(الصفحة 588)
المراد من الحكم إلاّ ما اعتبره الشارع من مجعولاته التكليفية والوضعية، من دون فرق بين أن يكون وجودياً أو عدمياً. نعم، قد ينتزع من الحكم الوجودي بعض الأحكام العدمية، كما أنّه قد ينتزع من الحكم بالوجوب عدم الحرمة، وكذلك نظائره، ولكنّه ليس بحكم لعدم اعتبار الشارع له، كما هو ظاهر .
وقد يقال في تفسير المخالفة كما قاله الشيخ الأعظم العلاّمة الأنصاري (قدس سره): بأنّ المراد بحكم الكتاب والسنّة الذي يعتبر عدم مخالفة المشروط أو نفس الاشتراط له هو ما ثبت على وجه لا يقبل تغيّره بالشرط لأجل تغيّر موضوعه بسبب الاشتراط ، وقال في توضيح ذلك: إنّ حكم الموضوع قد يثبت له من حيث نفسه ومجرّداً عن ملاحظة عنوان آخر طارئ عليه، ولازم ذلك عدم التنافي بين ثبوت هذا الحكم، وبين ثبوت حكم آخر له إذا فرض عروض عنوان آخر لذلك الموضوع، ومثال ذلك أغلب المباحات والمستحبّات والمكروهات بل جميعها، حيث إنّ تجويز الفعل والترك إنّما هو من حيث ذات الفعل، فلا ينافي طروّ عنوان يوجب المنع عن الفعل أو الترك كأكل اللحم، فإنّ الشرع قد دلَّ على إباحته في نفسه، بحيث لا ينافي عروض التحريم له إذا حلف على تركه أو أمر الوالد بتركه ، أو عروض الوجوب له إذا صار مقدّمة لواجب أو نذر فعله مع انعقاده ، وقد يثبت له لا مع تجرّده عن ملاحظة العناوين الخارجة الطارئة عليه، ولازم ذلك حصول التنافي بين ثبوت هذا الحكم، وبين ثبوت حكم آخر له. وهذا نظير أغلب المحرّمات والواجبات، فإنّ الحكم بالمنع عن الفعل أو الترك مطلق لا مقيّد بحيثيّة تجرّد الموضوع إلاّ عن بعض العناوين كالضرر والحرج، فإذا فرض ورود حكم آخر من غير جهة الحرج والضرر، فلابدّ من وقوع التعارض بين دليلي الحكمين، فيعمل بالراجح بنفسه
(الصفحة 589)
أو بالخارج .
ثمّ قال : الشرط إذا ورد على ما كان من قبيل الأوّل لم يكن الالتزام بذلك مخالفاً للكتاب، إذ المفروض أنّه لا تنافي بين حكم ذلك الشيء في الكتاب والسنّة، وبين دليل الالتزام بالشرط ووجوب الوفاء به ، وإذا ورد على ما كان من قبيل الثاني كان التزامه مخالفاً للكتاب والسنّة(1)، انتهى موضع الحاجة من كلامه زيد في علوّ درجاته ومقامه .
وقد انقدح أنّه بمقتضى هذا التفسير يكون اشتراط عدم الضمان في المقام من الشروط غير المخالفة للكتاب والسنّة; لأنّ مقتضى أدلّة عدم ضمان الأمين عدم ضمانه في نفسه من غير إقدام عليه، فلا ينافي إقدامه على الضمان من أوّل الأمر، ولذا استشكل هو (قدس سره) فيما بعد هذا الكلام في الفرق بين الإجارة والعارية، نظراً إلى قيام الشهرة على العدم في الاُولى والاتفاق على الجواز في الثانية(2).
