(الصفحة 289)
من إلغائهم الخصوصية عن الدليل الوارد في البيع ، ولكن دعوى عدم تحقّق القبض بالنسبة إلى المنفعة الباقية ممنوعة ، فتدبّر .
ثانيها : ما حكي عن بعض أجلّة السادة(1) من أنّ بطلان الإجارة في المقام مستند إلى تعذّر التسليم ، ضرورة أنّه مع عدم ثبوت هذا المقدار من المنفعة كيف يمكن تعلّق التسليم به على ماهو ظاهر .
ويرد عليه ـ مضافاً إلى أنّ لازم ذلك البطلان من رأس لا الانفساخ العارضـ : ما أورد عليه المحقّق الإصفهاني (قدس سره) من أنّ مقسم القدرة والعجز هو تسليم الملك ، وحيث لا ملك فلا موضوع للتسليم حتّى يوصف بالقدرة عليه تارةً وبالعجز عنه اُخرى(2) .
ثالثها : إنحلال الإجارة بحسب النوع والغالب إلى إجارات متعدّدة حسب تعدّد المطلوب ، فإنّ من يستأجر داراً مثلاً سنة لا يكون له مطلوب واحد وهو سكنى الدار في مجموع السنة ، بحيث لو نقص عنها شهر مثلاً لم يتحقّق المطلوب بوجه أصلاً ، وعليه فمرجع الانفساخ إلى بطلان الإجارة التي تعلّقت بالمدّة الباقية ، وصحّة الإجارة المتعلّقة بالمدّة الماضية ، وعلى هذا الوجه لا مجال للحكم بذلك إلاّ في موارد تعدّد المطلوب ، مضافاً إلى أنّ مقتضى ذلك هو البطلان من رأس .
رابعها : ما قيل من دلالة طائفة من النصوص عليه :
منها : صحيحة محمّد بن مسلم قال : سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول : إنّي كنت عند قاض من قضاة المدينة ، وأتاه رجلان فقال أحدهما : إنّي اكتريت من هذا دابّة
- (1) الحاكي هو المحقّق الإصفهاني في بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 175 .(2) بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 175 .
(الصفحة 290)
ليبلغني عنها من كذا وكذا إلى كذا وكذا بكذا وكذا ، فلم يبلغني الموضع ، فقال القاضي لصاحب الدابّة : بلغته إلى الموضع ؟ فقال : لا ، قد أعيت دابّتي فلم تبلغ ، فقال له القاضي : ليس لك كراء إذا لم تبلغه إلى الموضع الذي اكترى دابّتك إليه ، قال : فدعوتهما إليّ ، فقلت للذي اكترى : ليس لك يا عبد الله أن تذهب بكراء دابّة الرجل كلّه ، وقلت للآخر : يا عبد الله ليس لك أن تأخذ كراء دابّتك كلّه ، ولكن اُنظر قدر ما بقي من الموضع وقدر ما أركبته ، فاصطلحا عليه ففعلا(1) . ودلالتها على ثبوت التقسيط بالنسبة إلى الاُجرة المسمّـاة والكراء المعيّن ـ الذي هو لازم التفكيك من حيث الصحّة فيما مضى والبطلان فيما بقي ـ واضحة لا مجال للخدشة فيها ، إلاّ أنّه لا دلالة لها على خصوص الانفساخ الذي هو مذهب المشهور كما هو غير خفي ، وإن كان لا يترتّب على هذه الجهة ثمرة مهمة .
ومنها : رواية أبي شعيب المحاملي الرفاعي قال : سألت أبا عبدالله (عليه السلام)عن رجل قبل رجلاً حفر بئر عشر قامات بعشرة دراهم ، فحفر قامة ثمّ عجز ، فقال : له جزء من خمسة وخمسين جزءاً من العشرة دراهم(2) . وبطريق آخر عنه قال : سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن رجل قبل رجلاً أن يحفر له عشر قامات بعشرة دراهم، فحفر له قامة ثمّ عجز ، فقال : تقسّم عشرة على خمسة وخمسين جزءاً ، فما أصاب واحداً فهو للقامة الاُولى ، والإثنان للثانية ، والثلاثة للثالثة ، وعلى هذا الحساب إلى العشرة(3) .
