(الصفحة 522)
حقيقي إلى المنوب عنه ، فيحرّكه نحو الفعل الأعمّ ، ويستحيل أن يكون المحرِّك له محرِّكاً لغيره ولو كان الغرض أعمّ . غاية الأمر سقوط التكليف بسقوط غرضه الحاصل بفعل الغير إذاكان توصّلياً ، وحيث إنّ المفروض هي التعبّدية فلا يسقط الغرض إلاّ مع قصد الامتثال ، وهو متوقّف على محرّكية الأمر(1) .
ومنها : أنّ فعل النائب تارة باستنابة من المنوب عنه ، واُخرى بمجرّد نيابة الغير من دون استنابة، فإن كان بالنحوالأوّل فالمنوب عنه كما يتقرّب بأمره بفعله المباشري كذلك يتقرّب بأمره بفعله التسبيبي ، فلا حاجة إلى تقرّب النائب حتّى يطالب بالأمر المقرّب له ، فالتوسعة حينئذ في الآلة العاملة لا في الأمر المتعلّق بالعمل . وإن كان بالنحو الثاني فرضى المنوب عنه بالفعل المنوب فيه كاف في تقرّبه ولا حاجة إلى تقرّب النائب ، ومبنى الشقّين معاً على عدم لزوم قصد التقرّب من النائب أصلاً ، بل يأتي بذات العمل القابل للانتساب إلى المنوب عنه والتقرّب به شأنه .
وأُورد عليه بأنّ الشق الأوّل مبنيّ على إمكان تعلّق التكليف بالأعمّ ممّا هو تحت اختياره وما هو تحت اختيار الغير كما في المقام ، حيث إنّه يتوسّط بين الفعل التسبيبي وبين ما يتسبّب إليه إرادة الفاعل المختار وهو محلّ الكلام ، والشقّ الثاني يرجع إلى الجواب عن الوجه الأوّل من وجهي الإشكال ، فتدبّر(2) .
ومنها : ما أفاده المحقّق الإصفهاني (قدس سره) في كتاب الإجارة ممّا حاصله : أنّ دفع الإشكال موقوف على تقديم أمرين :
الأوّل : أنّ غاية كلّ فعل هي فائدته القائمة به ، وهي بوجودها الخارجي غاية وبوجودها العلمي علّة غائية ، والأمر ليس من فوائد الفعل بوجوده الخارجي ،
- (1) بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 230 ـ 231 .(2) بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 231 .
(الصفحة 523)
كيف وهو متقدّم عليه ولا يعقل بقاؤه بعد وجود الفعل ، فليس بوجوده العلمي علّة غائية حتّى يوصف بكونه داعياً وباعثاً .
الثاني : أنّ موافقة المأتيّ به للمأمور به من عناوين الفعل ، وقصد الامتثال مرجعه إلى قصد إتيان المماثل للمأمور به من حيث إنّه كذلك ، وقصد موافقة الأمر مرجعه إلى قصد ما يوافق المأمور به من حيث إنّه كذلك ، ولا يخفى عليك أنّ موافقة المأتيّ به تارةً بالإضافة إلى ذات المأمور به ، واُخرى بالإضافة إلى المأمور به بما هو مأمور به ، ومرجع الأوّل إلى موافقة الفرد للطبيعي وهو أجنبيّ عن قصد القربة ، ولا ينطبق عليه عنوان من العناوين الحسنة .
إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ النائب تارةً يأتي بالفعل ـ الموافق لما أمر به المنوب عنه ـ عن المنوب عنه ، من دون قصد عنوانه بل يدعوه إليه داع آخر ، فالفعل المنسوب إلى المنوب عنه غير عبادي ، واُخرى يأتي بالفعل بقصد كونه موافقاً لما أُمر به المنوب عنه لا عن المنوب عنه، فالفعل لا يقع عبادياً لا عن المنوب عنه لعدم إتيانه عنه ، ولا عن النائب لعدم المضايف فيه ، إذ لا مأمور به له حتّى يقصد كون المأتي به موافقاً للمأمور به ، ومجرّد كونه موافقاً لذات المأمور به لا يجدي في العبادية . وثالثة يأتي بالفعل بقصد كونه موافقاً للمأمور به عن المنوب عنه ، فهذا العنوان المقصود حيث إنّه عن المنوب عنه فمضايفه بالإضافة إليه فعليّ ، وبعد فرض انتسابه إلى من كان مضايفه فعليّاً فيه يمكن إتيان الفعل المعنون بهذا العنوان في ذاته بقصد عنوانه من أيّ شخص كان ، حيث لا يتفاوت تعنون الفعل بهذا العنوان بتفاوت الأشخاص ، وإن كان صيرورته عبادياً بقصده لابدّ فيها من انتسابه إلى من كان مضايف العنوان فعلياً فيه(1) .
- (1) بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 232 ـ 233 .
(الصفحة 524)
ومرجع ما أفاده إلى أنّه لا يلزم في ثبوت وصف العبادية توجّه الأمر إلى الفاعل ، وإتيانه المأمور به بداعي الأمر المتوجّه إليه ، بل يكفي فيه كون العمل المأتيّ به موافقاً للمأمور به والإتيان به كذلك ، مع إمكان صحّة الانتساب إلى مَنْ كان مأموراً بذاك الأمر ، فإذا فرض قيام الدليل على صحّة النيابة ـ ومرجعه إلى إمكان الانتساب إلى المنوب عنه ـ فلا يبقى من جهة العبادية نقصان وخلل أصلاً ، من دون فرق بين ما إذا كان هناك استنابة أم لا ، فإنّ ثبوت الأمر وتوجّهه إلى المنوب عنه وصحّة الانتساب إليه على ماهو مقتضى أدلّة مشروعية النيابة والإتيان به بقصد الموافقة للمأمور به بما هو كذلك يكفي في وقوعه عبادة ; لثبوت الأمر من ناحية وصحّة الانتساب من ناحية اُخرى ، والإتيان بها بهذا العنوان من ناحية ثالثة ، وعليه فلا حاجة في حصول التقرّب المقوّم للعبادية توجّه الأمر إلى الفاعل أصلاً .
وهذا هو الجواب الصحيح عن الوجه الثاني ، وبه يظهر الجواب عن الوجه الأوّل ، فإنّ مقتضى ما ذكرنا هو حصول القرب للمنوب عنه بسبب إتيان النائب المنوب فيه بقصد كونه موافقاً للمأمور به عن المنوب عنه ، بداهة أنّه إذا كانت عباديّته لأجل الإتيان به بذلك القصد عن المنوب عنه فلازمه هو حصول القرب للمنوب عنه ، ولا وجه لتقرّب النائب أصلاً ، فالقصد يتحقّق من النائب والقرب يقع للمنوب عنه من دون محذور ، ولا وجه للالتزام بعدم لزوم قصد التقرّب على النائب وأنّ رضا المنوب عنه بما نسب إليه كاف في مقربية العمل له ، كما أنّه لا وجه للالتجاء إلى إنكار النيابة بالمعنى المعروف وإرجاع النيابة إلى ما يساوق إهداء الثواب .
مضافاً إلى ما أورد على الأوّل بعد توجيهه بأنّ غرضه ليس تعلّق التكليف
(الصفحة 525)
بالأعمّ من الفعل ومن الرضا بما يؤتى به عنه، بحيث يكون الرضا أحد فردي الواجب التخييري ، وأيضاً ليس غرضه تعلّق التكليف بالأعم من الفعل المباشري والفعل المرضيّ به ; لاستحالة تعلّق التكليف بما ليس من إيجادات المكلّف ، كما أنّه ليس المراد أنّ صدور الفعل مع الرضا به كاف في المقرّبية ، بل الغرض أنّ الفعل المنسوب إليه بالنيابة المشروعة إذا رضي به المنوب عنه بما هو موافق لأمره وبما هو دين الله عليه قربيّ منه ، بحيث لو صدر منه مباشرة من حيث كونه كذلك لكان مقرّباً له بلا شبهة .
