(الصفحة 611)
وركبه إلى النيل وإلى بغداد فضمن قيمة البغل وسقط الكراء ، فلمّا ردّ البغل سليماً وقبضته لم يلزمه الكراء .
قال: فخرجنا من عنده وجعل صاحب البغل يسترجع فرحمته ممّا أفتى به أبو حنيفة، فأعطيته شيئاً وتحلّلت منه ، وحججت تلك السنة فأخبرت أبا عبدالله (عليه السلام)بما أفتى به أبو حنيفة ، فقال : في مثل هذا القضاء وشبهه تحبس السماء ماءها ، وتمنع الأرض بركتها ، قال : فقلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : فما ترى أنت ؟ فقال : أرى له عليك مثل كراء بغل ذاهباً من الكوفة إلى النيل ، ومثل كراء بغل راكباً من النيل إلى بغداد ، ومثل كراء بغل من بغداد إلى الكوفة توفّيه إيّاه ، قال : فقلت : جعلت فداك قد علّفته بدراهم فلي عليه علفه ؟ فقال : لا ، لأنّك غاصب ، قال : فقلت له : أرأيت لو عطب البغل ونفق أليس كان يلزمني ؟ قال : نعم قيمة بغل يوم خالفته ، قلت : فإن أصاب البغل كسر أو دبر أو غمز ؟ فقال : عليك قيمة ما بين الصحّة والعيب يوم تردّه عليه .
فقلت : من يعرف ذلك ؟ قال : أنت وهو ، إمّا أن يحلف هو على القيمة فيلزمك ، فإن ردّ اليمين عليك فحلفت على القيمة لزمه ذلك ، أو يأتي صاحب البغل بشهود يشهدون أنّ قيمة البغل حين اكترى كذا وكذا فيلزمك ، قلت : إنّي كنت أعطيته دراهم ورضي بها وحلّلني ، فقال : إنّما رضي بها وحلّك حين قضى عليه أبو حنيفة بالجور والظلم ، ولكن ارجع إليه فأخبره بما أفتيتك به ، فإن جعلك في حلّ بعد معرفته فلا شيء عليك بعد ذلك ، قال أبو ولاّد : فلمّا انصرفت من وجهي ذلك لقيت المكاري فأخبرته بما أفتاني به أبو عبدالله (عليه السلام) ، وقلت له : قل ما شئت حتّى أعطيكه ، فقال : قد حبّبت إليّ جعفر بن محمّد ، ووقع في قلبي له التفضيل وأنت في
(الصفحة 612)
حلّ ، وإن أحببت أن أردّ عليك الذي أخذت منك فعلت(1) .
وقد استدلّ بهذه الصحيحة تارةً على اعتبار أعلى القيم من يوم العدوان إلى يوم التلف ، كما هو المحكي عن الشهيد الثاني (قدس سره) في الروضة(2) ، واُخرى على اعتبار خصوص يوم الغصب كما عليه أكثر المستدلّين بالحديث(3) .
وتقريب الاستدلال بها على الثاني على ما أفاده الشيخ الأعظم الأنصاري (قدس سره) ، أنّه يدلّ على اعتبار يوم الغصب فقرتان :
الاُولى : قوله (عليه السلام) : «نعم ، قيمة بغل يوم خالفته» إلى ما بعد ، قال : فإنّ الظاهر أنّ اليوم قيد للقيمة ، إمّا بإضافة القيمة المضافة إلى البغل إليه ثانياً ; يعني قيمة يوم المخالفة للبغل ، فيكون إسقاط حرف التعريف من البغل للإضافة ، لا لأنّ ذا القيمة بغل غير معيّن حتّى توهم الرواية مذهب من جعل القيمي مضموناً بالمثل ، والقيمة إنّما هي قيمة المثل ، وإمّا بجعل اليوم قيداً للاختصاص الحاصل من إضافة القيمة إلى البغل .
