(الصفحة 118)
ارتفاعها من جميع الجهات التي بها تختلف الرغبات والأغراض ، ولها دخل في القيمة قلّة وكثرة ، وبالجملة ذكر المدّة في هذا القسم ممّا لا محيص عنه .
وأمّا الإجارة على الأعمال ، فيظهر من جملة من الكلمات أنّه لايلزم فيها ذكر المدّة ، بل المحكي عن التحرير(1) أنّه أفاد في مقام بيان الضابط أنّ ما كان له عمل يجوز تقديره بالزمان وبالعمل على نحو التخيير ، وماليس له عمل كالدار والأرض ونحوه يختصّ تقديره بالزمان . وعليه فلا يلزم ذكر الزمان والمدّة في الإجارة على الأعمال ، مع أنّ مقتضى دليل النهي عن الغرر(2) ، الذي هو المستند لهم في مثل هذه الموارد عدم الفرق بين القسمين ، فإنّ مجرّد التقدير بالعمل كخياطة هذا الثوب لايرتفع به الجهالة ، ولايسدّ به باب الغرر ، بل لابدّ من ذكر الزمان والمدّة ، وأنّ ظرف الخياطة لابدّ أن لايتأخّر عن الزمان الفلاني من شهر أو شهرين مثلاً أو نحوهما ، ضرورة اختلاف الأغراض بذلك اختلافاً فاحشاً ، وتفاوت الرغبات باختلافه تفاوتاً كاملاً .
نعم ، يقع الكلام في أنّ لزوم ذكر المدّة هل هو في خصوص ما كان الغرض متعلّقاً به ، أم الأعمّ منه وممّا إذا لم يتعلّق غرض المستأجر إلاّ بنفس العمل ؟ والظاهر ابتناء هذه الجهة على أنّ الغرر المنهيّ عنه هل هو الغرر النوعي وإن لم يكن في شخص المقام غرر أصلاً ، أو الغرر الشخصي الذي ملاكه تحقّق الغرر في خصوص المعاملة الواقعة بينهما ؟ فعلى الأوّل لا يكفي مجرّد عدم تعلّق غرض مستأجر خاص بوقوع الفعل في الزمان الخاصّ ، بل يلزم ذكر المدّة مطلقاً ، وعلى الثاني يتوجه التفصيل بين
- (1) تحرير الأحكام : 3 / 85 .(2) تقدّم في ص22 .
(الصفحة 119)
الصورتين . هذا ، والظاهر من كلماتهم في نظائر المقام هو الأوّل ، وإن كان الثاني غير بعيد ، فتدبّر جيّداً .
المقام الثاني : في أنّه على تقدير اعتبار ذكر المدّة هل يشترط اتصالها بالعقد أم لابل يجوز أن تكون منفصلة؟ وفيه قولان: حكي الأوّل عن الشيخ (قدس سره)(1) وأبي الصلاح التقي الحلبيّ(2) ، والثاني عن المشهور(3) ، بل في محكي التذكرة الإجماع عليه(4) .
قال الشيخ في المبسوط : ومن شرط صحّة العقد أن تكون المنفعة متّصلة بالعقد ، ويشترط أنّها من حين العقد ، فإذا قال : «آجرتك هذه الدار شهراً» ولم يقل من هذا الوقت ، ولكنّه أطلق الشهر فانّه لايجوز . وكذلك إن آجره الدار في شهر مستقبل بعدما دخل ، فإنّه لايجوز ، فعلى هذا ، إذا قال في رجب : «آجرتك هذه الدار شهر رمضان» لم تصح الإجارة ، وعند قوم تصح ، وهو قويّ .
