(الصفحة 661)
المالك في إنكارها؟ والمحكي عن المفيد في المقنعة(1) والسيّد(2) بل المنسوب إلى المشهور(3) بين القدماءهوالتكليف بالبيّنة، وجلّ المتأخّرين(4)بل كلّهم، بل المحصّلون من القدماء أيضاً ذهبوا إلى ترجيح قول هؤلاء(5)، ومنشأ الاختلاف اختلاف الروايات الواردة في المسألة، ولابدّ من نقلها أوّلاً ثمّ بيان وجه الجمع بينها أو الترجيح لو لم يمكن الجمع، فنقول :
أمّا الروايات الدالّة على ترجيح قول المالك:
فمنها : صحيحة الحلبي أو حسنته، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال في الغسّال والصبّاغ: ما سرق منهم من شيء فلم يخرج منه على أمر بيّن أنّه قد سرق وكلّ قليل له أو كثير فإن فعل فليس عليه شيء، وإن لم يقم البيّنة وزعم أنّه قد ذهب الذي ادّعى عليه فقد ضمنه إن لم يكن له بيّنة على قوله(6). وفي التهذيب بعد قوله : أو كثير قوله : فهو ضامن، وهو الظاهر، ودلالة الرواية على الضمان والحاجة إلى البيّنة لا تقبل الخدشة بوجه.
ومنها : رواية أبي بصير، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : سألته عن قصّار دفعت إليه ثوباً فزعم أنّه سرق من بين متاعه؟ قال : فعليه أن يقيم البيّنة أنّه سُرق من بين متاعه وليس عليه شيء، فإن سُرق متاعه كلّه فليس عليه شيء(7).
ومنها : صحيحة اُخرى للحلبي أو حسنة له، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال :
- (1) المقنعة: 643.(2) الانتصار: 466.(3) مسالك الأفهام: 5 / 233.(4) كصاحب جامع المقاصد: 7 / 298 ومسالك الأفهام: 5 / 233 وجواهر الكلام: 27/342.(5) السرائر 2 / 470.(6) الكافي: 5 / 242 ح2، التهذيب: 7 / 218 ح952، وسائل الشيعة: 19 / 141، كتاب الإجارة ب29 ح2.(7) الكافي: 5 / 242 ح4، وسائل الشيعة: 19 / 142، كتاب الإجارة ب29 ح5.
(الصفحة 662)
سُئل عن رجل جمّال استكرى منه إبلاً، وبعث معه بزيت إلى أرض فزعم أنّ بعض زقاق الزيت انخرق فإهراق ما فيه؟ فقال : إن شاء أخذ الزيت، وقال : إنّه انخرق ولكنّه لا يصدَّق إلاّ ببيّنة عادلة(1).
ومنها : رواية ثالثة للحلبي، عن أبي عبدالله (عليه السلام) في حمّال يحمل معه الزيت فيقول : قد ذهب أو اُهرق أو قطع عليه الطريق، فإن جاء ببيّنة عادلة أنّه قطع عليه أو ذهب فليس عليه شيء، وإلاّ ضمن(2).
ومنها : جملة من النصوص الدالّة على ضمان القصّار والصانع معلّلاً في بعضها بالاحتياط في أموال الناس، وقد مرّ أنّ موردها صورة الشكّ في تحقّق التلف عند المستأجر على ما يدلّ عليه التعليل، وذيل رواية السكوني الدالّ على أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) كان لا يضمّن من الغرق والحرق والشيء الغالب(3).
وبالجملة: لا تنبغي الخدشة في دلالة مثل هذه الروايات على الضمان في فرض الشكّ، ولازمه إقامة البيّنة لإثبات التلف ورفع الضمان.
وأمّا الروايات الدالّة على تقديم قول المستأجر بيمينه، فمنها; وهو أصرح ما في الباب على ما قيل .
رواية بكر بن حبيب قال : قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : أعطيت جبّة إلى القصّار فذهبت بزعمه، قال: إن اتّهمته فاستحلفه، وإن لم تتّهمه فليس عليه شيء(4).
ومنها : خبره الآخر عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : لا يضمّن القصّار إلاّ ما
- (1) الكافي: 5 / 243 ح1، التهذيب: 7 / 217 ح950، وسائل الشيعة: 19 / 148، كتاب الإجارة ب30 ح1.(2) الفقيه: 3 / 161 ح707، وسائل الشيعة: 19 / 153، كتاب الإجارة ب30 ح16.(3) الكافي: 5 / 242 ح5، التهذيب: 7 / 219 ح956، الاستبصار: 3 / 131 ح471، وسائل الشيعة: 19 / 142، كتاب الإجارة ب29 ح6.(4) التهذيب: 7 / 221 ح966، وسائل الشيعة: 19 / 146، كتاب الإجارة ب29 ح16.
(الصفحة 663)
جنت يداه، وإن اتّهمته أحلفته(1).
ومنها : مصحّحة معاوية بن عمّار، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : سألته عن الصبّاغ والقصّار؟ فقال : ليس يضمنان(2).
هذا، والظاهر أنّ موردها صورة العلم بتحقّق التلف عندهما غير مستند إليهما، فلا ارتباط لها بالمقام.
ثمّ إنّ هنا رواية اُخرى استدلّ بها على كلّ من القولين; وهي رواية أبي بصير يعني المرادي ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : لا يضمن الصائغ ولا القصّار ولا الحائك إلاّ أن يكونوا متّهمين فيخوف (فيجيئون خ ل) بالبيّنة ويستحلف لعلّه يستخرج منه شيئاً، الحديث(3).
