الملكيّة التي هي من الاُمور الاعتبارية لابدّ من ملاحظة أنّ الاعتبار هل يساعد على ثبوت ملكيّة الشخص في زمان واحد للأمرين غير القابلين للاجتماع أم لا ؟ ومن الواضح المساعدة ، فإنّ مجرّد عدم إمكان تحقّقهما في الخارج لايوجب خللاً في باب الاعتبار ، فإنّه كما تعتبر الملكيّة للشخص في المفروض من المثال بالإضافة إلى الخياطة كذلك تعتبر بالنسبة إلى الكتابة ، وعليه فلا مانع من تمليكهما من مستأجرين . وإن كان منشؤها عدم إمكان إعمال الحقّين في زمان واحد فذلك لا مساس له بمقام العقد وصحّة الاستئجار وعدمها ; لأنّ مفاد الإجارة إثبات أصل الاستحقاق ، ولا نظر له إلى مقام الإعمال .
وأمّا الثاني : فمضافاً إلى منع اعتبار القدرة على التسليم في باب صحّة العقود ، بل الموارد مختلفة والمقامات متنوّعة والتحقيق في محلّه ، نقول : إن كان المراد بعدم القدرة على التسليم هو عدم القدرة عقلاً فمنعه واضح ، ضرورة ثبوت القدرة كذلك على الإرضاع ولو في وقت أراد الزوج الاستمتاع ، كما أنّها تقدر على التمكين ولو مع استحقاق الإرضاع ، والقدرة على الجمع بين الأمرين وإن كانت مفقودة إلاّ أنّها غير معتبرة ، ضرورة أنّ المعتبرة منها هي القدرة على العمل الذي استؤجرت له ; وهو الإرضاع والمفروض ثبوتها . وإن كان المراد به هو عدم القدرة شرعاً فهو
(الصفحة 495)
يبتني على حرمة الضدّ وهي غير ثابتة .
وممّا ذكرنا ظهر أنّ الأقوى هو القول بالجواز مطلقاً ، سواء كان الإرضاع مضادّاً للاستمتاع ومنافياً له بحيث يمتنع اجتماعهما في زمان واحد أم لم يكن كذلك ، وعلى التقدير الأوّل لا فرق بين أن يكون مقدّراً بالعمل أو مقدّراً بالزمان ، وأنّ الحكم بالبطلان في خصوص المقدّر بالزمان ـ كما اختاره المحقّق الرشتي (قدس سره)(1) نظراً إلى عدم القدرة على التسليم ـ ممنوع لما ذكرنا ، وإن احتمل هو أيضاً الصحّة نظراً إلى عدم حرمة الضدّ .
ودعوى الشهرة أو عدم الخلاف على البطلان إمّا مطلقاً أو في خصوص صورة المنافاة لا تجدي بعد وضوح أنّ مستند المسألة هي القواعد الكليّة الجارية في أمثالها ، وعدم احتمال ثبوت نصّ خاصّ يكون مفاده البطلان تعبّداً على خلاف القاعدة المقتضية للصحّة على ما اخترناه ، فالأقوى هي الصحّة مطلقاً .
نعم ، ربما يقال بالبطلان في خصوص ما إذا كان بناء الزوجة على إطاعة الزوج والتمكين له مطلقاً ، وكان الإرضاع منافياً للاستمتاع ، وكان الغرض من استئجارها متعلّقاً بوقوع الإرضاع خارجاً وتحقّقه منها كذلك ، فإنّه في هذه الصورة يمكن أن يقال بأنّ قصد الإيجار لا يتمشّى من الزوجة ، وكذا قصد الاستئجار من المستأجر العالم بالحال ، فالبطلان حينئذ يكون مستنداً إلى عدم ثبوت القصد المعتبر في العقود بلا إشكال .
ويمكن الجواب عنه بأنّ الإقدام على الاستئجار والإيجار لا يكاد يجتمع مع هذا الحال ، فبالإقدام عليهما كما هو المفروض في المقام يستكشف عدم ثبوت القطع
- (1) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي : 260 .