(الصفحة 532)
مستنده ووجه ثبوته ، نظراً إلى أنّ الضمان إمّا أن يكون بالعقد أو باليد أو بالإتلاف ، والجميع محلّ اشكال .
أمّا العقد، فلأنّ المفروض أنّه لا عقد صحيح في البين لا بعنوان الإجارة ولا بعنوان الجعالة ; لأنّ الفرض عدم تعيين الاُجرة والجعل ، بل الثابت مجرّد الطلب من الشخص أن يعمل له عملاً بدون تعيين الاُجرة ، بل يقصد المجانيّة كما في بعض صور المسألة ، فلا يكون هنا عقد صحيح في البين . نعم ، يمكن أن يقال بأنّ مستند الضمان هي قاعدة ما يضمن ، نظراً إلى ثبوته في الصحيح فيتحقّق في فاسده أيضاً ، إلاّ أنّه قد حقّق في محلّه أنّها لاتكون قاعدة مستقلّة موجبة للضمان ، بل منشأ الضمان فيها إمّا قاعدة الإقدام أو اليد أو غيرهما كما تقدّم سابقاً(1) ، فهي قاعدة اصطيادية مستفادة من القواعد الاُخر الحاكمة بثبوت الضمان في موارد العقود الفاسدة ، وقد تقدّم عن الشهيدين(2) القول بعدم ثبوت اُجرة المثل فيما إذا كان بطلان الإجارة لأجل عدم ذكر الاُجرة أو اشتراط عدمها ، وإن وقع الاختلاف بينهما وبين جامع المقاصد في عدم الفرق في ذلك بين إجارة الأعيان والإجارة على الأعمال، أو ثبوته ، كما اختاره جامع المقاصد(3) .
وأمّا قاعدة اليد، فلو قلنا بشمولها للمنافع أيضاً فلا محيص عن اختصاصها بما إذا كان تحت اليد ولو تبعاً ، ضرورة أنّه بدونه لا تشمله القاعدة ، ومجرّد المطالبة لا يوجب ثبوت اليد على المنفعة بوجه .
وأمّا قاعدة الإتلاف، فغير شاملة أيضاً ; لأنّ استناد الفعل وهو الإتلاف إلى
- (1) في ص328 ـ 329.(2) في ص326.(3) جامع المقاصد: 7 / 120 ـ 121.
(الصفحة 533)
الفاعل المباشر أقوى من الطالب الآمر ، ومجرّد الطلب لا يصحّح استناده إلى الطالب أصلاً .
وحكي عن المسالك(1) وغيرها(2) أنّ الموجب للضمان استيفاء المنفعة ذات المالية ، وهو بعد لزوم تقييده بعدم كون صاحبها قاصداً للتبرّع والمجانيّة لا دليل على اقتضائه للضمان ، فإنّ مجرّد الاستيفاء ولو كان مسبوقاً بالطلب والأمر لا دليل على إيجابه للضمان ما لم ينطبق عليه شيء من القواعد الدالّة على الضمان .
وأمّا التمسّك بقاعدة الإقدام ، فمضافاً إلى ما مرّ منّا(3) من المناقشة فيها صغرى وكبرى لا تجري في جميع صور المسألة ; لعدم تحقّق الإقدام فيما إذا كان من قصد الآمر التبرّع والمجانيّة .
نعم ، يمكن التمسّك له بقاعدة احترام مال المسلم التي دلّت عليها رواية أبي بصير(4) ، وقد تقدّم البحث في هذه القاعدة مفصّلاً والجواب عن المناقشات التي أُوردت على التمسّك بها(5) فراجع ، وأنّه يمكن الرجوع إليها ، سواء قلنا : بأنّ المراد من الحرمة المتعلّقة بمال المؤمن هي الحرمة التكليفيّة أو الحرمة الوضعيّة ، واستدلّ بها في الجواهر(6) وتبعه السيّد صاحب العروة(7) ، وهذا هو الدليل على الضمان في مثل المسألة ، ومنه يظهر الوجه لعدم الاستحقاق في صورة قصد التبرع للعامل ،
- (1) مسالك الافهام : 5 / 229 .(2) الحدائق الناضرة : 21 / 633 ، بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 301 ـ 302 .(3) في ص329 ـ 332.(4) تقدّمت في ص332.(5) في ص332 ـ 337.(6) جواهر الكلام : 27 / 335 .(7) العروة الوثقى : 5 / 12 مسألة 19 .
(الصفحة 534)
فإنّه مع هذا القصد لامجال لاحترام ماله وثبوت الضمان ، كما لا يخفى .
***
[قال المؤلّف دام ظلّه في كتاب الإجارة الثاني]:
قال في الشرائع : إذا دفع سلعة إلى غيره ليعمل فيها عملاً ، فإن كان ممّن عادته أن يستأجر لذلك العمل كالغسّال والقصّار فله اُجرة مثل عمله ، وإن لم تكن له عادة وكان العمل ممّا له اُجرة فله المطالبة ; لأنّه أبصر بنيّته . وإن لم يكن ممّا له اُجرة بالعادة لم يلتفت إلى مدّعيها(1) .