ودلالتها أيضاً على تقسيط الاُجرة المسمّـاة ممّا لا خفاء فيه . غاية الأمر أنّها
- (1) الفقيه : 3 / 21 ح57 ، وسائل الشيعة : 19 / 115 ، كتاب الإجارة ب12 ح1 .(2) الكافي : 7 / 422 ح3 ، وسائل الشيعة : 19 / 159 ، كتاب الإجارة ب35 ح1 .(3) الكافي : 7 / 433 ح22 ، وسائل الشيعة : 19 / 159 ، كتاب الإجارة ب35 ح2 .
(الصفحة 291)
تدلّ على التقسيط بالنسبة ; لعدم تساوي أجزاء العمل ، ولكنّه ذكر المحقّق في الشرائع : أنّ هذه الرواية مهجورة(1) . وقال صاحب الجواهر (قدس سره) : إنّها مع عدم معرفة طريق الشيخ إلى سهل ، وجهالة الرفاعي غير أنّه من أصحاب الصادق (عليه السلام) ، لم يعمل بها أحد من الأصحاب إلاّ ما حكي عن ابن سعيد في الجامع(2) ، ومخالفته للضوابط من وجوه ، فوجب طرحها ـ إلى أن قال :ـ ويمكن حملها وإن بعد على ما إذا تناسبت القامات على وجه تكون نسبة القامة الاُولى إلى الثانية أنّها بقدر نصفها في المشقّة والاُجرة وهكذا ، ثمّ احتمل بعد ذلك التعدّي عن مورد الرواية إلى غيره(3) .
ومنها : بعض الروايات الواردة في موت الأجير النائب في الحجّ(4) ، ولكن الظاهر أنّه لا دلالة لشيء منها على الجهة المبحوث عنها في المقام ، بل هي واردة في مقام بيان صورة الإجزاء عن المنوب عنه وصورة عدمه ، أو مع بيان حكم مالو أفسد الأجير الحجّ وأنّه يلزم عليه الإعادة من ماله ، من دون تعرّض لحكم الاُجرة في صورة الموت قبل الإتمام ، فراجع .
وقد انقدح من جميع ما ذكرنا أنّ الحكم بالانفساخ كما هو المشهور ـ مضافاً إلى ثبوت الشبهة فيه من حيث الثبوت ـ لا دليل عليه في مقام الإثبات أيضاً ; لأنّ غاية مفاد الأدلّة تقسيط الاُجرة ، وهو لا ينافي الحكم بالبطلان في المدّة الباقية من رأس ، بل ليس مقتضى بعض الوجوه إلاّ هذا المعنى كما عرفت .
- (1) شرائع الإسلام : 2 / 185 .(2) الجامع للشرائع : 297 .(3) جواهر الكلام : 27 / 292 .(4) وسائل الشيعة : 11 / 185 ـ 186 ، كتاب الحج، أبواب النيابة في الحجّ ب15 .
(الصفحة 292)
الرابع : ما إذا تلفت العين المستأجرة بعد انتهاء مدّة الإجارة وقبل قبضها ، والذي حكاه المحقّق الإصفهاني (قدس سره) عن بعض أجلّة السادة(1) أنّه مورد الحكم بانفساخ الإجارة أيضاً ، ثمّ أورد عليه بأنّه إن اُريد أنّه بعنوان التلف قبل القبض فهو عجيب ; إذ لا مملوك للمستأجر بعد انتهاء مدّة الإجارة حتّى ينفسخ العقد ويعود إلى المؤجر ويعود ما بإزائه إلى المستأجر ، وإن اُريد رجوع ما مضى من المنفعة غير المقبوضة التي لم يعرضها التلف ولم يستوفها المستأجر فلا موجب له شرعاً ولا عقلاً ، ومجرّد عدم قبض المنفعة المملوكة لا يوجب الانفساخ ، فشرط الاندراج تحت عنوان التلف قبل القبض أمران : أحدهما : ثبوت منفعة مملوكة ، والآخر : عروض التلف ، ولا ملك بعد انتهاء المدّة وإن عرض التلف ، ولا تلف بالإضافة إلى مالم يقبضه وإن كان مملوكاً(2) .