ومحصّل الإيراد أنّه لا يتم في النيابة عن الميّت ، فإنّ المكلّف به هو العمل مع قصد الامتثال ، فلابدّ في سقوط التكليف من حصول هذا المقيّد في هذه النشأة ، فكون العمل في هذه النشأة وقيده في نشأة الآخرة ليس امتثالاً للتكليف الذي لا موقع له إلاّ في النشأة الدنيوية .
وإلى ما أورد على الثاني بأنّه مناف لظاهر النصوص والفتاوى ، فإنّ الحجّ الذي يستنيب فيه الحيّ العاجز لا يراد منه إلاّ إسقاط التكليف المتوجّه إليه بالاستنابة لا مجرّد تحصيل ثوابه ، مضافاً إلى أنّ تقرّب النائب وإيصال الثواب إنّما يتصوّر فيما كان مستحباً في حقّ النائب كالحجّ والزيارة المندوبين ، وأمّا القضاء عن الميّت وجوباً أو تبرّعاً فلا أمر للنائب إلاّ الأمر الوجوبي أو الندبي بالنيابة لا بالمنوب فيه ، وأوامر النيابة توصّلية(1) .
فانقدح من جميع ما ذكرنا أنّ الجواب الصحيح عن الوجه الأوّل ما ذكر ، فتدبّر .
بقي الكلام في الواجبات النظامية التي قام الإجماع بل الضرورة على جواز أخذ
- (1) بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 234 ـ 235 .
(الصفحة 526)
الاُجرة فيها(1) ، فإن قلنا بعدم استلزام القول بالجواز في غيرها بشيء من الإيرادات العقلية المتقدّمة ـ كما هو الحقّ وقد عرفت ـ فلا يكون الحكم بالجواز فيها مخالفاً لحكم العقل وللقاعدة . وأمّا إن قلنا بالاستلزام فلابدّ من أن يكون خروج الواجبات النظامية والحكم بالجواز فيها مستنداً إلى دليل ، وفي الحقيقة يرد على المشهور(2) القائلين بالمنع النقض بالواجبات النظامية ولابدّ لهم من الجواب، وقد اُجيب عن ذلك بوجوه :
منها : خروجها بالإجماع والسيرة القائمين على الجواز في خصوصها .
ويرد عليه أنّه إنّما يجدي إذا كان المنع لدليل تعبّدي ، فإنّه على هذا التقدير يخصّص عمومه بالإجماع والسيرة المذكورين ، وأمّا إذا كان المنع لأمر عقليّ كما عرفت فلا موقع لتخصيصه بما عدا الواجبات النظامية كما هو ظاهر .
ومنها : ما عن جامع المقاصد من تخصيص الجواز بصورة سبق قيام من به الكفاية بالعمل(3) .
ويرد عليه أنّه مناف لإطلاق كلام الأصحاب ، فإنّ ظاهرهم ثبوت الجواز بالإضافة إلى السابق أيضاً . وبعبارة اُخرى مرجعه إلى تسليم الإشكال ; لأنّه مع سبق قيام من به الكفاية يسقط الوجوب ، ولا يكون أخذ الأُجرة حينئذ في مقابل الواجب .
ومنها : ما نسب إلى صاحب الرياض (قدس سره) من اختصاص المنع بالواجبات الذاتية
- (1) مجمع الفائدة والبرهان : 8 / 89 ، رياض المسائل : 5 / 37 ـ 38 ، كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري : 2 / 137 .(2) مسالك الافهام : 3 / 130 ، الحدائق الناضرة : 18 / 211 ، مفاتيح الشرائع : 3 / 11 .(3) جامع المقاصد : 7 / 181 .