وكيف كان، فاللاّزم بناءً على ذلك نفوذ اشتراط الضمان في المقام، ولكن قد اُورد على هذا المبنى بعض الإيرادات :
منها : أنّ عروض العنوان المغيّر للحكم في باب المباحات والمستحبّات والمكروهات لايقتضي أن يكون الموضوع للحكم الثاني الطارئ هو ما كان موضوعاً للحكم الأوّل، بل الموضوع للحكم الثاني هو عنوان آخر يغاير العنوان المأخوذ في موضوع الحكم الأوّل من جهة المفهوم ، مثلاً إذا كانت صلاة الليل موضوعة للحكم بالاستحباب بعنوانها، فلا تصير هذه موضوعة للوجوب إذا
- (1) كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري: 6 / 26 ـ 27.(2) كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري: 6 / 30.
(الصفحة 590)
تعلّق النذر بها، بل الموضوع للوجوب حينئذ إنّما هو الوفاء بالنذر بعنوانه، من دون أن يسري الوجوب من موضوعه إلى عنوان آخر، بل هو مستحيل كما حقّق في محلّه .
وعليه فكما أنّ عروض عنوان آخر في باب المحرّمات والواجبات لا يقتضي خروج الموضوع بعنوانه الأوّلي عن الحكم المتعلّق به ، فكذلك عروضه في باب غيرهما، فصلاة الليل مستحبة مطلقاً تعلّق بها النذر أم لا . غاية الأمر أنّه مع تعلّق النذر يتعلّق التكليف بوجوب الوفاء به على عهدته، فلم يكن فرق بين الأحكام من هذه الجهة أصلاً، كما لا يخفى .
ومنها : أنّ معنى الإطلاق ـ كما قد حقّق في الاُصول ـ لا يكون راجعاً إلى ملاحظة المتكلّم جميع القيود والمشخّصات التي يمكن أن تتّحد في الخارج مع الماهية المطلقة، بل معناه يرجع إلى ملاحظة ذات المطلق موضوعاً للحكم من غير لحاظ شيء آخر معه، ومرجع ذلك إلى أنّ تمام الموضوع لهذا الحكم هو هذا العنوان المأخوذ في الموضوع، ولا دخالة لشيء آخر في ذلك أصلاً، ولذا اشتهر بين المحقّقين من الاُصوليّين أنّ الإطلاق عبارة عن رفض القيود لا جمعها، وعليه فلا يبقى فرق بين أدلّة مثل المباحات وأدلّة الواجبات والمحرّمات أصلاً، بمعنى أنّه كما أنّ دليل وجوب الصلاة مثلاً مطلق، ومرجعه إلى أنّ الموضوع للوجوب إنّما هي نفس الصلاة من غير دخالة شيء آخر فيه، كذلك الموضوع لاستحباب صلاة الليل مثلاً إنّما هي نفس صلاة الليل من دون مدخلية شيء آخر، فالفرق بين الأدلّة من الجهة المذكورة ممّا لا يرجع إلى محصّل، وإن نفى (قدس سره) الإشكال عنه، والتحقيق موكول إلى محلّه .
السابع : ما اشار إليه في الجواهر أيضاً من قصور عموم دليل الشرط لمثل المقام
- (1) جواهر الكلام: 27 / 217.
(الصفحة 591)
ممّا تكون شرط النتيجة(1) ، والوجه في القصور إمّا دعوى انصراف العموم إلى شرط الفعل وعدم شموله لشرط النتيجة وإن كان هو أيضاً شرطاً ، وإمّا ما ذكره بعض الأعلام من المعاصرين في شرحه على العروة من بطلان شرط النتيجة; لأنّ النتائج لا تقبل أن تكون مضافة إلى مالك فلا تكون شرطاً; إذ التحقيق أنّ الشرط مملوك للمشروط له، فإذا امتنع أن تكون مملوكة امتنع أن تشترط ملكيّتها. نعم، إذا كانت في العهدة جاز أن تكون مملوكة; لكنّها حينئذ تخرج عن كونها شرط نتيجة، بل تكون من قبيل شرط الفعل، وليس هو محلّ الكلام ـ إلى أن قال : ـ هذا، مضافاً إلى أنّ مفاد صيغة الشرط مجرّد جعل التمليك بين المشروط له والشرط لا جعل الشرط المملوك، فإنّ الصيغة لا تتكفّله، فإذا لم يكن مجعولاً لم يكن ثابتاً، فلا يكون شرط النتيجة موجباً لتحقّق النتيجة، ولا يصحّ حينئذ ترتيب الأثر عليها، وليس المراد من بطلان شرط النتيجة إلاّ هذا المعنى; أعني عدم ترتّب النتيجة عليه .