وقال في الخلاف : إذا قال : آجرتك هذه الدار شهراً ، ولم يقل من هذا الوقت وأطلق ، فإنّه لايجوز ، وكذلك إذا آجره الدار في شهر مستقبل بعدما دخل ، فإنّه لايجوز وبه قال الشافعي(5) ، وقال أبو حنيفة : إذا أطلق الشهر جاز ويرجع الإطلاق إلى الشهر الذي يلي العقد ويتعقّبه ، وإذا آجره شهراً مستقبلاً جاز ذلك(6) . دليلنا : إنّ عقد الإجارة حكم شرعي ، ولا يثبت إلاّ بدلالة شرعية ، وليس على
- (1) المبسوط : 3 / 230 ، الخلاف : 3 / 496 مسألة 13 .(2) الكافي في الفقه : 349 .(3) المهذّب : 1 / 476 ، السرائر : 2 / 458 و461 ، شرائع الإسلام : 2 / 183 ، إرشاد الأذهان : 1 / 422 ، مختلف الشيعة : 6/103 مسألة 2 ، وادّعى الشهرة في الحدائق الناضرة : 21 / 581 .(4) تذكرة الفقهاء : 2 / 297 .(5) راجع مغني المحتاج : 2 / 338 ، والمغني لابن قدامة : 6 / 6 .(6) راجع المبسوط للسرخسي : 15 / 131 ، والمغني لابن قدامة : 6 / 6 .
(الصفحة 120)
ثبوت ما قاله دليل ، فوجب أن لايكون صحيحاً(1) .
والذي يظهر من هاتين العبارتين أنّ الشرط في صحّة الإجارة هو الاتّصال ، فيخرج صورتان :
إحداهما : ما إذا صرّح بالانفصال ، كما في المثال المذكور في العبارة الأُولى .
وثانيتهما : ما إذا أطلق ولم يصرّح بواحد من الاتّصال والانفصال ، فإنّ هذه الصورة أيضاً فاقدة للشرط الذي هو عبارة عن اتصال المدّة ، وهذا بخلاف ما إذا كان الشرط عدم الانفصال ، بحيث كان مرجعه إلى مانعية الانفصال وقادحيته ، فإنّه على هذا التقدير لايكون فرض الإطلاق محكوماً بالبطلان .
ودعوى أنّ فرض الإطلاق محكوم بالبطلان لا من الجهة الراجعة إلى شرطية الاتصال ، بل من جهة لزوم الغرر ، أو من جهة عدم المعقولية ـ كما ربما يدعى ـ ممنوعة بأنّه لم يعرف وجه لعدم المعقولية ، فإنّه كما يمكن إجارة الدار شهراً متّصلاً بالعقد أو منفصلاً عنه ، كذلك يمكن إجارتها شهراً من سنة معيّنة بنحو الإطلاق ، أو شهراً من أشهر الشتاء أو الصيف مثلاً ، بحيث يكون المستأجر مخيّراً بين الشهور ، كما في جميع موارد ثبوت الإطلاق ، وأمّا الغرر فإنّما يلزم فيما إذا اختلفت الشهور من حيث المالية والغرض ، وأمّا مع عدم الاختلاف فلا يلزم غرر أصلاً ، وسيأتي البحث عنه إن شاء الله تعالى .
وكيف كان ، فالكلام في هذا المقام إنّما هو في اشتراط الاتصال في صحّة الإجارة وعدمه ، ونقول : ربما يقال : إنّه لايعقل اشتراط الاتصال لما في المختلف(2) من أنّ
- (1) الخلاف: 3 / 496 مسألة 13.(2) مختلف الشيعة: 6 / 104 مسألة 2، وكذا في مسالك الأفهام: 5 / 194 وجواهر الكلام: 27/ 273.
(الصفحة 121)
شرط الاتصال يقتضي عدمه ; لأنّ كلّ واحد من الأزمنة التي تشتمل عليها مدّة الإجارة معقود عليها ، وليس غير الجزء الأوّل متّصلاً بالعقد ، ومتى كان اتصال باقي الأجزاء غير شرط فكذا اتصال الجميع .
وقد دفع هذا القول بأنّ للزمان وحدة اتصالية ; لأنّه ليس بآنات متتالية ، وهذا المتصل الوحداني متصل بحال العقد .