ووجه الاستدلال بها ما فيها من الجمع بين البيّنة والحلف، فإنّ البيّنة تدلّ على الضمان لولاها ، والحلف يدلّ على عدمه.
قال المحقّق الرشتي (قدس سره) بعد نقل الرواية : والحقّ أنّه بالإجمال والسقوط رأساً أجدر من الاستدلال به على شيء منهما، ثمّ قال : وإن كان دلالته على الضمان أقرب; لأنّ التخويف بالبيّنة، والحلف في فرض واحد لا معنى له، فلابدّ أن يكون الجمع بينهما بملاحظة فرضين من فروض المسألة، فإمّا أن يكون التخويف بالبيّنة في دعوى الإتلاف والاستحلاف في دعوى التلف أو العكس، والأوّل باطل بالإجماع فتعيّن الثاني وهو المدّعى، ثمّ قال : ويحتمل الحمل على التخويف الصوري، فلا يستفاد منه شيء من الميزان المعتبر الشرعي(4).
- (1) التهذيب: 7 / 221 ح967، وسائل الشيعة: 19 / 146، كتاب الإجارة ب29 ح17.(2) التهذيب:7/220 ح964، الاستبصار: 3/132 ح477، وسائل الشيعة: 19 / 145، كتاب الإجارة ب29ح14.(3) التهذيب: 7 / 218 ح951، وسائل الشيعة: 19 / 144، كتاب الإجارة ب29 ح11.(4) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي: 356.
(الصفحة 664)
هذا، وأمّا وجه الجمع بين هذه الروايات فالمستفاد من كلمات الأعلام في هذا المقام اُمور لا بأس بذكرها والنظر فيها :
منها : حمل الروايات الدالّة على الضمان على دعوى الإتلاف والأخذ بقاعدة الأمانة المؤيّدة بالروايات الخاصّة، اختار هذا الوجه صاحب الجواهر(1) تأييداً للمتأخّرين، ولكنّك خبير بأنّ مورد جلّها خصوص النزاع في التلف كالسرقة ونحوها، فما أفاده لا يرجع إلى الجمع بل إلى الطرح والترجيح.
ومنها : ما حكي عن الشيخ الأعظم الأنصاري (قدس سره) من الجمع بينهما بالتفصيل بين دعوى التلف ودعوى التفريط، فحمل ما يدلّ على الضمان على الثاني وما يدلّ على عدمه على الأوّل، وهذا منه مبنيّ على صراحة الأخبار المعلّلة بالاحتياط في خروج المقام عن قاعدة الأمانة، وبعد الخروج يرجع الأمر إلى قاعدة «البيّنة على المدّعي واليمين على المنكر». فيحمل ما دلّ على الحلف على ما إذا كان الصانع منكراً كما في دعوى التفريط، وما دلّ على البيّنة على ما لو كان مدّعياً كما في دعوى التلف، قال : وهذا الجمع وإن كان مخالفاً لجملة من هذه الأخبار إلاّ أنّه أقرب ما قيل أو يقال في الجمع بين هذه الأخبار(2).
ومنها : ما أفاده المحقّق الرشتي (قدس سره) من أنّ الأظهر ما عليه الأكثر من العمل بمقتضى قاعدة الأمانة; لأنّ الطائفة الاُولى يعني ما يدلّ على تقديم قول الأجير صريحة في ذلك وإن كانت واحدة; لكونها موافقة للقاعدة والشهرة، والثانية ليس شيء منها صريحاً في عدم الاقتصار على الحلف،
- (1) جواهر الكلام: 27 / 342 ـ 344.(2) حكى عنه المحقّق الرشتي في كتاب الإجارة: 357.
(الصفحة 665)
بل في أنّه مع عدم البيّنة يضمن الصانع عند التهمة أي الشكّ، فيقيّد إطلاقه بما إذا لم يحلف(1).
ومنها : ما أفاده المحقّق الإصفهاني (قدس سره) من وجود خصوصية في المقام موجبة لجواز كلا الأمرين: البيّنة والاستحلاف; لأنّ الأصل الذي أسّسه أمير المؤمنين (عليه السلام)من باب الاحتياط على أمتعة الناس ليس من باب تضمين الأجير لما يتلف في يده على خلاف قاعدة الأمانة بالمعنى الأعمّ، بل تأسيس أصل في باب دعوى التلف، وأنّ المتّهم يضمن لولا أحد الأمرين من إقامة البيّنة كما هو مقتضى الأصل الأوّلي، ومقتضى جملة من أخبار الباب أو الحلف كما هو مقتضى الأصل الثانوي، ومقتضى جملة اُخرى من أخبار الباب، قال :
ويمكن أن يقال : إنّ مقتضى الاحتياط على أمتعة الناس لخفّة مؤنة دعوى التلف صحّة مطالبة البيّنة من مدّعي التلف، كما أنّه يجوز الاقتصار على التحليف كما في غيره من موارد الأمانة، وإلاّ فتعيّن الحلف ليس احتياطاً على أمتعة الناس، كما أنّ جواز الاقتصار على الحلف لا ينافي جواز مطالبة البيّنة، كما أنّ التفضّل على الأجير المأمون بعدم تحليفه فضلاً عن مطالبة البيّنة منه لا ينافي جواز كلّ منهما. ثمّ أيّد ما أفاده برواية أبي بصير المتقدّمة المشتملة على الجمع بين الأمرين(2).
والأظهر عندي ما أفاده الشيخ الأنصاري (قدس سره). وفي بعض الروايات الدالّة على الضمان قرينة على كون موردها دعوى التفريط، كرواية السكوني المتقدّمة الدالّة على أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) لم يكن يضمّن من
- (1) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي: 357.(2) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 306.