أقول : الظاهر أنّ مفروض المسألة ما إذا لم يكن الدفع إلى الغير بعنوان الاستئجار; بأن يكون هناك إجارة معاطاتية حتّى يعتبر في صحّتها جميع ما يعتبر في الإجارة العقدية من تعيين الاُجرة وغيره ، ضرورة أنّه على هذا التقدير لا يكون فرق بين من كان من عادته أن يستأجر لذلك العمل ، ومن لم يكن من عادته كذلك ، كما أنّه لا فرق بين أن يكون العمل ممّا له اُجرة في العادة ، وما إذا لم يكن كذلك ، كما أنّه على هذا التقدير تتعيّن الاُجرة المسمّـاة ، ولا تصل النوبة إلى اُجرة المثل إلاّ إذا فرض بطلانها فتثبت اُجرة المثل ، كما في جميع موارد بطلان الإجارة على ما تقدّم(2) .
وكيف كان ، فلا ينبغي الارتياب في أنّ مفروض المسألة ما إذا لم يكن هناك استئجار ، بل كان الدفع بعنوان مجرّد الإذن ، وحينئذ فثبوت اُجرة
- (1) شرائع الإسلام : 2 / 188 .(2) في ص325 ـ 328.
(الصفحة 535)
المثل للعامل مع كون العادة فيه أن يستأجر لذلك العمل إنّما هو باعتبار كون العادة قرينة على عدم تحقّق العمل منه تبرّعاً ، بل بقصد العوض ، وحينئذ يرتفع الإشكال في ثبوت اُجرة المثل ; لأنّه بعدما كان العمل واقعاً بإذن صاحب السلعة وصادراً ممّن لم يقصد بعمله التبرّع بشهادة العادة فهو محترم لابدّ من أداء عوضه الواقعي ; لأنّ المفروض عدم تعيين اُجرة في مقابله ، فلا محيص عن اُجرة المثل . نعم ، مقتضى إطلاق العبارة عدم الفرق بين أن يكون العمل عائداً نفعه إليه ، كما إذا كانت السلعة مملوكة له والعمل يؤثّر فيها أثراً مثل الغسل والقصارة ، وبين أن لم يكن كذلك ، كما إذا أمره بخياطة ثوب الغير أو دفعه إليه مع رضا الغير بذلك ، فإنّ الاُجرة ثابتة على الآمر أو الدافع ; لأنّه الذي استوفى عمل العامل وإن رجع نفعه إلى صاحب الثوب .
نعم ، ربّما يناقش في أصل الضمان في المسألة بأنّ سبب الضمان ـ كما قلنا ـ إمّا العقد الصحيح أو اليد أو الإتلاف أو التغرير الذي تدلّ عليه قاعدة الغرور ، وشيء منها غير موجود في المقام ، أمّا العقد فالمفروض عدم تحقّقه واليد غير معقول في باب الأعمال إلاّ في أعمال العبد ، والإتلاف لا يكاد يكون مستنداً إلى الدافع والآمر لأنّ المباشر أقوى ، والتغرير أيضاً لا يجري في المقام خصوصاً مع العلم بالفساد ، وليس هنا سبب آخر مقتض لثبوت الضمان .
ولكن الذي يدفع المناقشة أنّ ما دلّ على احترام عمل المسلم ـ إذا لم يتحقّق بقصد التبرّع بضميمة كونه صادراً بإذن صاحب السلعة وأمره ـ يكفي في إثبات الضمان وثبوت الاُجرة على عهدة صاحب السلعة ،
(الصفحة 536)
ويؤيّده جريان سيرة المتشرّعة وقيامها على مثله ، ولا حاجة إلى تجشّم دعوى صدق الإتلاف على الاستيفاء ، كما لايخفى .
هذا فيما إذا كانت له عادة ، وأمّا إذا لم يكن ممّن عادته أن يستأجر لذلك ولكن العمل كان له اُجرة في العادة ، فبحسب مقام الثبوت لا خفاء في ثبوت اُجرة المثل له إذا لم يكن متبرّعاً في إيجاده ، لعين ما تقدّم من الدليل على استحقاق اُجرة المثل . وأمّا بحسب مقام الإثبات فحيث لا يكون هناك عادة منه على أخذ الاُجرة عليه ربّما يمكن أن يتوهّم بأنّه لا دليل على قصد العوض الموجب لثبوت اُجرة المثل ، ولكن الذي يدفع التوهّم أنّه لابدّ في مثل ذلك الرجوع إلى العامل ; لأنّه لا يعرف إلاّ من قبله وهو أبصر بنيّته وأعلم بقصده ، فإذا ادّعى عدم نيّة التبرّع يكفي ذلك إثباتاً للاستحقاق وثبوت اُجرة المثل .
وأمّا ما أفاده صاحب الشرائع من عدم الالتفات إلى دعوى مدّعي الاُجرة فيما إذا لم يكن العمل ممّا له اُجرة بالعادة فليس المراد منه عدم الالتفات ; لعدم اتّصاف العمل بالمالية حتّى يكون ذلك من باب السالبة بانتفاء الموضوع ، بل الظاهر أنّ المفروض ماليّة العمل من حيث هو ، ولكن لم يتحقّق فيه عادة على أخذ الاُجرة عليه ، وذلك كحفظ متاع الغير ، فإنّه وإن كان متّصفاً بالمالية ولذا يجوز الاستئجار عليه ـ كما في مورد الرواية الصحيحة المتقدّمة في مسألة عدم ضمان صاحب الحمّامـ إلاّ أنّه لم يعهد نوعاً أخذ الاُجرة عليه ولم تتحقّق عادة على ذلك ، بل كانت العادة جارية على إيجاده مجّاناً بعنوان الوديعة وبقصد الإحسان ، وعليه فالعمل المفروض له مالية ذاتاً ، والعادة جارية على عدم أخذ الاُجرة في مقابله .