وأورد على هذا الجواب المحقّق الرشتي (قدس سره)(1) بأنّه مع دقّة النظر وعدم الإحالة إلى العرف يلزم عند من يشترط الاتصال فساد تحديد المنفعة بالزمان مطلقاً ، متصلاً كان أو منفصلاً، وذلك لاستحالة الجزء الذي لايتجزّأ ، وعليه فلا يعقل الاتصال ولو بجزء من المدّة إلاّ على القول بالجزء الذي لايتجزّأ .
ولكنّه دفعه المحقّق الإصفهاني (قدس سره) : بأنّ القسمة الممكنة متناهية دون الأعمّ منها ومن الوهمية ، ولا شبهة في وقوع العقد في زمان خاصّ ، مع أنّ ذلك الزمان أيضاً قابل للقسمة ، فبناءً على هذا التوهّم يلزم وقوع العقد فيما لايتناهى ، وانطباق المتناهي على غير المتناهي محال ، فهذه المدّة المضروبة للمنفعة متصلة خارجاً بزمان العقد ، وإن كانت من حيث قبول المتصل الواحد للانقسامات غير متناهية ، فهي متناهية بالفعل غيرمتناهية بالقوّة فلم يلزم استحالة اتصال المدّة بحال العقد(2).
وأُورد عليه بأنّ القسمة التي بها تتقوّم الكمّيات هي القسمة الوهمية ، ضرورة أنّ ما يراد من القسمة هنا هي القسمة التي لاتتغيّر بها صورة المقسوم ، والقسمة الحقيقية توجب انعدام الصورة الاُولى ، وحصول صور متعدّدة حسب تعدّد
- (1) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي : 226 .(2) بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 161 .
(الصفحة 122)
الأقسام ، فالكمّ الذي أُخذ القسمة في تعريفه لا يُراد بالقسمة المأخوذة فيه إلاّ الوهمية منها ، والمفروض أنّها غير متناهية كما اعترف به (قدس سره) .
ويمكن الجواب عن هذا الإيراد بأنّه (قدس سره) لم يرد من القسمة المقابلة للوهمية القسمة التي توجب انعدام صورة المقسوم فعلاً ، بل المراد بها هي القسمة التي لو فرض تحقّقها في الخارج لكانت موجبة لذلك ، ولكنّها لم تتحقّق في الخارج ، ومن المعلوم تناهي هذه القسمة كما هو غير خفيّ .
إذا عرفت ماذكرنا فلنرجع إلى أصل المسألة ، ولنتكلّم في مقام الإثبات الذي هو العمدة فيها ، فنقول : إنّ ما قيل في وجه اعتبار اتصال المدّة بالعقد أُمور :
أحدها : ما استدلّ به الشيخ (قدس سره) في الخلاف في عبارته المتقدّمة : من أنّ عقد الإجارة حكم شرعيّ ، ولا يثبت إلاّ بدليل ، وليس على صحّة الانفصال دليل ، فوجب أن لايكون صحيحاً .
والجواب عنه أنّه يكفي في الدليل على الصحّة مع الانفصال عموم
{أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}(1) وشبهه من الأدلّة العامّة الدالّة على لزوم الوفاء بكلّ عقد ، ولم يرد دليل على اشتراط الاتصال في صحّة عقد الإجارة ، وبهذه العمومات الدالّة على اللزوم نستكشف الصحّة أيضاً ; للملازمة بين اللزوم والصحّة ، ودعوى أنّ العمومات تدلّ على اللزوم في العقود التي كانت صحيحة عند العقلاء ولم يعلم ذلك في المقام ، مدفوعة بأنّ تعارف عقد الإجارة مع انفصال المدّة ممّا لاينبغي الارتياب فيه ، كما يظهر بالمراجعة إلى الناس في إجاراتهم ، بل نقول : إنّ مجرّد التعارف عند العقلاء مع عدم ورود الدليل على شرطية الاتصال يكفي في الحكم بعدم اعتباره ، ولا حاجة