وأمّا ما احتمله جماعة(4) من تعلّق الظرف بقوله (عليه السلام) : «نعم» القائم مقام قوله (عليه السلام) : «يلزمك» ـ يعني يلزمك يوم المخالفة قيمة بغل ـ فبعيد جدّاً . بل غير ممكن ; لأنّ السائل إنّما سأل عمّا يلزمه بعد التلف بسبب المخالفة بعد العلم بكون زمان المخالفة زمان حدوث الضمان ، كما يدلّ عليه : «أرأيت لو
- (1) الكافي : 5 / 290 ح6 ، التهذيب : 7 / 215 ح943 ، الاستبصار : 3 / 134 ح483 ، وسائل الشيعة : 19/119 ، كتاب الإجارة ب17 ح1 .(2) الروضة البهية : 7 / 43 ـ 44 .(3) راجع رياض المسائل: 6 / 42 ومفتاح الكرامة: 7 / 254.(4) كالسيّد العاملي في مفتاح الكرامة : 6 / 244 ، والمحقّق النراقي في مستند الشيعة : 14/290 ، والشيخ النجفي في جواهر الكلام : 37 / 101 ـ 102 .
(الصفحة 613)
عطب البغل أو نفق أليس كان يلزمني ؟» فقوله : «نعم» يعني يلزمك بعد التلف بسبب المخالفة قيمة بغل يوم خالفته ، وقد أطنب بعض في جعل الفقرة ظاهرة في تعلّق الظرف بلزوم القيمة عليه(1) ، ولم يأت بشيء يساعده التركيب اللغوي ولا المتفاهم العرفي .
الثانية : قوله (عليه السلام) : «أو يأتي صاحب البغل بشهود يشهدون أنّ قيمة البغل يوم اكترى كذا وكذا» فإنّ إثبات قيمة يوم الاكتراء من حيث هو يوم الاكتراء لاجدوى فيه ; لعدم الاعتبار به ، فلابدّ أن يكون الغرض منه إثبات قيمة يوم المخالفة، بناءً على أنّه يوم الاكتراء ; لأنّ الظاهر من صدر الرواية أنّه خالف المالك بمجرّد خروجه من الكوفة ، ومن المعلوم أنّ اكتراء البغل لمثل تلك المسافة القليلة إنّما يكون يوم الخروج ، أو في عصر اليوم السابق ، ومعلوم أيضاً عدم اختلاف القيمة في هذه المدّة القليلة(2) ، انتهى موضع الحاجة من كلامه رفع الله في الجنان مقامه .
والظاهر أنّ مراده (قدس سره) من التقريب الأوّل للاستشهاد بالفقرة الاُولى هو ترامي الإضافات وتتاليها ، لا إضافة القيمة تارةً إلى البغل ، واُخرى إلى يوم المخالفة حتّى يورد عليه بعدم جواز إضافة الشيء المضاف إلى شيء إلى آخر ثانياً ، كما اختاره بعض المحشّين(3) ، أو بامتناع ذلك واستحالته ، كما اختاره بعض آخر من محقّقيهم(4) ، والدليل على ما ذكرنا ما أفاده من أنّ إسقاط حرف التعريف من البغل إنّما هو لأجل الإضافة ، وذلك لأنّه على تقدير عدم كون البغل مضافاً إلى اليوم، وكونه مضافاً إليه
- (1) راجع جواهر الكلام : 37 / 102 .(2) كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري : 3 / 247 ـ 249 .(3) كالمامقاني في غاية الآمال : 314 .(4) كالآخوند في حاشيته على المكاسب : 41 ، والمحقّق الإصفهاني في حاشيته على المكاسب : 1/101 .
(الصفحة 614)
للقيمة فقط لا وجه لإسقاط حرف التعريف ، فإنّ ما يسقط حرف التعريف منه إنّما هو المضاف لا المضاف إليه ، وعليه فيكون المراد ترامي الإضافات وإضافة البغل إلى يوم المخالفة، كإضافة القيمة إلى البغل . ودعوى أنّ ذلك لا يقتضي اختصاص القيمة بيوم المخالفة ، مدفوعة بأنّ بغل يوم المخالفة لا معنى له إلاّ قيمته في ذلك اليوم . نعم ، ربّما يورد على ما أفاده من عدم إمكان تعلّق الظرف بقوله (عليه السلام) : «نعم» القائم مقام قوله (عليه السلام) : «يلزمك» بأنّه يحتمل أن يكون اعتقاد السائل أن يكون البغل في ضمانه حين دخل تحت يده جهلاً منه بأمانة المستأجر مطلقاً ، أو في خصوص الدابّة إذا لم يكن صاحبها معها حسبما هو المتعارف بين المكاريين ، وعليه فلا مانع من جعل «يوم» ظرفاً لقوله (عليه السلام) : «نعم» بل استظهر هذا واستقربه السيّد الطباطبائي (قدس سره)في حاشيته على متاجر الشيخ الأعظم (قدس سره)(1).