ثمّ قال : إنّ الإشكالين المذكورين في شرط النتيجة إنّما يمنعان عنه إذا كان مفاد الشرط في العقد تمليك الشرط للمشروط له كما هو الظاهر، ويقتضيه مناسبته بباب شرط الفعل وباب الإقرار ونحوهما . أمّا لو كان مفاده مجرّد الالتزام للمشروط له بالشرط فمرجعه إلى إنشاء شرط النتيجة في ضمن العقد، ولا بأس به عملاً بعموم نفوذ الشرط إلاّ إذا كان مفهومه لا ينشأ إلاّ بسبب خاصّ، فإنّ عموم الشرط حينئذ لا يصلح لتشريع صحّة إنشائه بدون ذلك السبب; لأنّه يكون مخالفاً للكتاب فيدخل في الشرط الباطل(1) .
- (1) مستمسك العروة الوثقى: 12 / 71 ـ 72.
(الصفحة 592)
أقول : إن كان الوجه في القصور هو دعوى انصراف العموم عن مثل المقام فيرد عليه منع ذلك; لعدم ثبوت الشاهد على هذه الدعوى بعد انسباق العموم من دليل الشرط .
وإن كان الوجه فيه عدم انطباق عنوان الشرط على شرط النتيجة لما أفاده البعض المذكور من أنّ الشرط ما كان مملوكاً للمشروط له، والنتائج لا تقبل أن تكون مضافة إلى مالك فلا تكون شرطاً، فيرد عليه أيضاً المنع من عدم كون شرط النتيجة شرطاً، فإنّه قد اشتهر بينهم تقسيم الشرط إلى قسمين : شرط الفعل وشرط النتيجة، ومن المعلوم ظهور ذلك في كون المقسم حقيقة في القسمين، فلابدّ أن يكون المراد بالشرط أمراً متحقّقاً في شرط النتيجة أيضاً، وليس ذلك إلاّ مجرّد الالتزام بثبوت المشروط أعمّ من أن يكون فعلاً أو نتيجة .
نعم، يمكن أن يقال بالفرق بين شرط النتيجة، وبين نذرها بأنّ دليل الشرط يعمّ شرط النتيجة; لأنّ شموله يدور مدار عنوان الشرط ، وأمّا نذر النتيجة فدليله أيضاً وإن كان عاماً إلاّ أنّ صيغة النذر ظاهرة في ثبوت المنذور على عهدة الناذر، وملكيّته تعالى ذلك على عهدته كما هو الظاهر من كلمتي «عليّ، واللاّم». ومن الواضح أنّ الثابت على العهدة إنّما هو الفعل الصادر عن اختيار وإرادة، وأمّا النتائج فلا يعقل أن تكون ثابتة على العهدة لعدم ارتباطها بالناذر .
وكيف كان، فلا وجه لتخصيص عنوان الشرط بخصوص شرط الفعل بعد كونه على قسمين .
هذا، مضافاً إلى إمكان منع الصغرى في المقام والقول بعدم كون اشتراط الضمان من شرط النتيجة; لأنّ القدر المتيقن من شرط النتيجة ما إذا كانت النتيجة مورداً للشرط، من دون أن تكون مقدّمة للفعل الذي هو باختيار المشروط عليه، كما إذا