أقول : إنّ تأخير القبض إلى انتهاء مدّة الإجارة تارة يكون مستنداً إلى المؤجر وامتناعه عن الإقباض ، واُخرى يكون مستنداً إلى المستأجر فيرجع إلى امتناعه عن التسلّم وإن كان المؤجر باذلاً للعين في كلّ حين . وهنا فرض ثالث ; وهو امتناع المؤجر بالفعل وامتناع المستأجر على تقدير بذل المؤجر . وفرض رابع ; وهو ما كان التأخير مستنداً إلى الظالم الغاصب مثلاً .
أمّا الفرض الأوّل، الذي كان التأخير ناشئاً عن امتناع المؤجر فالظاهر أنّه لامجال فيه للحكم بالانفساخ ; لعدم جريان قاعدة التلف قبل القبض هنا ; إمّا لأنّ جريانها في المقام يتوقّف على اتّصاف العين بكونها مستأجرة كاتّصافها بكونها
- (1) حكى عنه في بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 175 .(2) بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 175 ـ 176 .
(الصفحة 293)
مبيعة في باب البيع ، ومن الواضح عدم ثبوت هذا الوصف لها في حال التلف ; لخروجها عن كونها مستأجرة قبله كما هو المفروض ، وإمّا لما أفاده المحقّق المتقدّم من أنّ المنفعة بالإضافة إلى مالم يقبضه لم يعرض لها التلف ، فكيف يشمله دليل القاعدة .
وربما يورد على هذا الوجه بأنّه كما تفرض المنفعة المعدومة حال الإجارة موجودة معروضة للملكية ، كذلك لا مانع من فرض المنفعة المتحقّقة الماضية قبل التلف معدومة ، إذ كما يجوز فرض وجود المعدوم ، كذلك يجوز فرض عدم الموجود من دون فرق بينهما .
ولكنّ الظاهر أنّه لا موقع لهذا الإيراد ; إذ ليس الكلام في الإمكان والاستحالة ، بل في شمول دليل التلف وعدمه ، ولا مجال لدعوى الشمول . نعم ، يمكن الإيراد على الوجه الأوّل بأنّ قضية التعدّي عن البيع في الدليل الوارد فيه ليست إلاّ مقايسة المنفعة بالمبيع لا العين المستأجرة به ، ومن الواضح أنّ المنفعة المملوكة قد انقضت والتلف عارض بعد انتهاء المدّة ، فلا وجه لتوهّم الشمول ، بخلاف ما لو كان الموضوع هي العين المستأجرة ، فإنّه يمكن دعواه بناءً على كون المشتقّ حقيقة فيما انقضى عنه المبدأ أيضاً .
وكيف كان ، فالحكم في هذا الفرض بعد عدم جريان دليل التلف هو ثبوت الخيار من أجل امتناع المؤجر الذي هو بحكم التعذّر الموجب للخيار ، فتدبّر .
وأمّا الفرض الثاني ، الذي كان التأخير مسبّباً عن امتناع المستأجر من قبض العين فالحكم فيه كالفرض المتقدّم من عدم شمول دليل التلف ، بل عدم الشمول هنا ثابت بطريق أولى ، كما لا يخفى .
وأمّا من جهة ثبوت الخيار فالظاهر عدمه ، بل يثبت عليه الاُجرة المسمّـاة ،