هذا ، والاستظهار ممنوع، بل لو كان قوله (عليه السلام) : «يوم خالفته» متّصلاً بقوله (عليه السلام) : «نعم» ولم يكن بينهما فصل لما كان الظاهر هو هذا المعنى، فإنّ مجرّد كون كلمة «نعم» قائمة مقام الفعل ومفيدة لمعناه لا يسوّغ إجراء أحكام الفعل عليها ، وتعلّق الظرف بنفسها مع قطع النظر عن إقامة الفعل مقامها ممّا لا ينبغي ، وهذا بخلاف تعلّق الظرف بالقيمة كما لايخفى . وبالجملة فالظاهردلالة هذه الفقرة على أنّ الاعتبار بيوم الغصب والمخالفة.
وأمّا الفقرة الثانية ، فربما يستشكل على تقريب الاستدلال بها لما ذكر ـ كما مرّ في كلام الشيخ (قدس سره) ـ بمنع كون الغرض من يوم الاكتراء إثبات قيمة يوم المخالفة نظراً إلى اتّحادهما ، وذلك لاحتمال ابتنائه على اتّحاد قيمة البغل من يوم الاكتراء إلى يوم الردّ ، كما هو الغالب بالنظر إلى
- (1) حاشية المكاسب للسيّد الطباطبائي اليزدي : 1 / 104 .
(الصفحة 615)
مجاري العادات على اتّحاد الأسعار وقيمة الأشياء في الأعصار المتقدّمة ، خصوصاً في مثل خمسة عشر يوماً كما هو المفروض في الرواية ، فيكون تخصيص يوم الاكتراء بالذكر من بين سائر الأيّام لتعذّر إقامة الشهود أو تعسّرها في غيره .
هذا ، ولكن هذا الاحتمال في غاية الضعف ، والظاهر ابتناؤه على اتّحاده مع يوم المخالفة ، والوجه في العدول عنه إليه إنّما هو التنبيه على سهولة إقامة الشهود على قيمته في زمان الاكتراء ، لكون البغل فيه غالباً بمشهد من الناس وجماعة المكارين ، بخلاف زمان المخالفة من حيث إنّه زمان المخالفة ، فتغيير التعبير إنّما هو لأجل ذلك لا لكون العبرة بزمان الاكتراء من حيث هو ، فالإنصاف تماميّة دلالة الرواية على أنّ الاعتبار بيوم المخالفة كما أفاده الشيخ (قدس سره) ، لكنّه بضميمة أمر آخر ; وهو أنّ المراد بيوم المخالفة الواقع في الرواية يوم حدوث المخالفة والعدوان ، فإنّه على تقدير أن يكون المراد به أعمّ من يوم الحدوث وأيّام البقاء ـ كما يحتمل فيه ; لأنّه يصدق على كلّ منهما أنّه يوم المخالفة ، ضرورة أنّ اليوم الثاني والثالث وهكذا يتّصف كلّ واحد منهما بأنّه يوم المخالفة ـ تكون الرواية دالّة على اعتبار أعلى القيم من يوم حدوث المخالفة إلى يوم التلف .
فإنّ الرواية على هذا التقدير تكون بصدد دفع توهّم أن يكون الاعتبار بالقيمة التي أدّاها صاحب البغل حين اشترائه له ، وبيان أنّ الاعتبار بقيمة العين وماليّتها في زمن كونها تحت استيلاء اليد العادية ، من غير دخالة للحدوث بما هو حدوث فيه ، فمقتضى الرواية حينئذ أنّ الاعتبار بقيمة البغل حين كونه مغصوباً وباختيار اليد العادية ، وعليه فيصدق على أعلى القيم في تلك المدّة أنّه قيمة العين في يوم المخالفة ويصدق على أدائها أداء قيمة العين في ذلك اليوم ، وهذا بخلاف ما لو لم يؤدّ أعلى القيم ، بل